العدد 333 -

السنة التاسعة والعشرون شوال 1435هـ – آب 2014م

أثر الوسطية والتدرج في الحراك الثوري..

بسم الله الرحمن الرحيم

أثر الوسطية والتدرج في الحراك الثوري..

قبل أن نذكر أثر هاتين الفكرتين المضللتين في الفكر والسياسة الثورية هذه الأيام، يجب أن نستعرض في البداية قضية مهمة تتعلق بهاتين الفكرتين السامتين الخبيثتين، وهي أن مثل هذه الأفكار قد صيغت بطريقة خبيثة ماكرة، ووضعت في قوالب فكرية تنطلي على كثير من عوام المسلمين؛ وذلك من قبل علماء السلاطين في هذا الزمان، ثم أقحمت هذه الأفكار وأمثالها في الفكر السياسي الإسلامي أو الفقهي، وليس لها أي سند صحيح من أسس الشريعة وأصولها، بل إن أصول الشريعة الصحيحة تناقضها وتحاربها في كل جزئية من جزئياتها، وقد كان الهدف المبطن من إقحام هاتين الفكرتين بالذات هو:

 أولاً : محاربة فكرة عالمية الخلافة وضرورتها في حياة الأمة، ووجوب وجود أحزاب سياسية تعمل لإعادتها في حياة المسلمين …

ثانياً : محاربة فكرة التميز والتنافر التام بين الحضارتين الإسلامية والكافرة، وتمييع لون الحضارة الإسلامية فكراً وسلوكاً، بحيث تذوب وتنمحي في الحضارات الأخرى لتصبح بدون لون ولا تمييز…

ثالثاً : تبرير اللقاء مع الحضارات الأخرى والسير معها في بعض الأمور بلا حرج، وقبول التعايش معها عن رضا واطمئنان .

رابعاً : عدم التعرض بالنقض وبيان الاعوجاج للديانات أو الحضارات الأخرى، من باب أن الدين معتدل وليس متشدداً تجاه الأفكار والديانات والحضارات الأخرى .

خامساً : تطويع المسلمين نحو برامج قبول الثقافات الكافرة دون حرج والتعامل معها بأريحية، والتبرير للجماعات والدول التي تحتكم للمؤسسات الدولية -كهيئة الأمم ومجلس الأمن وغيرها- هذا التعامل .

سادساً : التعاون مع الحضارات الكافرة الأخرى في عدة مجالات، وتبادل الثقافات والبرامج والأشخاص من باب عدم التطرف والاعتدال نحو الآخرين ..

سابعاً : إيجاد مسوِّغ لدى الحكومات، ولدى علماء الحكومات في إصدار فتاوى ضالة مضلة لضرب الحركات الإسلامية المخلصة بحجة أنها متشددة وليست وسطية معتدلة .

ثامناً : جواز القبول بالمرحلية في تطبيق الأحكام، بناءً على فكرة التدرج، وأنه يجوز بدايةً أن نقبل بالأحكام الكافرة تُطبق في بلاد المسلمين تحت مظلة حكم إسلامي، وأن نقبل كذلك بالقوانين الكافرة، وأن نقبل بالمواثيق والمعاهدات الصادرة من المؤسسات الدولية كمرحلة من المراحل نحو تدرج في تطبيق الأحكام مستقبلاً ..

تاسعاً : وضع دستور للدولة أو قانون داخلي للحركات الإسلامية، بناءً على فكرة التدرج، مع جواز خلط هذا الدستور أو الميثاق بأفكار علمانية كمرحلة من المراحل نحو التدرج ..

عاشراً : جواز مشاركة الجماعات الإسلامية لحركات علمانية كمرحلة من المراحل في الحكم والسلطان، ثم التدرج شيئاً فشيئاً نحو إيجاد حكم إسلامي ..

ولا نريد أن نفصل في معنى الوسطية والتدرج ونقض الأدلة التي أقامها هؤلاء المضلِّلون لتأييد ضلالتهم وتبرير السير والمناداة بها ..

وإنما نقول بإيجاز:- بأن الإسلام ليس فيه وسط وأطراف؛  كما هو الفكر الغربي في مبدأ الحل الوسط.. فالإسلام كلٌ متكامل عقيدةً وأحكاماً، وأن هذه الفكرة- الوسطية- لم يعرفها ولم يعهدها علماء الأمة من السلف الصالح، ولم يقولوا بها بهذا الوصف المغرض، وأن الآية التي اعتمد عليها هؤلاء المروِّجون لا تمت إلى الموضوع بأية صلة، قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) ، فهناك فرق بائن بين الوسْط بالتسكين وبين وسَط بالفتح، فالأول توسّط بين أمرين كما هو عند الغرب، والثاني تميّز وتمايز كما هو في معنى الآية الكريمة التي حرفها علماء السلطان..قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: «…والرجل وسَطَ قومه ، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسَط وساطةً وسطة، وليس من الوسْط الذي بين شيئين في شيء. والوسط ( بسكون السين ) الظرف، تقول: صليت وسْط القوم. وجلست وسط الدار ( بالتحريك ) لأنه اسم. قال الجوهري  وكل موضع صلح فيه «بين» فهو وسْط بالتسكين، وإن لم يصلح فيه» بين» فهو وسط بالتحريك..»

أما التدرج التي أقحمها البعض هنا في غير معناها، فإنها عند بعض الفقهاء هي عبارة عن أحكام جاءت على مراحل في حكم ما -على رأي من قال بذلك- ولا يوجد فيها إقرار بالكفر لأحكام أخرى، أو المناداة بتطبيقها، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن هذا الموضوع انتهى عندما استقرت الشريعة واكتملت، ولا مسوِّغ للدعوة إليه في أيٍّ من الأحكام، فهل نستطيع أن نقول: الخمر حرام وقت الصلاة الآن، أم نقول: الخمر محرمة على الإطلاق؟! .

فموضوع التدرج في التشريع لأحكام معينة- حسب نظرة بعض العلماء-، يختلف اختلافاً بائناً وكلياً عما ينادي به البعض من أتباع السلاطين هذه الأيام، أو من يسمون بالإسلاميين المعتدلين التابعين في طريقة تفكيرهم للفكر الغربي، بل إن ما ينادي به هؤلاء ممن يسمون أنفسهم علماء، إنما هو تأصيلٌ لفكر غريب عن دين الأمة ووجهة نظرها، وطريقتها في فهم الأحكام وتطبيقها… وهو أقرب إلى الواقعية والخنوع والرضا بالكفر منه إلى مسألة التدرج حسب فهم بعض الفقهاء…

والموضوع المهم هنا هو أن نقف على تأثير هذه الأفكار السامة في الفكر السياسي للثورات. والحقيقة أن هذه الأفكار السامة الخبيثة قد استغلها الكفار وعملاء الكفار مع الحكام في أمور عديدة، من أجل الالتفاف على الثورات والحركات الإسلامية بالذات وذلك لإخضاعها، وإخضاع الشعوب وكسر إرادتها، بل لتضليلها عن دينها وهدفها في إعادة مجد الإسلام.

ومن هذه الأمور الماكرة الضالة التي أثرت في موضوع الثورات- سواء الحالية منها بعد سنة 2010م، أو السابقة كالتي جرت في تركيا والجزائر وغيرها من البلاد- ما يلي:

1-الالتفاف على (موضوع التبعية السياسية وخدمة الكفار) تحت ذريعة الاعتدال، وذلك كما هو حاصل اليوم في النظام التركي الذي سبقته ثورة شعبية نادت بالإسلام، وقد استطاع حكام تركيا خديعة الشعب التركي بموضوع الاعتدال وعدم التطرف، ووقفوا مع أميركا في حربها ضد الجماعات الإسلامية الأفغانية بحجة أنها جماعات متطرفة وليست معتدلة، وقمعت كذلك بعض الجماعات الإسلامية داخل تركيا بحجة أنها متطرفة وليست معتدلة .

فتركيا اليوم ممثلة بحكامها من حزب العدالة والتنمية الإسلامي، تنادي بحرب الإرهاب تحت ذريعة (الاعتدال والوسطية)، وتقبل بتطبيق كل القوانين الكافرة بحجة التدرج في الأحكام؛ فتجيز فتح بيوت الدعارة وتعطي لها التراخيص، وتجيز الاحتكام للكفر في النظم الثلاث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية…

2-القبول بالمرحلية في التطبيق؛ لخديعة الشعوب وترويضها وعدم المطالبة بالحكم الإسلامي جملة كما حصل في تونس ومصر… فالذي جرى من الحكومة التي تسلمت الحكم في تونس من جماعة النهضة، أو الجماعة التي تسلمت الحكم في مصر من حزب الحرية والعدالة، خدعت الشعوب في كلا البلدين بأنها تريد الإسلام، وأنها تتدرج في هذا الموضوع شيئاً فشيئاً، ولا مانع الآن من إبقاء أغلب الأمور بل كل الأمور على ما هي عليه، من بيوت دعارة مرخصة وخمارات، وقروض ربوية، وسياحة منحلة، وارتهان لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقبول المعاهدات القديمة مثل معاهدة السلام مع يهود…

3-تبرير الحرب التي تعلنها الدول الكافرة -وخاصّة أميركا وأوروبا- على بعض الجماعات الإسلامية التي تنادي بتطبيق الإسلام كاملاً وطرد الكفار وعملائهم من بلاد المسلمين، ووصف هذه الجماعات العاملة في الثورات أو من خلالها بأنها جماعات متطرفة وأصولية متشددة ولا تقبل التعايش مع الآخر فيجب عدم الاعتراف بها وإعلان الحرب عليها، وقد برزت هذه المسألة بشكل واضح في الثورة السورية عندما نُعت البعض من كتائب الثوار ممن يدعون لتطبيق الإسلام، وطرد الكفار وعدم القبول بعملائهم -نعتوا بأنهم متطرفون إرهابيون.

4-تبرير اللقاء تحت مظلات الكفار أو عملائهم من بعض القادة للثورات بحجّة الاعتدال وعدم التطرف، وإعلان الكفار مثل أميركا أنه لا مانع من التعاون مع بعض الجماعات غير الإرهابية في سوريا والتعاون معها… فهذه الفكرة شقت الصف وقسمت الثورة حسب وجهة نظر الكفار ونظرتهم لهذه القضية إلى قسمين -قسم إرهابي لا يمكن التعامل معهم- وقسم معتدل يمكن القبول به وإجراء الحلول من خلاله .

5- محاولة طمس الهوية الإسلامية الصحيحة للثورات ولأصحابها عن طريق تقريب الجماعات التي تؤمن وتنادي بهاتين الفكرتين…

فأميركا وأوروبا مستعدة للتنازل في كل الميادين إلا في ميدان واحد هو (الإسلام السياسي الذي يريد دولة إسلامية صحيحة) أي موضوع تطبيق الإسلام في الدولة والمجتمع تطبيقاً كاملاً غير منقوص وحمله رسالة خير وهدىً إلى البشرية جميعاً.

فهذا الأمر بالإضافة لحربه ونعته بالتطرف والإرهاب وملاحقة أتباعه، فإن الغرب يحاول جاهداً تشويه صورته وطمسه من فكر الثورات ومطالبها…

هذه أبرز الأمور التي أثرت في الفكر السياسي للثورات، واتخذت منها الدول الكافرة والعميلة مطية لركوب موجتها وحرفها عن مسارها الصحيح… لكن السؤال هنا هو: هل ستبقى هذه الضلالات تمرَّر فوق رقاب الأمة أبد الدهر، وهل تستمر الدول الكافرة في ركوب موجة الثورات إلى ما لا نهاية…

للإجابة عن هذا السؤال نقول: بأن هودج الإسلام صعب الركوب إلا لمن كان مخلصاً لله عز وجل، فمن كان كذلك فإنه يثبت ويستمر، أما من كان خلاف ذلك وخاصة من يكون بعدة ألوان، واتخذ من هذه الأفكار وسيلة للركوب والخنوع والخضوع فإن مركب الإسلام سيلقيه أرضاً ويسقطه عن ظهره، طال الزمان أم قصر. فما جرى في تونس ومصر وما زال يجري قد كان سبباً في وعي كثير من المسلمين على هذه الأفكار وسقمها وضلالها؛ خاصة وأنها زادت الأمة عنتاً ومشقة فوق عنت، وتسببت بازدياد الانحدار حتى عن الوضع السابق؛ لذلك بدأت الشعوب ترفض من ينادي بهذا الفكر السام الضال، وبدأت تبحث عن الحقيقة الصحيحة ومن يترسم خطاها من المخلصين، وهذا ما يفسر الثورة الثانية على الثورة في تونس، وكثرة الانشقاقات عن حركة النهضة واتساع دائرة المخلصين ممن ينادون بالتميز وعدم المهادنة والتدرج. وأيضاً نفس الأمر جرى في مصر وصارت الأصوات من داخل حزب الحرية والعدالة ترتفع وتقول: ما هو الرفق بين الواقع الجديد والقديم، وماذا أمسكتم من أسباب الحكم في مصر وكل شيء باق على ما هو عليه، وكيف تقرّون بالمعاهدات مع اليهود وقد كنا ننادي بإلغائها، وكيف تقبلون الارتهان للمؤسسات الربوية وقد كنا ننعت مبارك وزمرته بالخيانة وهو يربط البلد بشروطها -وكيف وكيف… أسئلة كثيرة تتردد في أوساط البعض من هذه الجماعة.

أما ما يجري في سوريا فكأن الله عز وجل يريد لأهل الشام -وخاصة المقاتلين منهم- أن يتميزوا إلى فسطاطين كما قال عليه الصلاة والسلام: «فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه». ولعل هذه المرحلة تكون آخر المراحل قبل الفرج القريب.

فجميع من يتقرب اليوم للغرب، أو لأي من الدول التابعة له في المنطقة ممن يدعي الإسلام من مثل هذه الجماعات الإسلامية سيكشف الله سترها وتظهر على حقيقتها، ولن يطول بها المطاف حتى يلفظها أتباعها قبل أن تلفظها الأمة في سوريا وخارجها…

فكل ما يجري هو خير لأهل الإيمان حتى يتميز الناس كما قال رب العزة جل جلاله: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)).

وهذه الثورات هي تماماً كالكير الذي يطرد صدأ الحديد وخبث الذهب الخالص، ليأتي النصر من الله عز وجل في نهاية المطاف وقد تميز أهل الحق عن أهل الباطل؛ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون…

نسأله تعالى أن تكون هذه الثورات بركة وخيراً على الأمة، ومفتاح تميز وفرج لهذه الأمة، آمين يا رب العالمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *