العدد 333 -

السنة التاسعة والعشرون شوال 1435هـ – آب 2014م

«الفراغ السياسي في الموقف الدولي: عوامل سقوط أميركا» (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

«الفراغ السياسي في الموقف الدولي: عوامل سقوط أميركا» (2)

أسعد منصور

تكلمنا في موضوعنا “الفراغ السياسي في الموقف الدولي” عن احتمال سقوط أميركا عن موقع الدولة الأولى في العالم، وعدم قدرة الدول الكبرى الأخرى الموجودة حالياً على الساحة الدولية وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا، وكذلك الدول المحتملة أن تصير دولاً كبرى كألمانيا أو الصين أو اليابان على أن تملأ الفراغ فتصبح الدولة الأولى التي تتحكم في العالم، وذكرنا أسباب ذلك. وسنكمل، بعون الله، هذا الموضوع بذكر مواضيع أخرى تؤيد هذا البحث وتؤكد فكرته الأساسية: وهي أن دولة الخلافة هي البديل الحضاري المؤهل وحده أن يملأ هذا الفراغ السياسي الدولي؛ وبناء على ذلك سوف نتناول هنا: عوامل ضعف الدولة الأولى والتي تؤدي إلى سقوطها عن هذا المركز وزوالها عن التحكم في العالم.

     ومن عوامل سقوط أميركا عن مركز الدولة الأولى في العالم:

1- الانحدار الفكري:

 يعتبر هذا العامل من أخطر الأمور التي تؤدي إلى الجمود الفكري ومن ثم إلى الانحطاط الفكري والذي هو أهم عامل من عوامل السقوط والانهيار ومن ثم الزوال. فالانحطاط الفكري يحدث عادة بشكل تدريجي؛ حيث تظهر علاماته ابتداء من الانحدار الفكري فيؤدي ذلك إلى الجمود الفكري، ويكون ناتجاً عن العجز الفكري، أي عدم القدرة على إيجاد حلول ناجعة للأزمات والمشاكل من المبدأ الذي تعتنقه. فالدولة تبقى قوية بقوتها الفكرية وقدرة أبنائها المفكرين والسياسيين فيها على الإبداع الفكري وإيجاد الحلول الناجعة من المبدأ الذي يعتنقونه. وتبدأ بالسقوط كلما بدأت تسقط فكرياً وتعجز عن الإنتاج الفكري وإيجاد الحلول للمشاكل من المبدأ الذي تعتنقه. فأسباب الانحطاط الفكري تبدأ من الجمود الفكري والذي يبدأ بقحط الرجال من المجتهدين والمبدعين في الفكر أو انقراضهم، ومن إساءة تطبيق المبدأ الذي تقوم عليه الدولة والأمة لعوامل مختلفة، وكذلك قبول دخول أفكار وحلول من خارج المبدأ، ومن ثم البدء بعملية التوفيق بين أفكار المبدأ والأفكار الدخيلة، وكذلك التنازل عن أفكار المبدأ أو البدء بالتنازل عن تطبيق أفكار المبدأ وتطبيق الأفكار والحلول الدخيلة بذرائع مختلفة، ومن جراء سوء فهم المبدأ، أو ضعضعة الثقة بالمبدأ لعدم قدرته على معالجة المشاكل، فعندئذ تلجأ الدولة إلى تطبيق أفكار من خارج المبدأ أو مخالفة له. وفي هذه الحالة لا يحس أهل هذا المبدأ بالمرض الذي أصابهم، وأن دولتهم أصبحت على وشك السقوط بسبب أن الانحطاط الفكري قد أصابهم، فلو لم يكن كذلك لعالجوا أنفسهم. وعادة يدركون ذلك عند نشوء دولة أخرى مبدئية قد بدأت تتحداهم وتتحدى مبدأهم. فعندما تنشأ دولة أخرى على أساس مبدئي وتكون متمسكة بمبدئها، فإن الدولة التي حدث فيها الانحطاط الفكري إذا بقيت واقفة على قدميها فانها سرعان ما تسقط وتنهزم أمام هذه الدولة المبدئية الناشئة. فدولتا فارس والروم لم تحسا بالانحطاط الفكري الذي أصابهما، ولكن عندما نشأت الدولة الإسلامية على أساس مبدأ جديد وبدأت تتحدى هاتين الدولتين، فعندئذ أحستا بالخطر الداهم عليهما وسقطتا بسرعة أمام الدولة الإسلامية الناشئة. والدولة الاسلامية في نهاية عهد العثمانيين كذلك لم تدرك الواقع الذي آلت إليه، فلم تعالجه عندما أصابها الانحطاط الفكري، ولكنها رأت ذلك بعد أن رأت أن الدول الأوروبية التي كانت ترهبها لقرون قد أفاقت من سباتها وتفوقت عليها وبدأت تهددها. والاتحاد السوفياتي بدأ بالعد التنازلي يوم بدأ يتنازل عن مبدئه وهو في أوج قوته العسكرية إلى أن تخلى نهائياً عن مبدئه تقريباً بتأويلات مثل الانفتاح وإعادة البناء إلى أن سقط هو ومبدؤه، فلم يبقَ غير اسم المبدأ واسم الحزب القائم عليه في بعض البلدان. وأميركا الآن بدأت تتخلى عن مبدئها بشكل علني، فقد حملت مشعل الحرية والديمقراطية والقيم العليا وحقوق الإنسان واحترام حق الشعوب في التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، فداست على كل ذلك، فتكشف وجهها الحقيقي بأنها دولة استعمارية لا تختلف عن الدول الاستعمارية السابقة ولا تقل عنها وحشية وهمجية، وصارت تضيِّق على الحريات في الداخل والخارج، وتتجسس على الجميع، وتلاحق كل شخص وتجعله متهماً يهدد أمنها إذا لم يعلن ولاءه لها بشكل كامل، أويتعامل معها أو يعمل لحسابها، وكثير من الناس الذين تقبض عليهم بسبب اتهامها لهم بمعارضتهم لسياستها ولمشاريعها أو لمقاومتهم احتلالها واستعمارها ترمي بهم في معتقلات نائية لسنين طويلة من دون محاكمة وتعذبهم وتهينهم وتدوس كرامتهم ولو كانوا أسرى، فلا تعتبرهم أسرى عندما تأسرهم وهي في حرب معهم، ولا تحترم حقوقهم الإنسانية فتفرج عنهم أو تفاديهم. ووقفت وراء الأنظمة الاستبدادية ودعمت الانقلابات ضد الديمقراطية التي تدّعيها، فتعرّت أمام العالم مثلما فعلت في مصر فدعمت الانقلاب على الديمقراطية التي دعمتها برئاسة مرسي، وبررت ذلك بأن الجيش سيعيد الديمقراطية كما قال وزير خارجيتها جون كيري. وتدخلت بالقوة لإسقاط أنظمة معارضة لها وإقامة أنظمة شبيهة بالساقطة مؤيدة لها؛ فاحتلت العراق وأقامت فيه نظاماً لا يقل استبداداً عن سابقه، بل أكثر فساداً من سابقه، عدا عن قتلها للناس بلا رحمة وتعذيبها لهم وتدميرها للبلد والعمل على تمزيقه، فوضعت دستوراً من أجل تحقيق ذلك بإقامة نظام حكم يقوم على المحاصصة الطائفية والقومية، وهذا يناقض الديمقراطية التي تقول بحكم الشعب بدون إعطاء حق لطائفة أو قومية معينة على حساب أخرى، متناقضةً بذلك مع أفكارها الأساسية في مساواة المواطنين في الحقوق وعدم التمييز بينهم، وكاذبةً على أهل العراق من أنها ستخلصهم من استبداد وظلم النظام. وهكذا فعلت في أفغانستان بعدما احتلته، وكذلك فعلت في الصومال فأشاعت القتل والدمار في هذه البلاد، وكما فعلت في العديد من دول أميركا اللاتينية، وفي العديد من دول أفريقيا وآسيا. فلم تعرف الرحمة ولا الشفقة ولا حقوق الإنسان ولا الأخلاق، فراحت تقتل من تشاء، وتعذب وتسجن من تشاء، وتخطف من تشاء، وتدمر البيوت على رؤوس أصحابها وتثير الفوضى والاضطراب والقلاقل في المجتمعات لبسط نفوذها في البلاد. فهي تستعمل أخبث وأقذر الأساليب في سبيل بسط نفوذها وتحقيق هيمنتها واستعمارها. ودعمت كيان يهود في كل جرائمه، وحمته من كل مساءلة. والعالم كله يشاهد ما تفعله أميركا وهو كاره لكل ذلك، ولاعن لها ولعملها، ونازع ثقته منها ومن حلولها  التي تعمق المشاكل ولا تحلها، وتجعل المجتمعات تعيش في جحيم لتطلب رحمتها.

2- ضعف التماسك الداخلي:

 لقد بدأ الناس في أميركا يشعرون بثقل وجود طبقة ثرية ثراء فاحشاً في البلاد، وتستحوذ على أكثرية ثروات البلاد، وتتحكم بالبلاد والعباد، وتمسك بزمام الحكم عن طريق تداوله بينها. ولذلك خرجت مسيرات احتجاجية شعبية فريدة من نوعها في أميركا اتخذت شعاراً لافتاً للنظر «احتلوا وول ستريت» وأعلنت أن 1% من الناس هم الأثرياء، ويتمركزون في السوق المالية المعروفة في وول ستريت ويملكون 99% من ثروات البلاد؛ فقامت الدولة وقمعت هذه الاحتجاجات مع أنها كانت سلمية. وهذا يدل ذلك على أن هناك تململاً من الناس ودافعاً للثورة على النظام القائم، وكان من ميزة هذه الاحتجاجات أنها لم تقم من عنصر أو عرق معين من الناس يحتجون على معاملتهم كاحتجاج السود أو احتجاج الأميركيين اللاتين، وإنما كانت من الشعب بصفة عامة، أي بدون أن تحمل طابعاً عنصرياً أو عرقياً لفئة خاصة مهمشة في المجتمع. ولكن هؤلاء المحتجين لم يملكوا نظاماً بديلاً، لذلك بقوا في أماكنهم، والدولة لم تقدم جواباً شافياً على ادعاء المحتجين، ولم تحل المشكلة سوى بالوعود الكاذبة، بل عملت على إخمادها بقمعها ومحاصرتها واعتقال الناشطين فيها والتضييق على أماكن احتجاجهم، وهذا يدل على أن المشكلة ما زالت كامنة في المجتمع وستنفجر في يوم من الأيام، وستتطور عندما تجد فكراً بديلاً ويقودها مفكرون، أو تتجسد في تكتلات حزبية تعمل على التغيير. وتصرف الدولة القمعي تجاههم أثبت أن الدولة تدوس الحريات التي تتشدق بها عندما يمس أحد الزمرة الحاكمة والمتحكمة والمستأثرة بالسلطة والثروة، وهي طبقة الرأسماليين الأثرياء ثراء فاحشاً. فإدراك الناس لهذا الأمر جدير بأن يحفزهم على التفكير للتغيير الجذري وللتكتل، فقد بدأوا يحسون بالواقع الأليم، ويكتشفون سبباً من أسباب المشكلة وهي أن الذي يحكم أميركا ويتحكم في الشعب وفي قوت يومه هو هذه الطبقة، وأنه لا يوجد حريات حقيقية، فتعتبر هذه هي أول مرة في أميركا يبدأ الناس بإدراك الواقع الذي عليه بلادهم والتحرك لتغييره. ولكن ينقصهم الفكر البديل الصالح، وهذا يأتي فيما بعد، أي إن الفكر يأتي بعد الإحساس بالواقع السيئ وبضرورة تغييره، فكلما تردت الأحوال وساءت الأوضاع في كافة المجالات قوي الإحساس وازدادت الحاجة للفكر لإيجاد الحل؛ فإما أن يكتشفه الناس بواسطة مفكرين يبرزون من بينهم أو في أماكن أخرى فينتقل إليهم، وإما أن يروه مطبقاً في دولة أخرى  كالدولة الإسلامية التي ستقوم قريباً، إن شاء الله تعالى، وستطبق الأحكام الشرعية التي ستوجد التوازن الاقتصادي الذي يؤدي إلى توزيع الثروات بين أفراده وإزالة الثراء الفاحش على حساب الآخرين، ويحول دون تكدس الثروات في خزائن طبقة معينة ضئيلة تتداول أغلب المال بين أفرادها، بل سيعم الخير في كافة المجالات. فكلما تفاقمت المشاكل وتأزمت الأمور فان الانفجارات ستحدث في المجتمع. فالخطوة الأولى هي إحساس الناس بالواقع السيئ والتململ للعمل على تغييره، ومن ثم التفكير في تغييره ووجود مفكرين وأفراد يتكتلون ويتجسد فيهم الفكر، وبعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة وهي العمل على التغيير. فالعمل أو التحرك نحو التغيير من دون وجود فكر جديد أو بديل لا يوصل إلى الهدف بل تكون حركات انفعالية وعاطفية لا تنتج تغييراً. خاصة وأن العمل يجب أن يكون منظماً على أساس فكري واضح، أي وجود تكتلات لديها أفكار وبرامج للتغيير. مع العلم أن المجتمع الأميركي مكون من جماعات كانت تنتمي لشعوب عديدة من مختلف أصقاع الأرض، فيرى البعض منها أنها مهمَّشة داخل المجتمع، وأن فئات من المجتمع التي تنتمي لعرق معين هي التي تستحوذ على أغلب المناصب والمراكز والثروات، ومنها من لديه أحاسيس قومية، فعند تفاقم المشاكل سوف تقوى هذه الأحاسيس، ومن ثم تتجه نحو الدعوة للانفصال، مثلما حصل عام 1998م عندما قامت جماعات وطالبت باستقلال تكساس. والولايات الجنوبية لديها شعور كامن بالانفصال، وقد جرَّبته عام 1860م فاندلعت حرب أهلية لمدة خمس سنوات. وهكذا كلما تفاقمت المشاكل برز احتمال تفكك أميركا من الداخل. وخاصة أن الناحية القومية لم تعالج من قبل المبدأ الرأسمالي ولا يمكن لهذا المبدأ أن يعالجها، فعجز عن حلها فأقرَّ بها، وأوجد النظام الفدرالي كحل لها، أي الاستقلال الداخلي للأقاليم، والذي يحمل في أحشائه بذور الانفصال. فالنظام الفدرالي نظام هش فيه قابلية للانهيار ولتفكك الدولة. وقد حصل مثل ذلك في الاتحاد السوفياتي الفدرالي الذي كان دولة عظمى؛ وذلك عندما عصفت بالدولة أزمات فانهار الاتحاد وتفككت البلاد. وقد تفككت يوغسلافيا الفدرالية وتشكوسلوفاكيا أيضاً، وهناك العديد من الدول الأوروبية الفدرالية معرضة للتفكك بسبب هذا النظام، منها بريطانيا التي سقطت منها إيرلندا الجنوبية، وهي معرضة لأن تسقط منها الشمالية وكذلك أسكتلندا. فالنظام الفدرالي الذي تقوم عليه أميركا نظام هش ولا يصهر الشعوب في بوتقة واحدة، فاذا أثير الشعور القومي أو شعر الناس في الولايات بالظلم ووجود التمييز فسرعان ما تبدأ حركات الانفصال بالظهور. واذا عملت دولة خارجية في داخل الدولة الفدرالية فإن ذلك سيسرع في حركة الانفصال والتفكك. بجانب ذلك فإن المجتمع الأميركي من أفسد المجتمعات في العالم، فأميركا تسجل أعلى المعدلات عالمياً في كافة أنواع الجرائم من قتل واغتصاب، ومن سطو واعتداء وسرقة ممتلكات وتعاطي مخدرات، وكافة أنواع الرذيلة والشذوذ. فالناس في العالم لم يعودوا يعتبرون المجتمع الأميركي مثالياً أو مجتمعاً يحتذى به، بل أصبحوا يضربون المثل بسوئه وبما ينتشر فيه من مثل هذه الأعمال السيئة التي تسجل أعلى المعدلات عالمياً، وهو أبعد المجتمعات عن التسامح والتآخي والتحابب، بل تسوده الأنانية والجشع وحب جمع المال، وتفكك الأسر، وتسوده العنصرية والكراهية والأضغان والأحقاد وحب الانتقام والقتل. فالأمن والأمان مفقودان منه، فالكل يخاف على نفسه وعلى عرضه وعلى ماله وممتلكاته، فلا يأمن أحد أحداً؛ ولو كان جاره أو واحداً من أقاربه أو زملائه أو معارفه. وهي أكثر البلاد التي ترفع فيها دعاوى وقضايا لأتفه الأسباب، يرفعها بعضهم على بعض حيث لا يتفاهم الناس مع بعضهم البعض، سواء الأزواج أو الأقارب أو الجيران أو الشركاء أو غيرهم، فلا يعمدون لحل مشاكلهم مع بعضهم البعض ويتصالحون ويتسامحون، بل يلجؤون إلى المحاكم لمعاقبة الآخرين ولابتزازهم لتحصيل المال طمعاً بكسب القضية ولو لم يكن له الحق.

3- تضعضع الناحية الاقتصادية:

تنازلت أميركا عن مبدئها وتدخلت في السوق لإنقاذ الشركات والمؤسسات المالية والاقتصادية بشراء أسهمها المتعثرة أو الهالكة ابتداء من عام 2008م عند انفجار الأزمة المالية الأخيرة، وهي ما زالت مستمرة في هذه السياسة حيث قررت ضخ تريليونات من الدولارات حيث تضخ شهرياً 85 مليار دولار. مع العلم أن ذلك يخالف مبدئها الرأسمالي مخالفة أساسية حيث ينص هذا المبدأ على منع الدولة من التدخل في السوق ويوجب تطهير السوق من براثن السلطة، وأن السوق هو الذي يعالج نفسه بنفسه، وهي التي تنادي بتحرير السوق بالاقتصاد الحر. فمثلها كمثل الاتحاد السوفياتي الذي عمل على تطبيق الاشتراكية حتى يصل إلى الاشتراكية الشيوعية القائلة من كل حسب جهده ولكل حسب حاجته، فتراجع عنها فطبق اشتراكية من كل حسب جهده ولكل بنسبة عمله، ومن ثم تراجع أكثر فطبق اشتراكية وسائل الإنتاج فسمح للأفراد بالملكية الخاصة للأشياء غير الإنتاجية، ومن ثم تراجع أكثر وأكثر حيث سمح بإشراك بعض الأفراد في وسائل الإنتاج، واستمر في تراجعه وتنازله إلى أن سمح للمؤسسات المالية والاقتصادية الغربية الرأسمالية بالاستثمار في الاتحاد السوفياتي. وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي عندما بدأ يتنازل ويتراجع عن مبدئه، وبدأ بتأويله وتحريفه، وسمح بدخول الأفكار الرأسمالية. وأميركا خالفت مبدأها لأنها لم تستطع أن تلتزم به لأنه لا يعالج المشاكل؛ فتدخلت في السوق ووضعت عليه قيوداً وقوانين، وقامت وتدخلت لإنقاذ الشركات التي يجب أن تسقط حسب المبدأ الرأسمالي وتقوم غيرها محلها بصورة أقوى وأفضل، ومع ذلك لم تستطع أن تعالج هذه الأزمة وما زالت تضخ الأموال الطائلة لإنقاذ شركات أصحاب رؤوس الأموال الذين يحكمون البلاد وتحرم عامة الناس منها، والأزمة مستمرة وكان ضحاياها شظف وضنك من العيش للملايين الذين فقدوا بيوتهم وأعمالهم وبدأوا يقتاتون على المساعدات الاجتماعية، وقد ازدادت نسبة الفقر حيث أشارت إحصائياتهم التي نشرها مكتب التعداد السكاني بالولايات المتحدة في 7\11\2011م أن نسبة الفقر وصلت عام 2010م إلى 16%  أي 49 مليوناً. (صحيفة الرياض 8\11\2011م) في الوقت الذي أعلن عن ازدياد ثروات الأغنياء بنسبة 12% حيث أعلن عن إجمالي ثروات 400 شخص في أميركا تساوي 1,5 تريليون دولار (العربية 22\9\2011م). ولهذا قامت حركة وول ستريت التي رفعت شعار:  «1% من الناس الأثرياء يملكون 99% من ثروات البلاد». فقامت السلطات وقمعتهم بالقوة واعتقلت الكثير منهم ومنعتهم من التظاهر في كثير من الأماكن. وهذه الحركة تعد أول تململ بين الشعب الأميركي ضد النظام وتسعى لإسقاطه. ولم تستمر بسبب عدم وجود رؤية واضحة وحلول وأفكار بديلة أو مبدأ آخر كما ذكرنا منذ قليل. وبما أنها أخمدت بالقوة، وأن الأسباب التي انطلقت من أجلها هذه الحركة ما زالت قائمة، وأن الناس ما زالوا يعانون من الظلم وسوء الأحوال وضنك العيش؛ فإن هناك احتمالاً قوياً بأن تنفجر هذه الحركة مرة أخرى، أو تقوم حركة أقوى منها في المستقبل، كالبركان الذي يخمد لفترة ومن ثم ينفجر مرة أخرى. وخاصة إذا وجد مفكرون ينظّرون لها، أو إذا ملكت رؤية معينة وحلولاً بديلة، أو إذا رأت أفكاراً مبدئية جديدة تطبق في العالم. وخاصة إذا قامت دولة الخلافة وطبقت النظام الاقتصادي في الإسلام واستطاعت هذه الدولة أن تظهر للعالم نجاح هذا النظام وعكست صورته الناصعة بقوة على الرأي العام العالمي وخاصة الأميركي.

ومن جهة ثانية فإن المديونية الأميركية والعجز في الميزانية وصلت إلى حدود لا يمكن تصورها في دولة، حيث وصلت المديونية إلى أكثر من 16 تريليون دولار. وأقل من هذا المبلغ بكثير من شأنه أن يسقط الدولة. وسبب بقائها رغم ذلك كون الدولار عملة عالمية يتحكم في اقتصاد العالم، وسيطرتها على الأسواق المالية العالمية وعلى المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. فإذا تخلت دول العالم أو قسم هام منها عن التعامل بالدولار، فمن المحتمل أن يسبب ذلك انهياراً للاقتصاد الأميركي، وبالتالي إلى سقوط أميركا عن مركزها كونها الدولة الكبرى الأولى عالمياً. ومن جراء ذلك فإنه من المحتمل أن تسقط هذه المنظمات المالية العالمية فيختل التوازن الدولي. فاذا تخلت دول العالم عن التعامل بالدولار أو عن كونه عملة عالمية وكونه احتياطي لها، أو إذا رجعت إلى نظام الذهب والفضة، فإن الدولار سوف يسقط من كونه عملة عالمية تسيطر على العملات والأسواق وعملة تستخدم كاحتياط نقدي للدول؛ لأن دول العالم سوف تتعامل بالعملات المستندة إلى الذهب والفضة وتترك التعامل بالدولار كمجرد عملة وثيقة تعتمد على الثقة بأميركا أو على الهيمنة الأميركية على اقتصادات العالم وتتخلى عنه كاحتياطي نقدي. وإذا طالبت دول العالم بالديون التي لها على أميركا والتي هي على شكل سندات خزينة أميركية شبه مفلسة، فإن أميركا لن تستطيع أن تدفع هذه الديون، وبذلك ستصبح في مأزق كبير وتنعدم الثقة بها وتعلن إفلاسها، وقد أفلست أكثر من العشرات من مدنها والمئات من بنوكها والآلاف من شركاتها ومحلاتها التجارية والصناعية. ومديونيتها الهائلة كافية لإسقاطها عن مرتبة الدولة الكبرى الأولى عندما تتفاقم الأمور وتتحرك الدول لمحاسبتها واسترجاع أموالها. ففي 5\10\2013م عشية افتتاح قمة أيبك في جزيرة بالي بأندونيسيا أشار وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري إلى ذلك قائلاً : «إذا استمرت الأزمة المالية أو تكررت فقد يبدأ الناس يشككون بإدارة الولايات المتحدة بالحفاظ على مسارها وقدرتها على ذلك». وقبله في 3\10\2013م صرح جاكوب لي وزير الخزانة الأميركية قائلاً: «كما رأينا منذ عامين فإن استمرار الغموض بشأن قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية بشكل كامل وفي التوقيتات المحددة أضر باقتصادنا».

4- اهتزاز قوتها السياسية:

 القوة السياسية كثيراً ما تكون مرتبطة بقوتها الاقتصادية والعسكرية وقدرتها على استخدامها وقوة الثقة بها وبسياستها. فإذا ضعفت قوتها الاقتصادية والعسكرية ولم تقدر على استخدامها، وإذا فضحت سياستها ولم يعد الناس يثقون بصدقها وبمصداقيتها، وكشفوا  القناع عن وجهها الحقيقي فعرفوا كذبها وخداعها، ولم تستطع أن تنفذ خططها السياسية بسبب رفض الناس لها بسبب انفضاح أمرها فإن قوتها السياسية سوف تضعف حتماً ويهتز موقفها الدولي، ومن بعد ذلك تتجه نحو السقوط كما هو حاصل لها الآن.

فهي أي أميركا بسيطرتها على الاقتصاد العالمي ومنه سيطرة الدولار الذي لا يساوي ثمن الحبر الذي طبع به تمول آلتها الحربية التي ترهب العالم بها، فإذا فقدت سيطرتها على المؤسسات المالية العالمية وإذا سقط الدولار عندئذ لن تستطيع أن تمول آلتها الحربية وجيوشها وقواعدها التي تنتشر في العديد من بلدان العالم وأساطيلها التي تجوب المحيطات. فأهم عنصرين لفرض أميركا هيمنتها السياسية على العالم هما القوة العسكرية والقوة الاقتصادية، فهما العنصران اللذان يؤمّنان لها الهيمنة على الأمم المتحدة ومنظماتها وخاصة مجلس الأمن، وكذلك المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية. فعندما تفقد  هذه الهيمنة سوف تفقد قوتها السياسية بتأثيرها على دول العالم وبسيطرتها على الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن وعلى المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية، وخاصة أن سياستها أصبحت مكشوفة لدى الجميع، وكذلك بدأ الناس يدركون أساليبها التي تعتمد على الكذب والخداع وعلى إرهاب الناس أفراداً ودولاً وشعوباً ووضعهم في قفص الاتهام بمعلومات كاذبة وتقارير مزورة ومن ثم تبرير قتلهم أو سجنهم أو احتلال بلادهم، فهذا من شأنه أن يسقطها، فأصبح الناس لا يثقون بها، فبات سقوطها مسألة وقت. وإذا ما رأينا بدء علامات الجمود الفكري بسبب عدم قدرتها على معالجة الأزمات وتعمدها مخالفة مبدئها بسبب عقم حلوله، فهي تطبق نفس الحلول لهذه الأزمات منذ سنين طويلة فتتولد نفس النتائج فيتكرر حدوث هذه الأزمات بدون الوصول إلى حل جذري يمنع حدوثها. فضعف الثقة العالمية بها من شأنه أن يعجل بسقوطها، حيث باتت شعوب العالم تبغضها وتنفر منها وتراها متغطرسة ومتجبرة تدوس كرامة الإنسان وتحتجز الناس لسنين طويلة بتهم وبلا محاكمات، وتنتهك حرماتهم وكراماتهم وتسومهم سوء العذاب، وتتجسس على الجميع حلفاء وأعداء بلا تمييز، وتخالف القوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان والديمقراطية التي تدّعيها، ولا يهمها إن فعلت ذلك، فلا يهمها إلا مصالحها الآنية، فأصبحت متهمة بأنها وراء كل عمل سيئ وإجرامي في العالم، وأنها توقد الحروب وتحيك المؤمرات ضد دول العالم، وتشعل الحروب الداخلية وتثير الفوضى والاضطرابات في بلدان العالم، وتدبر الانقلابات العسكرية وتقف وراء الحكام الاستبداديين إلى حين سقوطهم، وتتحايل على الشعوب باستبدالهم باستبداديين آخرين، وصار ينظر إليها على أنها سبب الفقر والأزمات الاقتصادية في العالم، وهذا ما جعل شعوب العالم تدرك ذلك، وتعمل للتخلص من هيمنتها ومن شرورها، مما يبشر بسقوط أميركا عن كونها الدولة الأولى في العالم، وبتهيئة العالم لتقبل دولة أولى عالمية أخرى تقود العالم إلى الخير، وتحقق العدل وتنصف المظلوم وتعطي الحقوق لأصحابها وتؤمن الأمن والأمان والاستقرار وتنشر السلام والرخاء. ولا يوجد غير دولة الخلافة الراشدة القادمة بديلاً وقائداً صادقاً ليحقق للعالم كل ذلك.

فهناك علامات فشل في سياسة أميركا تشير إلى أن قوتها السياسية تتجه نحو الضعف ومن ثم إلى السقوط. ففي قضية الشرق الأوسط حتى الآن لم تستطع أن تنفذ مشروعها في إقامة الدولتين، وهي لو نفذته فشعوب المنطقة سترفضه  ولن يدوم، فقد استطاعت أن تنفذ خطتها المتعلقة بمصر بواسطة كامب ديفيد ولكن الشعب في مصر ما زال يرفض التطبيع مع كيان يهود وينتظر اليوم الذي يتخلص به من هذه الاتفاقية. وإن نفوذها لم يتركز بشكل نهائي، بل أصبح مهدداً، ودليل ذلك أن الشعوب بدأت تتحرك ضد الأنظمة التي تتبع نفوذها. وأهل العراق وأهل أفغانستان والصومال قاوموا احتلالها ووجهوا إليها ضربات موجعة لم تجعلها في موقع المنتصر بل أظهرتها في وضع المنهزم، فهذه علامات فشلها وسقوطها، فأصبحت تتوجس من خوض حرب أخرى. وباتت دولة مكروهة من قبل كافة شعوب العالم سواء في آسيا أو أفريقيا أو أميركا الجنوبية ودخلت في حرب مع عدة شعوب في هذه القارات، حتى إن الشعوب الأوروبية باتت تنفر منها ولم تعد تثق بها وبما تقول وتعتبرها أنها وراء المشاكل واندلاع الحروب في العالم، فبان كذبها بادعائها أنها تحمل مشعل الحرية لتحرير الشعوب، وانكشف زيف قيمها العليا التي كانت تتفاخر بها. وقد أعلنت الحرب على الأمة الإسلامية تحت مسمى محاربة الإرهاب، فأصبحت مكشوفة لدى أبناء الأمة الإسلامية الذين بدأوا يحاربونها، فمنهم من يحاربها بالسلاح فعلاً، ومنهم من يحاربها بالفكر وبالسياسة، وثارت شعوبها ضد عملائها وعملاء حلفائها الغربيين وضد الأنظمة التي أقاموها، ولا يستطيع أحد أن يقول أنا صديق لأميركا أو أن يدافع عن سياسة أميركا ولو كان عميلاً لها، والجميع يهاجمها. فالرأي العام ضدها، وقد أتت بأوباما لتحسن صورتها القبيحة، ولكن لم ينفعها لا أبيضها ولا أسودها. وهزيمتها في البلاد الإسلامية أصبحت على وشك التحقق، وهذه الهزيمة تمهد لسقوطها عالمياً، بل إذا سقطت من هذه البلاد لن تعود دولة أولى عالمياً وستزول. وقد رأينا ذلك عندما تلقت الضربات الموجعة في العراق وأفغانستان التي اعتبرها العالم كهزائم منيت بها، فتضعضع موقفها الدولي.

وجاءت الثورات المباركة في العالم الإسلامي وبدأت من البلاد العربية فجعلت أميركا تقلق على نفوذها في هذه البلاد وعلى مصيرها العالمي كدولة أولى في العالم، فقد صرح رئيسها أوباما مؤخراً في خطاب له أمام الجمعية العمومية يوم 24\9\2013م قائلاً:» إن التقلبات الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نموذج على التحديات التي تواجه العالم. ولذلك فإن على الأمم المتحدة أن تعالج الاضطرابات الداخلية ومنع الصراع الداخلي بدلاً من العمل فقط على منع الحروب بين الدول». وأضاف:» إن التقلبات الكبيرة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أظهرت الانقسامات العميقة داخل تلك المجتمعات، والشعوب تتسائل عما سيأتي لاحقاً». وقال: «إن الأزمة في سوريا وزعزعة استقرار المنطقة تطرح تحديات أوسع للمجتمع الدولي». وأقر بقوة الحركات الإسلامية قائلاً:» إن الولايات المتحدة وآخرين عملوا على دعم المعارضة المعتدلة، ولكن المجموعات المتطرفة استطاعت أن تنتشر لاستغلال الأزمة». فلولا حفنة من العملاء ممن تطلق عليهم معارضة معتدلة أوجدتهم بعد أن رأت أهل سوريا المسلمين على وشك الانتصار وإسقاط عميلها ونفوذها لما وجدت أميركا أحداً يتجاوب معها في تدخلها بالشأن السوري، وقد أعلن أوباما تنازل أميركا عن الديمقراطية في سبيل تحقيق مصالحها فقال: «إن دعم الديمقراطية ليس من المصالح الأساسية التي ستعمل على حمايتها». وهذا دليل آخر على الإفلاس الفكري لدى أميركا وأنها بدأت تنحط فكرياً عندما تخلت عن فكرها الديمقراطي في سبيل تحقيق مصالحها التي تتجلى بالحفاظ على نفوذها في سوريا وهيمنتها على المنطقة بصرف النظر عن المبدأ، فمثلها كالصليبيين الذين تنتمي إليهم، احتلوا بلاد الشام بادعاءات كاذبة لتحقيق مصالح لهم ولم يكن لديهم مبدأ، وارتكبوا المجازر وفعلوا كل منكر فهزموا أمام المسلمين شر هزيمة. أو مثلها كالمغول الذين اجتاحوا البلاد حتى دمروا عاصمة الخلافة وأحرقوا الأخضر واليابس وكانوا بلا مبدأ فهزموا شر هزيمة. فالدولة التي تتخلى عن مبدئها في سبيل مصالحها سوف تنهزم ولن تترك أثراً له لأنها تخلت عنه. وأكد أوباما مرة أخرى على أن مصالح أميركا أهم من المبدأ مدللاً على تهاوي بلاده وانحدارها فقال: «على الرغم من أن الولايات المتحدة بدأت تقلل تدريجياً من اعتمادها على النفط المستورد، إلا أن العالم ما زال يعتمد على مصادر المنطقة للطاقة، وأي اضطراب قوي قد يزعزع اقتصاد العالم بأجمعه». أي إنه لا يهمه المبدأ والفكر وإنما المصالح المادية؛ فإذن لم يعد لأميركا حاجة بها، فلا تهتم بسيادة الفكر الديمقراطي الرأسمالي في المنطقة إلا بقدر ما قد يزعزع اقتصاد العالم الذي سيؤثر عليها إذا تزعزع.

ومن هنا يتبين لنا أن أميركا على وشك السقوط، وأنها إلى زوال بإذن الله. فالظلم والتسلط والغطرسة والعنجهية لن تجعل صاحبها يسود إلا قليلاً، ومن ثم يزول ويزول معها كل ما تحمله. وعمر أميركا كدولة أولى في العالم لم يتجاوز ستين سنة مع وجود منافس لها، وهذا لا يعد شيئاً في تاريخ الأمم، وبدأت تهتز في العقد الأخير. فدولة الأمة الإسلامية دامت ألف سنة كدولة أولى في العالم وبلا منافس تقريباً. وليس من المحتمل أن تملأ ذلك الفراغ الدول الكبرى الأخرى مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا والمرشحة لأن تكون دولة كبرى كألمانيا، أو التي ينظر إليها أنه من الممكن أن تصبح دولة كبرى كالصين أو اليابان كما بينا في مقالنا الأول تحت اسم الفراغ السياسي في الموقف الدولي. ولم يبقَ إلا احتمال نهضة الأمة الإسلامية وإقامة دولتها دولة الخلافة. وسنبحث إن شاء الله في القسم الثالث مؤهلات الأمة الإسلامية لأن تسبق الدول الكبرى الأخرى وتملأ الفراغ وتصبح الدولة الأولى عالمياً.q

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *