العدد 383 -

السنة الثالثة والثلاثون، ذو الحجة 1439هـ،، آب 2018م

واجب العلماء تجاه عملية التغيير وإقامة الدين

واجب العلماء تجاه عملية التغيير وإقامة الدين

محمد جامع أبو أيمن

 مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير – ولاية السودان

إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أهل الخشية من الله، وهم الطليعة في بيان الحق للناس، لا خداعهم، وتضليلهم… هم الذين وجب عليهم نصح القائمين على أمر الناس، من الحكام، والسياسيين، لا مداهنتهم وتملقهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨﴾. وقيل إن أبا حنيفة – رحمه الله – رأى غلامًا صغيرًا أمامه حفرة، فقال له: (إياك يا غلام أن تسقط، فقال هذا الغلام: بل إياك يا إمام أن تسقط، إني إن سقطتُ سَقطتُ وحدي، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالم). فسقطة العالم تُسقط معها كثيرًا من الناس الأبرياء..

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» رواية البخاري. وقد حرَّم النبي صلى الله عليه وسلم على العلماء مجاراة الحكام، خاصة إذا هضموا حقوق الرعية، ونشروا الظلم والفساد بين الناس، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: «أَعَاذَكَ الله يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ، فَقَالَ: مَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلاَ يَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدْقِهْمُ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي». المستدرك للحاكم وأحمد في مسنده وغيرهما. وقد أوجب الشرع على جميع المسلمين قول الحق، والتذكير به، دون تردد أو خوفٍ، كما في حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ» البخاري ومسلم وغيرهما؛ لذلك كان العلماء في مقدمة الناصحين للأمة، الحاملين لواء التغيير على أساس الإسلام، دون خوفٍ من حاكم أو أمير، كما أوجب الشرع على العلماء ألا يكونوا عونًا للظالمين، فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، لا لحاكمٍ ولا لأميره، فالطاعة المطلقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما طاعة الحكام فمربوطة بتطبيقهم للشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» مسلم. فطاعة الحكام، بناء على هذا الحديث، مربوطة بتطبيق كتاب الله، وهنا تسقط حجة القائلين بعدم العمل للتغيير لأن فيه خروجًا على الحكام، فأدلة الخروج تنطبق على الحكام الشرعيين، الذين (دخلنا عليهم ودخلوا علينا) بالبيعة الشرعية، التي تعطى للحاكم في الإسلام، وهو الخليفة، الذي تنطبق عليه أدلة الحكم، والخروج، والطاعة، والمعصية. أما حكام اليوم، فهم مغتصبون لسلطان الأمة، متحكمون في مقدراتها، عملاء للكفار المستعمرين؛ لذا وجب على العلماء أن يعملوا على تغيير هذا الوضع الذي تَحكَّم فيه رويبضات الحكم الجبري، ويجب أن يُرفع ظلمهم، بإقامتها خلافة راشدة على منهاج النبوة؛ لأنه الطريق الوحيد الذي رسمه الإسلام في مسألة الحكم، ولم يُجِزِ الإسلام غير الخلافة دولةً ونظامًا، وغير الخليفة حاكمًا؛ لذا فإن لم يستطع العلماء اتخاذ المواقف الشرعية، والثبات على الحق، فليصمتوا، ولا يدافعوا عن الباطل، بل فليختاروا العجز على الفجور، كما في الحديث.

وليس بالضرورة أن يكون فساد الحكام من فساد الأمة، فقد حكى القرآن أن الحكام يُفسدون الناس، قال تعالى: ﴿وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ ٧٩﴾. وقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧ رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٦٨﴾.

قال عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: «إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُسْتَقِيمِينَ مَا اسْتَقَامَتْ لَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ وَهُدَاتُهُمْ». فصلاح الرعية بصلاح الحكام، فإذا فسد الحكام، فسدت الرعية؛ لأنهم هم الذين يتحكمون في الرعية، وليست الرعية هي التي تتحكم فيهم؛ لذا وجب على العلماء الربانيين، الذين يخشون الله تعالى، العمل مع المخلصين من أبناء الأمة، لبيعة شرعية، لحاكم شرعي، ليكون خليفة للمسلمين، يسوس الأمة بالإسلام، ويوردها موارد الخير.

وقد حذر الله تعالى العلماء من كتمان الحق، لأي سبب من الأسباب، وأعدَّ عقوبة لمن يفعل ذلك، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠﴾.

 إنَّ الأصل في علماء الأمة، أنهم منهل الخير، يسقون الأمة بكل طيب، ويبعدون عنها المنكرات، ويقفون حاجزًا منيعًا أمام كل محاولة لخداعها، أو سرقة أموالها، وعلماء الأمة هم مثال للخير في كل زمان، ونسوق بعض النماذج والأمثلة لهؤلاء العلماء الربانيين، على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله، الذي عند ظهور خطر التتار، نصح الأمير قطز بجمع الأموال من الأمراء للإعداد للحرب، وطالبه بألا يأخذ من الناس ضرائب، إلا بعد أن يُخرج المسؤولون أموالهم، فعمل الأمير قطز بنصيحته، وكتب الله تعالى لهم النصر المبين. العز بن عبد السلام كان يقول: «مَن آثر اللهَ على نفسه آثره اللهُ، والمخاطرة بالنفوس مشروعة لإعزاز الدين». وهذا يعني أن من آثر السلامة على أن يقول كلمة الحق، فلا يستحق أن يكون عالمـًا، سمِّه إن شئت تاجرًا بالدين، أو يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا، أو يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل… إلخ، لكنه لا يُسمى عالمـًا؛ لأن شرط العالم ليكون ربانيًا أن يبين للناس الحق، ولو كان على نفسه؛ لأن العلم هو ميراث الأنبياء، والأنبياء آثروا طاعة الله على أنفسهم… والإمام أبو حنيفة، شيخ الفقهاء في العراق، عُرض عليه تولي القضاء فرفض، وقال للحاكم: «لا يتولى القضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم عليك وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي» حُبس، وكان يُخرج من السجن كل مرة فيضرب عشرة سياط، حتى ضرب مائة وعشرة سياط، ومنع من الفتوى… ولم يغيِّر ولم يبدِّل، ولم يتراجع عن قول كلمة الحق… والإمام مالك، مُنع من رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «ليس على مستكْرَہٍ طلاق» لأن الناس قاسوا على هذا الحديث أنه ليس على مُستكره بيعة – فأمر الحكام مالكًا رضي الله عنه، ألا يروي هذا الحديث، إلا أنه رفض، فضُرب سبعين سوطًا… والإمام البخاري الذي نُفي لأنه لم يرض بأن يذهب إلى قصر الوالي، ليدرس أبناءه هناك، فأبى أن يذهب قائلًا: «في بيتي يؤتى العلم».. وظل على ذلك حتى مات، يرحمه الله تعالى… والإمام الشافعي، وقف ضد والي اليمن، الذي كان يظلم الناس، وأنكر عليه الشافعي، ومنعه من إيقاع الظلم بالرعية، فدبَّر له الوالي، وكاد أن يقتل بعد أن حكم عليه بالقتل، إلا أن الله نجاه… والإمام أحمد الذي كان يقول: «إذا أجاب العالمُ تَقِيَّة والجاهلُ يجهل فمتى يتبين الحق».. فقد ضُرب هذا الإمام الكريم، في فتنة خلق القرآن، حتى فقد الوعي؛ فلم يرجع عن رأيه وموقفه الشرعي، وقد غضب عليه الحاكم، حتى بلغ جلادوه مائةً وخمسين جلادًا.. وضُرب مرات ومرات، في إحداها بلغ الضرب مائة وعشرة سوطًا.. وقد كان الإمام أحمد يقول لمن معه، كيف تصنعون بحديث خباب «إن من كان قبلكم ينشر بالمنشار، فلا يصده ذلك عن دينه»، قال فيئسنا منه. وحديث خباب الذي يقصده هو ما رواه الإمام البخاري والإمام أحمد في مسنده وغيرهما: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» البخاري. والإمام ابن تيمية، الذي سُجن في قلعة الإسكندرية، بسبب آرائه الفقهية، ومُنع مرارًا من الدرس والتعليم والاختلاط بالناس، وقد أدخل السجن لفترات عدة، بلغت سبع مرات، كانت أولها سنة 693هـ (1293م)، حتى تُوفي في قلعة دمشق...

إن الإسلام نظام متكامل للحياة، فقد نظم شؤون المال، والاقتصاد، والحكم، والسياسة، فالأصل في العلماء أن يقدموا فهمهم من الإسلام لعلاج الأزمات، وليساهموا في نهضة الأمة، وتغيير هذا الواقع المرير، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾. وقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِه،ِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *