العدد 402-403-404 -

السنة الرابعة والثلاثون – رجب – شعبان – رمضان 1441هـ – أذار – نيسان – أيار 2020م

شيء من أخبار طاعون عمواس

 

جاء في (البداية والنهاية-الجزء السابع) لابن كثير، شيء من أخبار طاعون عمواس الذي توفي فيه أبو عبيدة ومعاذ ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة وغيرهم.

أورده ابن جرير في هذه السنة، قال محمد بن إسحاق: عن شعبة، عن المختار بن عبد الله البجلي، عن طارق بن شهاب البجلي قال: أتينا أبا موسى وهو في داره بالكوفة لنتحدث عنده، فلما جلسنا قال: لا تحفوا، فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تتنزهوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم ونزهها حتى يرتفع هذا البلاء، فإني سأخبركم بما يكره مما يتقى: من ذلك أن يَظنَّ من خرج أنه لو قام مات، ويظن من أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن ذلك هذا المرء المسلم فلا عليه أن يخرج وأن يتنزَّه عنه، إني كنت مع أبي عبيدة بن الجرَّاح بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: «أن سلام عليك، أما بعد، فإنه قد عرضت لي إليك حاجة، أريد أن أشافهك بها، فعزمتُ عليك إذا نظرت في كتابي هذا أن لا تضعه من يدك حتى تقبل إليَّ»

قال: فعرف أبو عبيدة أنه إنما أراد أن يستخرجه من الوباء، فقال: «يغفر الله لأمير المؤمنين» ثم كتب إليه: «يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إليَّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فخلَّني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي».

فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين أمات أبو عبيدة؟ قال: «لا، وكأن قد».

قال: ثم كتب إليه: «سلام عليك، أما بعد، فإنك أنزلت الناس أرضًا عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة».

قال أبو موسى: فلما أتاه كتابه دعاني. فقال: «يا أبا موسى، إن كتاب أمير المؤمنين قد جاءني بما ترى، فاخرج فارتد للناس منزلًا حتى أتبعك بهم» فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت فرجعت إليه وقلت: والله لقد كان في أهلي حدث. فقال: «لعل صاحبتك قد أصيبت؟» قلت: نعم. فأمر ببعير فرحل له، فلما وضع رجله في غرزه طعن. فقال: «واللهِ، لقد أصبت»، ثم سار بالناس حتى نزل الجابية ورُفع عن الناس الوباء.

وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن شهر بن حوشب، عن رابة، رجل من قومه: وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، وكان قد شهد طاعون عمواس. قال: لما اشتعل الوجع، قام أبو عبيدة في الناس خطيبًا، فقال: «أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة منه حظه»، فطعن، فمات.

واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبًا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذ يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ منه حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا لنفسه فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلب ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أنَّ لي بما فيك شيئًا من الدنيا.

فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فيهم خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتحصنوا منه في الجبال. فقال أبو وائل الهذلي: كذبت والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شر من حماري هذا. فقال: واللهِ ما أردُّ عليك ما تقول، وأيمُ الله لا نقيم عليه. قال: ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه.

قال ابن إسحاق: ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان، أمَّر معاوية على جند دمشق وخراجها، وأمَّر شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها. وقال سيف بن عمر عن شيوخه قالوا: لما كان طاعون عمواس وقع مرتين لم يُرَ مثلهما، وطال مكثُه، وفنيَ خلق كثير من الناس، حتى طمع العدو، وتخوَّفت قلوب المسلمين لذلك. قلت: ولهذا قدم عمر بعد ذلك إلى الشام، فقسم مواريث الذين ماتوا لما أشكل أمرها على الأمراء، وطابت قلوب الناس بقدومه، وانقمعت الأعداء من كل جانب لمجيئه إلى الشام، ولله الحمد والمنة.

وقال سيف بعد ذكره قدوم عمر بعد طاعون عمواس في آخر سنة سبع عشرة، قال: فلما أراد القفول إلى المدينة في ذي الحجة منها، خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إني قد وليت عليكم، وقضيت الذي عليَّ في الذي ولَّاني الله من أمركم إن شاء الله، فبسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم، وأبلغناكم ما لدينا، فجنَّدنا لكم الجنود، وهيَّأنا لكم الفروج، وبوَّأنا لكم ووسَّعنا عليكم ما بلغ فيئكم، وما قاتلتم عليه من شامكم، وسمَّينا لكم أطعماتكم، وأمرنا لكم بأعطياتكم وأرزاقكم ومغانمكم. فمن علم منكم شيئًا ينبغي العمل به فليعلمنا نعمل به إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله. قال: وحضرت الصلاة، فقال الناس: لو أمرت بلالًا فأذن؟ فأمره فأذَّن، فلم يبقَ أحد كان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلال يؤذن إلَّا بكى حتى بلَّ لحيته، وعمر أشدُّهم بكاء، وبكى من لم يدركه لبكائهم ولذكره صلى الله عليه وسلم.

وذكر ابن جرير في هذه السنة: من طريق سيف بن عمر عن أبي المجالد أن عمر بن الخطاب بعث ينكر على خالد بن الوليد في دخوله إلى الحمام وتدلُّكه بعد النورة بعصفر معجون بخمر، فقال في كتابه: إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه، كما حرم ظاهر الإثم وباطنه، وقد حرَّم مسَّ الخمر فلا تمسُّوها أجسامكم فإنها نجس، فإن فعلتم فلا تعودوا. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولًا غير خمر. فكتب إليه عمر: إني أظن أن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء، فلا أماتكم الله عليه، فانتهى لذلك.

قال سيف: وأصاب أهل البصرة تلك السنة طاعون أيضًا، فمات بشرٌ كثير وجمٌّ غفير، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *