العدد 402-403-404 -

السنة الرابعة والثلاثون – رجب – شعبان – رمضان 1441هـ – أذار – نيسان – أيار 2020م

في ذكرى هدم الخلافة… دولة قرار تظلُّك، لا دويلات عار تذِلُّك

م. خالد السراري

الحمد لله الذي جعل العقيدة الإسلامية فكرة الإسلام، ورسم طريقة واضحة جليَّة لتطبيقها، فكوَّن بذلك مبدأ قويًا صلبًا ينهض بصاحبه النهضة الصحيحة، والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد، المرسَل والموضِّح لهذا المبدأ العظيم وآله وصحبه أجمعين ثم أما بعد.

«بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام» كانت هذه رسالة خليفة المسلمين في ذاك الزمان هارون الرشيد إلى نقفور ملك الروم حين رفض تأدية الجزية وطلب من الخليفة أن يردَّ ما أخذه من ملكة الروم السابقة، فما كان من هارون الرشيد بعد أن أرسل هذه الرسالة إلا أن خرج بنفسه حتى وصل هرقلة وهي مدينة بالقرب من القسطنطينية، واضطر نقفور إلى الصلح والموادعة، وحمل مال الجزية إلى الخليفة كما كانت تفعل «إيريني» من قبل، كانت هذه الحادثة في عام (187هـ – 803م) زمن الخلافة العباسية، زمن كانت فيه للمسلمين دولة خلافة تذود عن أرضهم وترعى مصالحهم.

وفي المقابل في زمننا التعيس، وبعد ما يقارب من 99 سنة هجرية منذ سقوط خلافة المسلمين، يدفع رويبضات الحكم في دول الخليج وعلى رأسهم نظام آل سلول أكثر من 500 مليار دولار جزية لأميركا رأس الكفر بعد استقبال حافل لسيِّدهم ترامب في الرياض الذي وصف السعودية من قبل بالبقرة الحلوب التي يجب أن تدفع الأموال مقابل توفير الحماية لها، فأيُّ ذلٍّ أكبر من هذا الذل؟! وأي هوان وصل إليه حال المسلمين اليوم؟ وما هي الحلقة التي فقدت لينفرط حال المسلمين أيما انفراط؟! دماء تسيل، أعراض مباحة، ثروات منهوبة، أرض محتلة تصول وتجول فيها جيوش الكفر أينما شاءت وكيفما شاءت، قد يظن القارئ أن إلاجابة عن هذه الأسئلة معقَّدة وصعبة وطويلة، والحقيقة أن الإجابة بسيطة وواضحة، سنشرحها بالتفصيل إن شاء الله.

إن الإسلام وُجد ليسود، فهو الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للعالمين جميعًا وقد وعد حامله بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض، قال تعالى: ( وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ ( وقال تعالى: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ) وكان هذا ماحدث فعلًا حين طبق المسلمون الأوائل الإسلام بالشكل الصحيح كمبدأ متكامل يأخذون منه جميع شؤون حياتهم، فبلغوا من العزة والتمكين مبلغًا عظيمًا، وتبوَّأت دولة الخلافة الإسلامية مكانها الطبيعي وهو المركز الأول عالميًا متفوقة في جميع المجالات العسكرية والطبية والهندسية والصناعية والثقافية والعديد العديد غيرها، وأذكر هنا حادثة من الماضي العزيز لنرسم فكرة بسيطة عن مدى تقدم المسلمين مقارنة بالأوروبيين، فقد بعث جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد برسالة إلى السلطان الأموي هشام الثالث في الأندلس، جاء فيها: «إلى صاحب العظمة / خليفة المسلمين / هشام الثالث الجليل المقام… من جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد… بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل… لتكون بداية حسنة لاقتفاء أثركم، لنشر العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص. من خادمكم المطيع جورج الثاني».

عاش المسلمون في أمن وأمان وتقدم وازدهار لم يسبقهم إليه أحد من الأمم، فقد ظهرت الجامعات في العالم الإسلامي قبل ظهورها في أوروبا بمئتي سنة، وكانت أول جامعة بنيت هي جامعة الزيتونة في تونس في عام 737م، وكان أول مستشفى في الإسلام بناه الوليد بن عبد الملك سنة 88 هـ/706م في دمشق، وأول مستشفى للجذام بناه المسلمون في التاريخ سنة 89 هـ/ 707 م بدمشق، في حين إن أوروبا كانت تنظر إلى الجذام على أنه غضب من الله يستحق الإنسان عليه العقاب حتى أصدر الملك فيليب أمره سنة 1313م بحرق جميع المجذومين في النار، وكتب التاريخ مليئة بالعديد من النماذج التي تقصُّ حال المسلمين في زمن العزة تجعل القارئ في أشد الانبهار على زمن الأمس وفي أشد الحسرة على زمن اليوم. ففي زمن اليوم يعيش المسلمين في 60 دولة قسمها الغرب المستعمر في معاهدة سايكس بيكو، ومن ثم أسقطوا دولة الخلافة الإسلامية على يد خادمهم المطيع مصطفى كمال بعد تشويه صورتها وغزو المسلمين فكريًا لإدخال الأنظمة الجمهورية والشعارات القومية والوطنية، فصنعوا للمسلمين سجونًا قومية ووطنية وطائفية حتى صار المسلم ينظر للمكروه يقع لأخيه المسلم ولا يحرك ساكنًا وكأن الأمر لا يعنيه، بل صاروا يتقاتلون فيما بينهم لمصلحة الغرب المستعمر الذي ينهب ثروات البلاد ويستبيح الدماء والأعراض وكل ما أراد عن طريق حكام خونة معيَّنين من الغرب، والذين لا يهمهم سوى خدمة أسيادهم من حكام الغرب وسرقة أكبر قدر ممكن من مال الناس، ويحرص هذا الخائن على إرضاء سيده حتى يبقى أكبر مدة ممكنة. فبالله أخبروني كيف يريد المسلمون أن يتبوؤوا مقعدهم الريادي من جديد وهم تحت ظل هذه الأنظمة؟

إن المصائب والكوارث التي يتلقاها المسلمون صفعة تلو الأخرى تبين بشكل أوضح كل يوم أن المسلمين قد خسروا مصدر عزتهم وكرامتهم بغياب دولة الخلافة الإسلامية. فالخلافة الإسلامية هي نظام الحكم المأخوذ من الإسلام، وهو النظام الوحيد الذي أقرَّه الشرع وبيَّن كذلك طريقة إقامته، فمن أراد أن يأتي بالنصر والتمكين بغير النظام الذي وضعه الإسلام، ألا وهو نظام الخلافة، فلن يستطيع مهما حاول. وكذلك من أراد أن يعيد الخلافة بغير الطريقة التي وضَّحها الإسلام فلن يفلح مهما حاول. والسبب ببساطة أن لكل مبدأ فكرة وطريقة، والإسلام مبدأ يمتلك فكرته وطريقته الخاصة الموضَّحة في الكتاب والسنة، فمن أراد أن ينهض النهضة الصحيحة فعليه أن يرجع إلى المبدأ ليفهم الفكرة والطريقة. ونظام الحكم في الدولة الإسلامية هي الخلافة كما وضَّحها الإسلام ووضح كذلك طريقة إقامتها، فما بالك بمن يأتي بأنظمة غربية كالاشتراكية والديمقراطية والعلمانية وغيرها ليفرضها في بلاد الإسلام ثم يطلب النصر من الله، قال تعالى: (لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ ) والتاريخ واضح بالدلائل والعبر، فما تقدم المسلمون في شتى الميادين إلا تحت ظل خلافة إسلامية كانت ترعاهم، وعندما فقدت الخلافة ضعف المسلمون وهانوا، ولن يعود عزهم من جديد إلا بعودتها. فكيف بحالنا اليوم وقد قُطِّعت بلاد المسلمين إلى 60 قطعة مفصَّلة تفصيلًا خاصًا لتكون دويلات تابعة لسيدها الغربي، وتحكم المسلمين بأنظمة غربية دخيلة على الإسلام لا تملك أدنى مقومات الدولة الحرة التي تملك قرارها؛ ولذلك وجب على المسلمين جميعًا أن يعوا أن السبب الأول من أسباب النصر والتمكين هو العودة لطريقة الإسلام في إقامة دولة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، الدولة الواحدة التي ستضم جميع المسلمين في بلد واحد بلا حدود ولا فواصل، تحت إمام عادل تختاره الأمة ليرعى مصالح المسلمين ويقود الأمة نحو النصر والتمكين لتعود إلى مركزها الطبيعي، وهو الدولة الأولى في العالم، قال تعالى: ( فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤ ). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *