العدد 239 -

العدد 239 – السنة الواحدة والعشرون ، ذو الحجة 1427هـ، الموافق كانون الثاني 2007م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم:

الآثار الاجتماعية للحكم بغير ما أنزل الله (1)

 

منذ أن أُهبط آدم وزوجه إلى الأرض، أعلمهما الله تعالى أن السعادة في الحياة على ظهرها لن تكون إلا باتباع الهدى، بينما يكون الشقاء والضيق في الانسياق وراء الهوى، قال تعالى: ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى @ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [طه 123-124].

فضنك المعيشة هو عاقبة الإعراض عن اتباع منهج الله، ويبرز هذا الضنك أكثر ما يبرز في الحياة الاجتماعية القائمة على غير شرع الله القويم، حيث لا يُعرف الحق لأهله، ولا يؤخذ من مغتصبه، ولا يؤطر عليه الظالمون، ولا يؤجر عليه العادلون. وإن هذا الضنك ليبدو في مظاهر متعددة في المعيشة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات المنكوبة بشرائع البشر القاصرة. وشواهد الواقع في الماضي والحاضر تشهد بأن بني آدم لم يستوعبوا جيداً أول درس لُقن للأبوين الأولين.

ونذكر الآن ألواناً من هذا الضنك والضيق الاجتماعي الذي يعم الحياة المعرضة عن شرع الله:

1- فوضى الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض:

فالناس إذا لم تكن الروادع بينهم كافية، فإن أسوأ ما في طباعهم يظهر ويسود، فالنفس البشرية -غير المنضبطة بشريعة الله- مجبولة على خلال سيئة كثيرة، تظهر في الإنسان في الظروف المختلفة، ولا يكبح جماحها إلا معالجة الشريعة التي أنزلها رب هذا الإنسان وخالقه، ونحن إذا تأملنا وصف القرآن للإنسان بمعزل عن الإيمان، لوجدنا عجباً.

l فالإنسان ضعيف أمام المغريات: قال تعالى: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) [النساء 28].

l والإنسان نسيٌّ للإحسان: قال تعالى: ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ) [يونس 12].

l وهو ظلوم في الحقوق، كفّار بالنعم: قال تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) [إبراهيم 34].

l وهو مجادل بالحق أو بالباطل: ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ) [الكهف 54].

l وهو عجول متسرع فيما قد لا يصلحه: ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ) [الإسراء 11].

l والإنسان جاحد للنعم ناكر للفضل: ( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ) [الحج 66]، ( وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ) [الإسراء 67].

l وهو بخيل بما عنده: ( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ) [الإسراء 100].

l وكثيراً ما يغلبه الجهل والظلم ويعرّض نفسه لما لا طاقة له به: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) [الأحزاب 72].

l والإنسان شديد في الخصومة: ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) [يس 77].

l وهو شره في جلب الخير لنفسه، قنوط إذا عجز عن جلب هذا الخير: ( لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ) [فصلت 49].

l وهو هلع جزع إذا أصيب بضر، أو ألمَّ به شر، وهو ضانٌّ بالخير إذا تحصَّل عليه. قال تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا @ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا @ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) [المعارج 19-21].

l والطغيان هو الصفة السائدة في الإنسان في معزل عن شرع الرحمن: ( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى @ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) [العلق 6-7].

ولا يمكن أن تواجه طباع هذا المخلوق إلا بشريعة من خالقه: ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [الملك 14] فهذا الطغيان البشري، المتضمن لهذه الطائفة المخيفة من الصفات الكامنة في النفس البشرية -حال تجردها من طهارة الإيمان- لمما يبعث الرعب من مجرد تصور ترك هذا المخلوق بلا ضبط من خالقه الذي يعلم أسرار صنعته، فيحيله بالشريعة الحكيمة أقرب إلى الملائكة بعد أن كان قبل أن يطهَّر بها أدنى إلى الشياطين.

كيف نتخيل مجتمعاً يترك فيه (الإنسان) كالوحش الضاري أو السبع الكاسر دونما شريعة تتخلل أعماق نفسه، وتسري في ذرات دمه، فتخفف من لأواء ضرره، وتهدهد من فظيع طباعه.

إن المجتمع الذي تُطلق فيه هذه الصفات المجتمعة في المخلوق (الإنساني) لتعيث في الأرض فساداً، هو المجتمع غير المحكوم بحكم الشريعة وضبطها وربطها للأمور، ولا فرق بعد ذلك أن نُطلق العنان للخيال ليتصور ماذا يفعل هذا (الإنسان) إذا أطلق من كل إسار، أو نكتفي بإلقاء نظرة على الواقع حولنا حتى نرى… ماذا كان لهذا الإنسان المسيَّب من آثار في حياته الأسرية والاجتماعية مع أخيه الإنسان.

إن القتل، والاغتصاب، واستباحة الأموال بكل الطرق والأشكال، وانتشار الفواحش والزنا، والفجور والخنا، والإدمان، واللصوصية، والجاسوسية، والتشاجر، والتنافس، والتحاسد، والشح والبخل، والجهل والظلم… كل أولئك وغيره، هو ما يريد الراغبون عن حكم الله إشاعته في الذين آمنوا بتعطيلهم حكم الشريعة الإلهية التي تضبط وحدها النفس العاتية البشرية. فالله تعالى منزل هذه الشريعة هو وحده يعلم والناس لا يعلمون. قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) [النور 19].

وإن المشرعين والحاكمين بأحكام الشرائع الوضعية هم قطعاً ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لأنهم يحاربون الله ورسوله على علم، فقوانينهم تجعل من الظلم شريعة، فهي تحمي الزناة والبغاة والقتلة والسُرَّاق، يضرب أحد علماء الأزهر، والعضو بمجلس الشعب المصري مثلاً لنوع من الظلم المقنن الذي أدخله الظالمون على حياة المسلمين قسراً وقهراً فيقول: «ما رأي القانون الوضعي في رجل دخل بيته ففوجئ برجل يزني بامرأته على فراش الزوجية داخل بيته، فغلى دم الزوج في عروقه وأراد قتل الزاني، فكانت يد الزاني أسرع فقتل الزوج… أتعرف -أيها القارئ- ما حكم القانون الوضعي في هذا؟!.. إن هذا الزاني يخرج بريئاً من جريمتي الزنا والقتل كليهما؟!

أما خروجه من جريمة الزنا فلأن الزوج وحده هو الذي يملك أن يرفع دعوى الزنا ضد زوجته، وقد قُتل! وليس ذلك الحق لأبيها أو لأخيها أو لولدها أو لأحد غير الزوج القتيل. وأما خروجه من جريمة القتل، فلأنه كان في حالة دفاع عن النفس!! ولذلك لا يقتل ولا يُرجم ولا يجلد!! فهل رأيت أيها القارئ الكريم ديناً يقر هذا البلاء؟!… إن القوانين في مصر تقر هذا البلاء».

إن الشريعة تضبط الحقوق صغيرها وكبيرها، فإذا غابت تضيع الحقوق صغيرها وكبيرها، ففي مجال المال، إذا تركت التدابير الشرعية لحماية ممتلكات الناس، فإن الإجراءات الوضعية لا تفلح في توفير الحماية لها بل إنها تفتح أبواب السلب والنهب أمام مرضى التكسب بالحرام، فتنفتح شهية السُرَّاق وتنمو خبرات المختلسين، وتنتعش رغبات المحتكرين، وتحاول القوانين الوضعية يائسة أن تقضي على الجريمة فلا تزيدها إلا شيوعاً بإجراءاتها الخرقاء، فالسجون المكتظة بالمجرمين تصير أكبر المعاهد التعليمية لفنون النصب وألوان الإجرام، والقائمون عليها أعجز من أن يقوِّموا بشراً معوجاً بتشريعاتهم الهزيلة، ثم إنهم غير مؤتمنين أصلاً على عملية التقويم لأنهم خانوا الأمة ابتداءً في حرمانهم من حماية الشرع والدين.

يقول الشيخ أحمد شاكر بعد أن بيّن كيف تعاون المنافقون والمستعمرون في إدخال القوانين الوضعية إلى ديار المسلمين فأشاعوا فيها الفتن: «… فكان عن هذا أن امتلأت السجون في بلادنا وحدها بمئات الألوف من اللصوص، بما وضعوا في القوانين من عقوبات للسرقة ليست برادعة، ولن تكون أبداً رادعة، ولن تكون أبداً علاجاً لهذا الداء المستشري… وإنهم جاءوا في التطبيق يلتمسون الأعذار من (علم النفس) لكل لص بحسبه، ثم زاد الأمر شراً أن يكتب اللصوص أنفسهم كلاماً يلتمسون به الأعذار لجرمهم، وقام المدافعون (المحامون) عنهم المقامات التي توردهم النار، يعلمون أن الجريمة ثابتة فلا يحاولون إنكارها، بل يحاولون التهوين من شأنها بدراسة (نفسية المجرم وظروفه)…!!».

أما الفوضى في الأعراض والأنساب تحت المظلة الوضعية المضِلَّة، فحدِّث ولا حرج، فإن التدابير الشرعية الصارمة التي من شأنها أن تحافظ على عفة المجتمع وطهارته من سعار الشهوات، وتحاول أن تطفئ أوارها، هذه التدابير يلغيها القانون الجائر الموضوع بجرَّة قلم، فمن للعفة يحميها في ديار المسلمين، ومن للطهارة يحرسها، ومن للجريمة يحاصرها، إذا حرمت هذه الديار من حكم الله ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) [المائدة 50].

وإذا راح أحدنا يسأل هؤلاء، لماذا تصرون على هذا البلاء، ولمَ تتشبثون بهذه الشرائع المفسدة، قالوا: نريد أن نتحرر كما تحرر الغرب، ونتقدم كما تقدم الغرب، ونقدم الرفاه والسعادة لشعوبنا كما قدم الغرب! وهي كمقالة أسلافهم الضالين الذين قال الله عنهم: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا @ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ) [النساء 61-62].

والعجيب أن هؤلاء المعاندين، يعلمون قبل غيرهم ما الذي جنته حضارة الغرب القائمة على الاعتداء على سلطة الله وحكمه، ويدركون إلى أي درك سفلت، وإلى أي حالة وصلت، فهذه أكبر دول العالم الغربي وأكثرها تقدماً بالمعنى الذي يريدونه، وهي الولايات المتحدة الأميركية، تغص بأنواع وألوان من الشقاء الناتج عن شيوع الجريمة وتفنن أصحابها فيها، بحيث بات أصحاب الفكر والأدب والتربية فيها في حيرة من أمرهم، ماذا يفعلون أمام سيل الابتكارات الإجرامية المتتابعة التي لا تكاد السلطات التشريعية أو القضائية أو التنفيذية أن تلاحقها، وكيف يوقفون زحف الفساد الذي أصبح يهدد الحضارة الغربية بأسرها، وأضحى ينخر في عظامها.

وفي كتاب يلقي الضوء على هذه المأساة بعنوان: (الجريمة على الطريقة الأميركية) يشرح مؤلفا الكتاب الغربيان في اثنتي عشرة وخمسمائة (512) صفحة أنواع وأشكال وطرق ارتكاب الجرائم المختلفة فردية وجماعية، ارتجالية ومنظمة، سياسية وجنائية، ما كان منها بسبب المال، وما كان بدافع الجنس، وما ينتج عن الفقر، وما ينجم عن الترف، وما تسببه الاختلافات المذهبية، وما تدفع إليه الفروق والعنصرية، وما يقترفه الشباب، وما يختص به النساء، وما لا يتقنه إلا الرجال… إلى آخر ما في قاع المجتمع الأميركي وقمته من الصراع والضياع.

جاء في مقدمة الكتاب: «كانت الأحداث الخارقة التي تقع في الولايات المتحدة الأميركية، والقلق الذي خلفته قد تركت أثراً كبيراً لدى المؤلفَيْن، فالمخدرات انتقلت من الغيتوات (الحواري والشوارع) لتغزو الضواحي، والجرائم والاعتداءات أخذت تحتل أخبار الصحافة باستمرار، والغش الذي يقدم عليه أرباب العمل الصناعيين ظهر في الصحف بعناوين عريضة بارزة… وأخيراً وليس آخراً (ووترغيت) قضية القرن التي شدت العالم… كنا كلما حاولنا رد هذه الظواهر إلى جدل ثقافي وسياسي، شعرنا بأننا مرغمون على سبر جذور الإجرام الأميركي. وبالتأكيد لم تكن المسألة بالنسبة إلينا إطلاقاً أن نكب على تصنيف الجرائم التي ترتكب في أميركا تصنيفاً موسوعياً -لأن عدة مجلدات لن تكون كافية- لقد سعينا إلى اكتشاف كيف ولماذا أو بأية ميكانيكية تعد بعض الأفعال الإجرامية؟ من الذي يعرفها هكذا؟ كيف؟ ولأية أسباب تتغير هذه التعريفات؟ وأخيراً… كيف أنتجت أميركا هذا التخلف الحضاري الذي لا مثيل له في العالم؟»1.

وينتهي الكاتبان بعد دراسة إحصائية واسعة في سبعة وعشرين فصلاً في الكتاب إلى أن الجريمة وصلت في الولايات المتحدة الأميركية إلى حد أصبحت فيه سلطة تنافس السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وسلطة الصحافة والإعلام.

وقالا: «ينبغي بالتأكيد سبر عدد من أقوى مؤسسات أميركا العامة والخاصة، فإن واقع الشروع وحده في تحقيق كهذا، سيؤول إلى معرفة حقيقة حضور الجريمة داخل المؤسسات الأميركية، وبالتالي سيقود إلى وجود (السلطة السادسة) التي نعبر عنها بصوت أعلى فنقول: (السلطة الإجرامية)!».

فهل ما يزال المبدلون في بلاد المسلمين يحلمون بتحويل الأمة المسلمة كلها إلى هذه الحال المزرية؟.

[يتبع]

ــــــــــــــــــــــــ

1- الجريمة على الطريقة الأميركية، تأليف: فرانك بروانغ وجون جيراس، ترجمة فؤاد جديد، ص: 5، الطبعة الأولى 1987م، مكتبة الخدمات الطباعية بدمشق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *