العدد 329 -

السنة الثامنة والعشرون جمادى الثاني 1435هـ – نيسان 2014م

سلسلة مقالات – المجتمع المدني ومنظماته

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة مقالات – المجتمع المدني ومنظماته

 

تنشر الوعي سلسلة مقالات حول المجتمع المدني ومنظماته، وهي موضوعات اختارها وأعدها الدكتور ماهر الجعبري، من كتابه «المجتمع المدني والتمويل الأجنبي: آفاق أم تحديات؟»،  والذي كان قد أعده كحصيلة «بحث فكري استهدف دراسة واقع وعمل المؤسسات غير الحكومية (أو منظمات المجتمع المدني)، وآليات عملها وحركيّاتها في المجال السياسي والفكري، وذلك من أجل تقييم مستوى التخريب الفكري والسياسي الناتج عن نشاطاتها وبرامجها، ولكشف المحاولات الغربية في تفعيل وتسخير المجتمع المدني في الصراع مع الأمة الإسلامية. وذلك في محاولة لتحريك المخلصين من أبناء الأمة للقيام بدورهم في القوامة على فكر المجتمع وحسه، وبالتالي مراقبة ومحاسبة التيار الذي يحرّك هذا المجال الأهلي ويتحرك فيه. ومن ثم التصدي لذلك التخريب فكرياً وسياسياً».

  مثَّل تغلغل هذه المؤسسات في أوساط الأمة قضية سياسية ينفق عليها الغرب الأموال الطائلة لمواجهة مشروع الأمة في النهضة والتحرر واستئناف الحياة الإسلامية، قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).

وفيما يلي الحلقة الأولى من هذه السلسلة:

بسم الله الرحمن الرحيم

المجتمع المدني ومنظماته: الانثباق والسياق(1)

د. ماهر الجعبري

لا ينفصل سياق المجتمع المدني السياسي والتاريخي عما يشهده العالم من صراع مرير بين الثقافات والحضارات، والتضارب الحاد في المصالح بين الدول وأصحاب المبادئ، والهيمنة الاستبدادية من قبل الدول ذات النفوذ العالمي. إذ خلال هذا الصراع وذاك التضارب تستخدم العديد من الوسائل من قبل الدول الأقوى للهيمنة على الدول الضعيفة، وكذلك لصرفها عن الانعتاق الحقيقي من التبعية الفكرية والسياسية، ومن ثم لإعاقتها عن صناعة النهضة على أساس ثقافتها.

وتمثِّل منظمات المجتمع المدني والجهات التي تموِّلها إحدى أدوات هذا الصراع العالمي والتاريخي ضد الأمة الإسلامية، وإن كانت تلك الأدوات تستخدم في البلدان الغربية في سياق التنمية والتطوير.

وتتناول هذه الحلقة ربط المجتمع المدني سياسياً بالديمقراطية الغريبة والإصلاح

من المعلوم أن الدول العظمى ورثت وتبنّت ثقافات تحقِّق رفاهية لمجتمعاتها حسب وجهة نظرها الخاصة عن الحياة والقاضية بفصل الدين عن الحياة. والثقافات الغربية أوجدت تفصيلات وممارسات وأدوات تتفق مع تلك الثقافات وتنسجم مع طريقة العيش فيها. والثقافة الرئيسة الفاعلة رسمياً في المجتمع الدولي حالياً هي ثقافة الغرب الرأسمالي الديمقراطي. والدول المهيمنة مثل أميركا ودول أوروبا تستخدم تلك الأدوات والممارسات التي ساهمت أساساً في تحقيق نوع من الرفاهية لشعوبها، لكي تخترق بها المجتمعات المستضعفة في البلدان المهيمن عليها، بعد أن تشكلها بما يتلاءم مع أهدافها. وهي تضلِّل الشعوب المضطهدة وتستقطبها كما يستقطب الضبع فرائسه عن طريق إجراء القياسات الخاطئة بينها وبين الشعوب الغربية، وبالتالي تعمل على تضليل الشعوب المغلوبة نحو اعتبار نتائج تلك الثقافة الغربية كقيم ومفاهيم إنسانية عامة، لتتم المطالبة بها من كافة شعوب الأرض. ومن جانب آخر تساهم قاعدة «تقليد المغلوب للغالب» برضوخ بعض تلك الشعوب المقهورة للقوى الغالبة رضوخاً سياسياً وثقافياً، فيتم تمرير ذلك الكيد التآمريّ عليها، فتطالب بقيم المجتمعات الغالبة ومفاهيمها انبهاراً بها، دون النظر لصلاحها لها.

وضمن هذا الإطار، أبدعت الرأسمالية في إظهار الديمقراطية بإطار إنساني وترويجها كمنقذ للبشرية كونها ساهمت في نهضة شعوب الغرب، وإنقاذها من سباتها عندما رضخت تحت سيطرة الكنيسة. وهذه الفكرة – الديمقراطية- لها أدواتها المصاحبة لها في التطبيق بما يشمل:

(1) الدولة بمؤسساتها الحكومية من وزارات وبرلمانات وما إلى ذلك.

(2) اقتصاد السوق الحر بما عليه من المؤسسات الربحية من شركات ومؤسسات صناعية وتجارية ومالية وغير ذلك من النشاطات الهادفة للربح.

(3) المجتمع المدني بمؤسساته غير الربحية.

لذلك فإن موضوع المجتمع المدني هو بعد من أبعاد الديمقراطية الرأسمالية التي تغزو العالم الإسلامي. ويتحدث العديد من الكتّاب -من غير «الإسلاميّين»- حول هذا المعنى، منهم مثلاً إبراهيم أبراش الذي يقول: «كثيرة هي المصطلحات التي يعج بها الخطاب السياسي العربي والتي تتردد كل يوم وتشكل حيزاً كبيراً من هذا الخطاب، ولكن دون أن تكون متأصلة لا في ثقافتنا ولا في وعينا السياسي، مصطلحات أقحمت إقحاماً وجاءت مستوردة مثلها مثل ما استوردنا من أيديولوجيات وأفكار وسلع وعلوم وتكنولوجيا، ومن هذه المصطلحات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية وحقوق الإنسان والديمقراطية ودولة الحق والقانون… إلخ.»

إذن، من الصعب فصل موضوع المجتمع المدني عن الثقافة الغربية وخصوصاً الديمقراطية.  والديمقراطية كما تحدد بعض الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الغربية مثل مركز نيكسون، هي محل النزال بين الغرب والأمة الإسلامية، وأن مستوى نجاح من يسمونهم الأصوليّين هو بمقدار قدرتهم على ضرب فكرة الديمقراطية لدى الأمة الإسلامية ونزع ثقة المسلمين عن مروّجيها، وبالتالي حشد المسلمين حول الفكرة الإسلامية ونمط الخلافة الإسلامية كنقيض للديمقراطية.

وجاء ترويج المجتمع المدني ومنظماته ضمن سياق «الإصلاح» الذي عملت أميركا على ترويجه في العديد من البلدان العربية بعد أن طرحه الرئيس الأميركي (السابق) جورج بوش الابن ضمن سياسة الهيمنة، واستخدم كشعار غربي في التعامل مع الأنظمة المسيطرة على الأمة، حيث يتم ضمن هذا السياق طرح مفاهيم أخرى تسهم في المضمون العام للإصلاح، ومفهوم «المجتمع المدني» واحد منها وأحد مرتكزات العمل للإصلاح. وعليه فَبُعْدُ «المجتمع المدني» في معادلة الإصلاح هو جزء رئيس في توجيه المسلمين للإصلاح على المقاس الأميركي، ولحرفهم عن التفكير الصحيح في النهضة الصحيحة على أساس الإسلام (الانقلابي في الحضارة)  الذي يشكل تهديداً للغرب في ثقافته ومصالحه.

لذلك يأتي المجتمع المدني كبعد في الحرب الأيديولوجية واضحة المعالم بين الغرب والأمة الإسلامية، وبناء على ذلك تكونت وتشكلت معالم المجتمع المدني في البلدان العربية والإسلامية بدفع غربي واضح، وبرز نوع من التوجيه الغربي مع العمل الجاد والدؤوب لتفعيل دور منظمات المجتمع المدني للقيام بدور قد يكون بديلاً أو موازياً لدور الأحزاب المأجورة التي استغلّها الغرب لتحقيق برامجه، وخصوصاً بعد أن انكشف عوارها للأمة وفرغت من محتوياتها، ولم تعد قادرة على اختراق المجتمعات، وفي معنى قريب من هذا يقول المفكر الجابري: «مضمون المجتمع المدني يرتبط في أذهاننا اليوم بالطموح إلى تصفية «مجتمع العسكر» و«مجتمع القبيلة» و«مجتمع الحزب الرائد القائد»، وبالتالي فسح المجال لقيام مجتمع المؤسسات القائمة على التعبير الديمقراطي الحر.»

ومع أن كلا الفريقين (المؤسسات الحكومية العميلة للغرب والمؤسسات غير الحكومية الممولة من الغرب) يعمل تحت عين الغرب وبصره وضمن توجيهاته، إلا أن الأنظمة العربية تخشى من تغلغل المجتمع المدني لكيلا ينافسها في تحقيق المصالح الذاتية، ولأنه يفسح المجال «لتفريخ» قيادات بديلة.

ومن أجل التقدم باتجاه الوعي على الموضوع ومواجهته، لا بد من مراجعة تطور المصطلح تاريخياً من أجل تحديد مفهومه العام على أسس متينة، وتوضيح الاختلافات الحالية في تحديد مكونات المجتمع المدني.

تحدَّث العديد من الكتاب والأكاديميين في البلدان العربية حول مفهوم المجتمع المدني وتطوره، وكثر النقاش حوله خلال العقدين الأخيرين، وهي تفيد أن استخدام هذا المصطلح بدأ في الثقافة الغربية كمصطلح معاكس للمجتمع الديني، أي الكنيسة التي كانت تشكّل مجتمعاً مستقلاً ومتمايزاً، أو دولة داخل الدولة، ومن ثم تطوّر المفهوم من كونه بديلاً عن الكنيسة بوصفها ممثلة لما تسمى «السلطة الروحية»، ليصبح بديلاً عن الدولة بوصفها ممثلة لما تسمّى «السلطة الزمنية»، وذلك عندما انسحبت الكنيسة كمنافس للدولة نتيجة الصراع في أوروبا وصارت الدولة وحدها هي السلطة الوحيدة المهيمنة.

ومن ثم طوَّر الفيلسوف الألماني «هيجل» أبعاد المجتمع المدني حيث أضاف في تمييزه للمجتمع المدني التمايز عن الأسرة كبُعد ثالث بَعد الكنيسة والدولة، فهو رأى أن المجتمع المدني، الذي أفرزه العالم الحديث، يمثل «الفارق» بين الأسرة والدولة.  وهذا المعنى مثلاً قد بات متضمناً في منهج التربية المدنية الذي أعدته السلطة الفلسطينية، حيث جاء في كتاب التربية المدنية للصف السابع «ويسمى بالمدني لأن الانتماء له يتجاوز الانتماء للعائلة والقبيلة أو العشيرة حيث ينتمي المواطن لمنظمات المجتمع المدني بشكل متساوٍ بغض النظر عن العائلة والجنس واللون والدين».

إذاً، هنالك ثلاثة اعتبارات لتمييز المجتمع المدني من الناحية التاريخية: وهي اعتباره البديل لسلطة الكنيسة (الدينية) على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة (السياسية التنفيذية) من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة (الاجتماعية والعائلية) التي تتمثل في الأب أو شيخ القبيلة من جهة ثالثة.

وتوضح المراجعة التاريخية للمفهوم أن مفهوم المجتمع المدني نتج كثمرة من ثمار حركة التغيير في أوروبا، وارتبط بالتغيّر في نمط الحياة المصاحبة للتغيرات في مجال التجارة والصناعة. وقد عبّر الكاتب فؤاد الصلاحي عن ذلك بالقول «يعتبر المجتمع المدني كمفهوم وكممارسة نتاجاً للتطور الرأسمالي في المجتمعات الغربية، خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث التشكل التاريخي للمجتمع الرأسمالي».

وهذا الاستعراض التاريخي لتطور مصطلح المجتمع المدني يفضي إلى خلاف جوهري بين الخلفية التي احتضنت تطور هذا المفهوم في الغرب وبين الخلفية التاريخية للأمة الإسلامية، وخصوصاً أن نمط الحياة الإسلامية -تاريخياً- ظل مستنداً إلى الإسلام حتى في مراحل سوء التطبيق، وظلت الأدلة الشرعية المستندة للوحي هي المرجع لاستنباط طريقة العيش حتى وإن أخطأ المجتهدون في مسائلهم. بينما تاه نمط الحياة الغربية ما بين هيمنة كنيسة واستبداد ملوك وأباطرة ثم بروز مفكرين صاغوا أنماط حياة جديدة بناء على أسس وضعية أو استناداً إلى فلسفات تاريخية. وحسب تحليل الجابري، هنالك تفريق بين هاتين الخلفيّتين التاريخيّتين في جوانب أخرى فمثلاً يرى أن «البلاد العربية لم تمر بحالة الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي، ولم تَسْلم من التدخلات الخارجية التي تعيق التطور في هذا الاتجاه، إضافة إلى وقوعها تحت وطأة استغلال إمبريالي عالمي».

أي أن الخلفيّتين التاريخيتين للأمة الإسلامية والغرب مختلفتان تماماً، فلا يمكن بأي حال اعتبار هذه المفاهيم إرثاً إنسانياً مشتركاً. وإن هذا الاستعراض التاريخي وتلك المقارنة يقطعان دون أي مجال للشك غرابة وانفصام مفهوم المجتمع المدني عن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية، وبالتالي فمن الخطأ الفادح استيراد مصطلحات نمت وترعرت في بيئة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة بعيدة كل البعد عن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية؛ ولذلك يتساءل المفكر الجابري: «بأي معنى، حتى لا نقول «بأي حق»، يمكن نقل هذا المفهوم إلى مجتمعات لم تعش هذه التطورات مثل المجتمع العربي» في إشارة إلى ارتباط المجتمع المدني بالتطورات الثقافية في أوروبا.

ورغم هذا الانفصام التاريخي، ورغم مثل ذلك التساؤل من قبل كتّاب ومنظّرين «موضوعيّين»(بمعنى أنهم لا ينطلقون من نظرة الإسلام السياسي في تقييمهم للأمور) حول معقولية أو أحقية نقل هذا المفهوم إلى البيئة الثقافية للأمة الإسلامية، ورغم الوضوح الصارخ لمناقضة مفاهيم المجتمع المدني مع الإسلام لعمق ارتباطها بالرأسمالية والعلمانية، إلا أننا نجد، كالعادة، من المسلمين من يحاول التزويج بين مفاهيم الغرب ومفاهيم الإسلام استجابة لمتطلب «التطوّر التاريخي للأفكار» أو ما يسمّى بالحداثة والعصرنة. وتحت وطأة ذلك التوجّه تجد بعض الكتّاب المسلمين يحاولون التفتيش في زوايا التاريخ الإسلامي عمّا يمكن أن يدعم وجهة نظرهم في التوفيق وفرض التجانس بين خلفية المجتمع المدني والخلفية التاريخية للأمة الإسلامية، من أجل تقبّل المجتمع المدني إسلامياً.

وضمن هذا السياق التوفيقي، فإن مؤسسة البلاغ مثلاً وحسب صفحتها على الإنترنت، تنفي أن يكون المجتمع المدني دخيلاً عصرياً على الثقافة الإسلامية، وتذكر دار التوحيد في كلمتها كتقدمة للكتاب الذي أصدرته مؤسسة البلاغ بعنوان المجتمع المدني: «وهكذا نعرف أنّ الحديث عن المجتمع المدنيّ في عالمنا الإسلامي اليوم ليس هو مشروعاً عصريّاً، وإن بُذِلَت جهود تنظيريّة لتحديثه وتطويره. كما نعرف أنّ الإسلام يملك من أدوات البناء الاجتماعي ما هو كفيل ببناء مجتمع مدنيّ سليم من أمراض المجتمع المدنيّ الّذي دعا له الكُتّاب الأوروبيّون، ويردّد صداهم باسم الحداثة والحرِّيّة وحقوق الإنسان».

ويؤكد هذا التوجه «لأسلمة» المجتمع المدني وتقبّله تاريخياً ما طرحه مجدي سعيد، المحرر العلمي لموقع إسلام أون لاين حيث يقول: «الحقيقة أن تاريخنا القريب، خاصة تاريخ الأوقاف في رعاية مثل تلك المؤسسات تاريخ مُشرِّف، لكن هذا الدور اضمحل وتراجع كثيراً لأسباب ليس هنا مجال ذكرها، ومن ثم فمن السهل استعادة هذا الدور؛ حيث ما زالت رُوح الخير تسري في قلوب أبناء الأمة كما كانت تسري من قبل.» ويسير معه الكاتب عماد الدين أحمد، حيث اعتبر المساجد من ضمن مؤسساته، وأرجع النهضة العلمية لدى علماء الأمة الإسلامية إلى ذلك النظام الوقفي.

إن هذا الاستناد السطحي إلى جزئية تاريخية لدى المسلمين لترويج تقبل المجتمع المدني لا يرتقي إلى مستوى المناقشة. فالنظام الوقفي ليس مسألة فكرية تؤسس لمفهوم لكي نتناولها بالبحث والمناقشة، وإنما هو ممارسة قام بها مسلمون في موضوع محدد يتعلق بالعلم والتعليم، وهذا المجال (العلمي أو التعليمي) ليس أساساً محلَ مواجهة سياسية، بل الحديث والتركيز هنا هو حول مؤسسات ذات صبغات جديدة تقوم على الفكر الغربي.

والحقيقة أن تلك المحاولات التوفيقية لا تأتي إلا من باب نظرية ابن خلدون في «تقليد المغلوب للغالب»، كما تمت الإشارة إليها سابقاً، وضمن منهجية بحثيّة خاطئة تقوم على وضع النتائج المسبقة قبل البحث: حيث قَبِل أولئك الكتّاب فكرة المجتمع المدني، ثم راحوا يبحثون عمّا يعاضد هذه الفكرة في التاريخ الإسلامي. وقبل كل ذلك فإن التاريخ ليس مصدراً للأفكار ولا للتدليل على صحتها، وإنما هو محل العبرة. وهذه السطحية في التوفيق التاريخي لا تنفي وجود محاولات توفيق فكرية (تنظيرية) سيتم التطرق لها لاحقاً ضمن هذه السلسلة.

إن العمل لدفع مفاهيم المجتمع المدني في الأمة من أجل مطلب الإصلاح أو التنمية يشبه المطالبة بالعلمانية في العالم الإسلامي من أجل النهضة؛ استناداً إلى تجربة أوروبا التاريخية في العلمانية كونها حررتها من هيمنة الكنيسة فطوّرتها!

إن تجاهل هذه الخلفية التاريخية الغربية لدى المنادين بتفعيل المجتمع المدني بين المسلمين يجب أن يكون محل استنكار من قبل الناس، لأن هذا الترويج الفكري للحلول والمعالجات في الحياة من خلال «استيراد» مفاهيم من «تاريخ غربي» جاء ردة على ظلم وظلام لم تخضع له أمة الإسلام، هو في الحقيقة كيد فكريّ سياسيّ، وتشتيت للجهود التي يجب أن تنصب في التفكير بالحلول الحقيقية التي تسهم في نهضة الأمة حسب ثقافتها، لا دوام تبعيّتها لمنتجات الغرب التاريخية والخاطئة، وانهزامها أمام ثقافته.

هذه نظرة تاريخية قديمة لانبثاق المفهوم أوروبياً، ومن ثم محاولات لصقه بالتاريخ الإسلامي، أما من حيث تطور المفهوم في العقود الأخيرة وانتشاره الأفقي خارج حدود القارة الأوروبية، فهو ذو خلفية مختلفة. وحسب مركز المجتمع المدني في لندن فإن الاهتمام بالمجتمع المدني في بريطانيا والعالم انبعث مع نهاية الثمانينات بعدما تبين أن المجتمع المدني انبثق أصلاً مع بداية الفكر الغربي الأوروبي الحديث، ومن ثم أعيد ابتداعه في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية في الثمانينات. ومن ثم انتقل المفهوم إلى بقية أجزاء العالم من خلال التبادل الثقافي ومقالات الناشطين، ومن خلال لغة الخطاب الرسمي للسياسيين والمانحين (حسب المركز).

وحسب النبذة التاريخية المتضمنة في ورقة المعلومات الأساسية المعدة لفريق الشخصيات التابع للأمين العام المعني بالعلاقات بين الأمم المتحدة والمجتمع المدني في أيار عام 2003م، فإن مشاركة منظمات المجتمع المدني أيام الحرب الباردة كانت محل جدل وتداخل مع سياسات الحرب الباردة: «فقد كانت بعض البلدان الغربية (وخاصة الولايات المتحدة الأميركية) تنظر إلى العديد من المنظمات غير الحكومية التابعة لبلدان حلف وارسو كجبهات شيوعية، وبالمقابل كانت البلدان الواقعة شرق الستار الحديدي تنظر إلى العديد من المنظمات غير الحكومية الغربية المناهضة للشيوعية كمنظّمات ممولة من قبل وكالة المخابرات المركزية.» ومن ثم تتحدث أن فترة الإقلاع في أنشطة الأمم المتحدة في مجال المجتمع المدني كانت في السبعينات والثمانينات.

والخلاصة أن المجتمع المدني بُعد رئيس في الديمقراطية العلمانية، وهو أداة استعمارية في الترويج للثقافة الغربية وتحقيق برامجها السياسية، ما يوجب على الأمة الوعي على تفاصيل هذا الهجوم الفكري والسياسي والتصدي له، وهذا ما ستتناوله الحلقات اللاحقة من هذه السلسلة. إن شاء الله تعالى.q

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *