العدد 388 -

السنة الثالثة والثلاثون – جمادى الأولى 1440هـ – ك2 / يناير 2019م

العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها ـ دراسة بدائية ومختصرة (3)

العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها ـ دراسة بدائية ومختصرة (3)

عبد الحميد عبد الحميد

الدولة مؤسسة تستمد هيبتها من ثقة الأمة التي شكلتها بهدف تحقيق طموحاتها داخل حدودها وخارجها، فلا بد من حيازتها قوة تمكنها من تحقيق تلك الطموحات.. وهذه دراسة بدائية ومختصرة لأهم العوامل الجغرافية لقوة الدولة وضعفها، لخصتها من أحد كتب الجغرافيا السياسية، لتنبيه الشباب عليها، وتكون نواة لدراسات تالية متخصصة ومعمقة.

وقد تناولنا في العددين السابقين العوامل التالية: الموقع الجغرافي للدول، ومساحتها، وشكلها، والتضاريس، السهول، والجبال، والموارد الطبيعية، والمناخ، والعامل الاقتصادي. وسنتناول في هذا العدد العوامل الباقية التالية: العامل السكاني، والعامل السلالي، والعامل القومي، والعامل الديني، والعامل اللغوي.

9ـ العامل السكاني:

لشعب الدولة الدور الرئيس في قيامها وبناء قوتها، من خلال قيامهم بالأعمال والأنشطة اللازمة لذلك. وتعد الثروة البشرية عامل قوة للدولة إذا توافر فيها عاملا الكم والنوع والتجانس القومي واللغوي والسلالي والديني، مما يمنحها القوة والاستقرار والتماسك الداخلي، وبذلك تكون دولة نموذجية، ولا تكاد هذه الصفات تتحقق في دولة واحدة. فالسكان هم الثروة الحقيقية للدولة التي يمكن لها من خلالها تحقيق ما تصبو إليه من طموحات سياسية عالمية، فمن خلالهم تستغل الموارد الطبيعية، وتهتم بالعلم والتقنية، وتحافظ على وجودها، وتوسع حدودها.

أ ـ التعداد العام للسكان:

إن وفرة التعداد السكاني للدولة بحد ذاتها تعد عامل قوة لها، بينما تشكل قلة ثروتها البشرية عامل ضعف لها لا يمكن تجاوزه ولو توافرت لديها بقية عناصر القوة من مساحة كبيرة كأستراليا مثلًا، أو مستوى عسكري وصناعي متطور كالبرتغال ذات الـ/92000/ كم2 و/11/ مليون نسمة حاليًا، والتي سيطرت خلال بداية الحقبة الاستعمارية على مساحات أكبر من مساحتها بعشرات المرات في أفريقيا وأميركا الجنوبية، لكنها وبسبب نقص ثروتها البشرية كانت أول الدول التي تخلت عن مستعمراتها لصالح بريطانيا ذات الـ/243000/ كم2 و/65/ مليون نسمة، والتي احتفظت بمستعمراتها إلى منتصف القرن الماضي، وفقدت معظمها لصالح الولايات المتحدة.

ب ـ التركيب السكاني:

تختلف الدول عن بعضها في مستوى الزيادة الطبيعية للسكان. ففي الدول الصناعية الغربية تقل كثيرًا هذه النسبة، مما يجعل المتقدمين في العمر يحتلون القاعدة العريضة من الهرم السكاني. حيث يساعد على ذلك التقدم الاقتصادي والطبي، وتسببه أصلًا عوامل ثقافية واجتماعية تحد من الزواج والإنجاب، مما يجعل الشعب يصل إلى مرحلة الشيخوخة لصغر القاعدة التي يحتلها الشباب في الهرم السكاني لقلة الولادات، مما يدعو هذه الدول كالسويد والدانمارك إلى إطلاق البرامج التثقيفية الاجتماعية التي تشجع على الزواج والإنجاب. وهذا على عكس الدول المتخلفة صناعيًا، حيث تفوق نسبة الولادات نسبة الوفيات ويقل متوسط عمر الفرد، مما يقلل من عدد المتقدمين في العمر نسبة إلى عدد الشباب والصغار.

ويترتب على هذا الاختلاف بين الدول اختلاف في وجهات نظر شعوبها بين المحافظة على القديم المرتبط عادة بكبار السن، وبين الثورة من أجل التغيير واستخدام العنف المرتبط بالشباب. وعلى اعتبار أن الشباب هم أداة الدولة الفعَّالة في جميع أنشطتها الاقتصادية والعسكرية، فوفرة عدد الشباب تشكل عامل قوة في الدولة.

وبملاحظة أن البلدان التي يكثر فيها الشباب ويقل الشيوخ تتصف بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وأنها تكون مستباحة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا من قبل الدول الصناعية، فأجواء الثورة على الأوضاع القائمة مهيأة جدًا في هذه البلدان. وعلى اعتبار أن هذه البلدان المتخلفة صناعيًا تتميز بارتفاع نسبة الذكور على الإناث، فهذا يمنحها القدرة على تقديم ما يلزم من الضحايا البشرية على مذابح الثورة والتغيير دون أن يتأثر نموها بالخلخلة الحاصلة في صفوف الرجال. فالشعوب التي تفقد الكثير من شبابها في ثوراتها وحركات التحرر سرعان ما تعوض النقص الحاصل عبر التزايد السكاني الطبيعي. وخير مثال على ذلك الزيادة السكانية الأعلى في العالم التي حاز عليها الفلسطينيون وبلغت نسبة 40 ‰، بينما تبلغ في الدانمارك 8 ‰. وزيادة النساء على الرجال في دول الشمال الصناعية يزيد أيضًا من قيم الانطواء على الماضي والمحافظة على القديم، حيث يلاحظ أن النساء خلال عمليات الاقتراع دائمًا تقف إلى جانب اليمين والأحزاب المحافظة.

ج ـ التوزع الجغرافي للسكان:

يرتبط التوزع الجغرافي للسكان بالعوامل التضريسية والمناخية إضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية. فالإنسان يجنح دائمًا إلى العيش في ظل ظروف مناخية مريحة، ومساعدة له في نفس الوقت على تأمين ضروراته الحياتية وتطوره المادي والفكري واستقراره الاجتماعي والنفسي؛ لذلك نجد المناطق الخصبة ذات الحرارة والرطوبة الكافيتين لقيام زراعة جيدة هي التي تكون آهلة بالسكان أكثر من غيرها، وبشكل خاص مناطق الترب الحقلية في أودية الأنهار، حيث تكون الكثافة السكانية في أعلى قيمها لتوافر الماء والتربة الجيدة والحرارة المعتدلة، كما هو قائم في مجرى وادي النيل الأدنى. وفي سوريا نجد أن الكثرة الساحقة من السكان متواجدة غرب خط الأمطار الكافي للزراعة البعلية، وهو الخط الممتد من شمال البلاد إلى جنوبها متماشيًا تقريبًا مع الطريق المعبد الواصل بين حلب ودمشق مرورًا بحماة وحمص ووصولًا إلى درعا؛ حيث تكثر غرب هذا الخط المراكز السكنية الكبيرة، في حين أن شرقه ذو كثافة سكانية قليلة، مع وجود النظام الرعوي لقلة المعدل السنوي للأمطار الذي لا يسمح بقيام الزراعات البعلية.

أما العامل الاقتصادي الاجتماعي فغالبًا ما يلعب دوره في الإغراءات التي يتعرض لها سكان الأرياف من قبل الإمكانات التي تقدمها المدينة القائمة على أعمال الصناعة والتجارة وتوافر فرص العمل المأجور أكثر من الريف، مما يؤدي إلى تفاقم الهجرة؛ حيث يشكل المهاجرون حول المدينة سورًا من الأحياء الشعبية غير المنظمة وغير المخدمة كذلك، إضافة إلى إفراغ الأراضي الزراعية من اليد العاملة وتراجع الإنتاج الزراعي مع تزايد عدد المستهلكين. وهذه ظاهرة عالمية نجدها عند معظم الدول. ففي فرنسا يشكل سكان الريف نسبة 20% من مجموع السكان، وفي إيطاليا 30% وفي الولايات المتحدة 25%.

وإذا ما نظرنا إلى التوزع السكاني حسب مساحة البلد نجد أن بعض الدول الكبيرة ككندا وأستراليا والصين يتركز سكانها في منطقة واحدة أو اثنتين على حساب المساحة العامة شبه الخالية من السكان. فالصين البالغ عدد سكانها /1.4/ مليار نسمة، والتي تصل كثافتها السكانية إلى /88/ شخصًا في الكم2، نجد أن خُمس مساحتها تقريبًا غير مأهول بالسكان في شمالها الغربي؛ حيث إقليم تركستان الشرقية المسلم ذو المساحة البالغة /1.8/ مليون كم2، بينما لا يزيد عدد سكانه على /25/ مليون نسمة.

إن هذا التوزع السكاني غير المتناسب مع المساحة يشكل نقطة ضعف للدول، ويسبب لها العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث تضطر الدول إلى وضع خطط التنمية التي عادة ما تكون منصبة على المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة على حساب بقية المناطق الأخرى، وهذا ما يجعل من بعض مناطق الدولة متقدمة اقتصاديًا وخدميًا، وبالتالي مختلفة اجتماعيًا عن بقية مناطق الدولة.

ومن المشكلات الأخرى التي تخلقها معدّلات التمدّن (أي سكنى المدن) العالية هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي السيئ للمهاجرين إلى المدينة، مما يجعل من تجمعاتهم الفقيرة والمحرومة بيئة حاضنة ومستقبلة لأفكار التغيير السياسي والثورات، في حين تكون المناطق الأكثر راحة اقتصاديًا أكثر محافظة على واقعها.

ومنها كذلك ازدياد تلوث الهواء والماء بنفايات المراكز السكنية الكبيرة ومناطقها الصناعية. فسكان الولايات المتحدة البالغ عددهم /325/ مليون نسمة، والذين يشكلون واحدًا إلى عشرين تقريبًا من سكان العالم، يشكّل نصيبهم من تلوث البيئة ثلث التلوث العالمي.

د ـ التركيب الأنثروبولوجي للسكان:

يشكل التركيب الأنثروبولوجي للسكان عامل قوة كبير للدولة إذا ما كان المواطنون متجانسين في أصولهم البشرية واللغوية والدينية، مما يجعل منهم وحدة متماسكة بعيدًا عن الاضطرابات الداخلية. بينما إن لم يكونوا متجانسين فالدولة تكون معرضة لحركات التمرد والانفصال والحروب الأهلية. وغالبًا ما تظهر أعراض عدم التجانس هذا في الدول الضعيفة غير القادرة بهيبتها على ضبط هذه الاختلافات بين المواطنين وعدم السماح باستغلالها من قبل الأعداء.

1ـ العامل السلالي:

تقسم البشرية حسب الدراسات الحديثة إلى ثلاث مجموعات سلالية كبيرة، هي المجموعة الأوروبية، والمجموعة المغولية، والمجموعة الأفريقية. وتتصف كل مجموعة بصفات شكلية تنتقل بالوراثة، وتجعل من أفرادها يختلفون شكليًا عن غيرهم من أفراد المجموعتين الباقيتين.

فالمجموعة السلالية الأوروبية ينتشر أفرادها من الهند إلى شمال غرب أوروبا بما في ذلك الشمال العربي الأفريقي. أما المجموعة السلالية الأفريقية فلا توجد إلا في القارة السمراء جنوب منطقة الصحراء الكبرى. وأما المجموعة السلالية المغولية فينتشر أفرادها في شرق وجنوب شرق وشمال شرق القارة الآسيوية.

إن التجانس السلالي إذا ما تحقق عند رعايا الدولة فإن في ذلك قوة لها، والعكس صحيح. ومن أمثلة ذلك عدم التجانس السلالي في جنوب أفريقيا بين السكان السود الأصليين وبين حكامهم البيض سابقًا من المحتلين الإنكليز، والذي أدى إلى اضطرابات سياسية كبيرة، ما أدى إلى تغيير نظام الحكم. ومنه عدم التجانس القائم في الولايات المتحدة بين الحكام البيض ذوي الأصول الأوروبية وبين السود والملونين من ذوي الأصول الأفريقية والآسيوية، والذي يتفاقم خطره بتصدر الأوروبيين للمشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري، وممارسة سياسة التفرقة العنصرية والتمييز ضد السود والملونين.

2ـ العامل القومي:

إذا كان سكان الدولة من قومية واحدة كانت الدولة أكثر استقرارًا وأبعد عن الاضطرابات الداخلية التي ستشغلها عن التمدد والتوسع، على عكس الدول ذات القوميات المتعددة، إلا إذا كان أفراد هذه القوميات متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون.

ومن أمثلة ذلك بريطانيا التي يشكل الإنجليز فيها أربعة أخماس السكان، والخُمس الباقي يتكون من الإسكوتلنديين والإيرلنديين والويلزيين والغاليين، الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم ويختلفون بدياناتهم عن الإنجليز. فأغلب الإيرلنديين هم من الكاثوليك، والإسكوتلنديون من البروتستانت، وأما الإنجليز فمن أتباع الكنيسة الإنجليكانية. إضافة إلى أن الإيرلنديين هم جزء من جزيرة إيرلندة؛ حيث تعد إيرلندة الشمالية مستعمرة بحقّ لإنجلترا، وتسعى إلى الاستقلال عنها والانضمام إلى إيرلندة الجنوبية. هذا إضافة إلى القومية الغالية القريبة من الفرنسيين في اللغة والتقاليد والعادات. إلا أن ما يبعد عن الدولة البريطانية الاضطرابات الداخلية قوة الدولة وموقعها الجزري الذي لا يساعد على تقديم المعونة لمن يريد الاستقلال من قومياتها، فلو كانت بلاد الإنجليز متصلة بأراضٍ قارية لكانت روح الانفصال نامية عند الإسكوتلنديين والغال والويلزيين أكثر مما هي عليه الآن. أما بالنسبة للإيرلنديين فإن انفصالهم عن الجزيرة الإنجليزية واتصالهم البري بوطنهم الأم ينبه فيهم شعورهم القومي ويدفعهم إلى المطالبة الدائمة بنيل الاستقلال. ومعلوم ما كان يشكله الجيش الجمهوري الإيرلندي من خطر على استمرار انضمام إيرلندة الشمالية إلى المملكة المتحدة.

أما كندا التي يشكل فيها الإنجليز 40% والفرنسيون 30%، فنجد الفرنسيين دائمي المطالبة بالانفصال عن الجانب الإنجليزي مدعومين من قبل فرنسا، فهم يشكلون منطقة التجمعات السكنية الأولى كيبك، ولا زالوا محافظين على عاداتهم وتقاليدهم ولغتهم وكاثوليكيتهم في ظل تصدر الإنجليز البروتستانت للحياة السياسية والاقتصادية.

3ـ العامل الديني:

يمنح الدين الواحد الدولة مزيدًا من القوة والتماسك الداخلي، على عكس الدول متعددة الأديان، وخصوصًا إذا ما رافق ذلك اختلاف في اللغة والقومية، وكانت الدولة ضعيفة بما يسمح بالتدخل الخارجي. ومن أمثلتها ما استطاعت الدول الغربية خلقه من فتن بين الطوائف في لبنان أواخر الدولة العثمانية، وكذلك الجزيرة القبرصية الممزقة بين الطائفة اليونانية بلغتها القومية ودينها المسيحي، والطائفة التركية بلغتها القومية ودينها الإسلامي.

وهناك الهند التي تتميز بتنوع ديني حيث يشكل الهندوس نسبة 80% من مجموع السكان، ويشكل المسلمون 13%، إضافة إلى وجود المسيحيين والسيخ والبوذيين بنسب قليلة، إضافةً إلى ما تعانيه من التفرقة القومية واللغوية الحادة لدرجة يصعب معها التخاطب بين السكان إذا ما انتقلوا من جهة إلى أخرى في ذلك البلد الكبير. فعلى الرغم من أن نسبة 42% من السكان يتكلمون اللغة الهندية، إلا أن الدستور يعترف بـ/15/ لغة رئيسة أخرى و/720/ لهجة و/72/ لغة ثانوية و/24/ لغة قبلية. ولذلك فالهند تعد مهيأة للتشظي والتفتت إذا ما ضعفت الحكومة المركزية ووجد من العوامل الخارجية ما يدفع إلى ذلك.

4ـ العامل اللغوي:

تعد اللغة عاملًا جامعًا بين الناطقين بها، فتولد فيما بينهم شعورًا بالقربى والتعاطف. ومثالها البارز ما هو قائم بين المسلمين، حيث تشكل الثقافة الإسلامية بثوبها العربي جزءًا أصيلًا من تاريخهم وشخصيتهم الحضارية، وعاملًا موحّدًا لهم جميعًا إذا ما أرادوا يومًا الانضواء تحت دولة واحدة ذات نظام إسلامي هي دولة الخلافة.

في الختام يجب التذكير بأن هذه كانت دراسة بدائية ومختصرة، وينبغي أن تكون نواة لدراسات متخصصة ومعمقة في مواضيعها المختلفة. وعلى الله قصد السبيل.  [انتهى البحث]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *