العدد 326 -

السنة الثامنة والعشرون ربيع الأول 1435هـ – كانون الثاني 2014م

جزائرُ «الاستقلال» بين حقد جنرالات فرنسا و خبث عملاء الإنجليز (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

  جزائرُ «الاستقلال»

 بين حقد جنرالات فرنسا و خبث عملاء الإنجليز (1)

صالح عبد الرحيم – الجزائر

الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد،

نقدم في ما يلي رؤية سياسية تساعدُ على فهم ما يحدثُ في الجزائر اليومَ، و تكشف المستورَ (أو بعضه) مما يحيكه الاستعمار الغربي في هذا البلد، كما فعل و يفعل في كل أقطار البلاد الإسلامية لإبقائها تحت النفوذ و الهيمنة الاستعمارية، أملاً في أن يتحرك المسلمون مجدداً – في الجزائر و في غيرها – في اتجاه التحرر الحقيقي، بالإسلام لا بغيره… ولن يكون ذلك  إلا بقيام دولة الخلافة من جديد…

(الجزء الأول)

بالنظر إلى ما خاضه شعبُ الجزائر المسلم من معارك ضد المستعمر الأجنبي في سبيل التحرر والانعتاق، فإننا نلاحظ اليومَ أن الجزائر تعيش أوضاعاً شاذةً للغاية على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الاقتصادي، كما نلاحظ أن البلاد تشهد هذه الأيام تحولاً خطيراً غاية الخطورة على الصعيدين الثقافي والاجتماعي. والمشاهَد بالحس أن هذه الأوضاع تسير وتتجه تماماً عكسَ ما من أجله قامت ثورةُ التحرير الجزائرية سنة 1954م، إذ كان الهدف المعلن وقتَها بحسب القائمين عليها إنهاء الهيمنة الاستعمارية، التي دامت قرناً و ثلث قرن من الزمان بعد أن نجحت فرنسا في فصل الجزائر عن الخلافة العثمانية في 1830م.

والناظر إلى حالها اليومَ يجد اضطراباً في شؤونها في جميع الميادين، ما يطرح أكثرَ من سؤال على حاضرها ومستقبلها. كما لا يخطئ المراقبُ لما يحدث في جزائر «الاستقلال» أن ساستها لا يريدون لها صلاحاً ولا فلاحاً، بعيداً عن الاستعمار، خصوصاً  وأنهم مرتَهَنون للأجنبي ومرتبطون به، في غياب وعي سياسي صحيحٍ لدى نُخبها على مستوى تطلعات أهلها.

وبالنظر إلى أن كل مشكلاتِ البلاد دون استثناء مرتبطةٌ عضوياً بتدخل هذا المستعمر الكافر البغيض في جميع أمورها، كما هي حالُ كل البلاد الإسلامية منذ مجيء الاستعمار، وبالأخص من يوم زوال ظلِّ الخلافة الإسلامية، علماً أن الجزائر تزخر حقيقةً بكل المؤهلات لقيام دولة حقيقية على أرضها.

ولكي لا يتكرر تحوُّلُ الصراع والنضال كفاحاً رخيصاً المرة تلو المرة، فإن الرهان اليومَ يظل حتماً – كما كان دوماً – مواصلة الكفاح السياسي انطلاقاً من الإسلام، الذي هو وحده مكمن الفهم والوعي والطاقة والقوة، في وجه عدو الأمس      واليوم، وهو الآن دون شك الغربُ الاستعماري الحاقد. إلا أن هذا الكفاح السياسي المبني على الإسلام لن يؤتي أُكله كما يلزم، ولن يكلل بالنجاح التام والتحرر الحقيقي، إذا لم يكن جزءاً منه فهمُ ما يجري على أرض الواقع من صراع بين الفاعلين ليس محلياً فحسب، و إنما أيضاً دولياً وبشكل يلامس الحقيقة. لهذا كان لابد من الرجوع إلى شيء من التاريخ القريب بقدر ما يتسنى للمتتبع إدراكُ واقع ما يجري الآن في هذا البلد، بقصد المساهمة في إحداث وإنجاز التغيير الذي تريده الأمة حقيقةً.

ولكي لا نعودَ بعيداً إلى الماضي ونتطرق إلى ظروف وملابسات التدخل الأوربي في الإيالة (إذ كانت الجزائرُ يومها ولايةً من ولايات دولةِ الخلافة العثمانية)، ونتطرق إلى ظروف الاحتلال الأجنبي، وإلى الصراعات قبل الثورة الجزائرية، وإبان الثورة على المستعمر الفرنسي (1954م-1962م)، ونسألَ من أشعلَها ومن كان وقودَها، وما الذي تمخض عنها منذ فجر «الاستقلال» من  أوضاع على الصعيد السياسي، نقول:

إن الوضع السياسي في الجزائر لا يمكن أن يُفهم الآن إلا من زاوية الصراع بين قطبين أو طرفين متنافسين على النفوذ، لكل منهما امتداداتُه الواسعة فكراً وثقافةً وولاءً في كافة أوساط المجتمع – بما في ذلك وبالأخص مَكمَن القوة فيه أي في المجتمع وهو الجيش – سواء من خلال المؤيدين المقتنعين ومن العملاء السياسيين والفكريين، أو من خلال المؤيدين المنتفعين والمرتبطين بالمصالح والمنافع: طرفٌ يمثله (الآن بعد انقلاب 1992م) في جهاز الحكم أقطابُ فرنسا في المؤسسة العسكرية (الجيش) ومنه الاستعلامات العسكرية (الاستخبارات)، والتي يسيطرُ عليها الآن في كثير من المواقع الحساسة ضباطٌ سامون، ممن دسَّتْهم فرنسا في صفوف الثورة بين 1956م و 1958م لاكتساب الشرعية، عندما أيقن ديغول – الذي لم يكن يخفى عليه أن الدعم للثورة في الجزائر إنما كان يأتيها من الخارج – أن الوضع الدولي آنذاك كان يقتضي تغييرَ شكلِ الهيمنة. فكانت تلك الأجواء إبان الثورة التي  أوجدها المستعمرُ الفرنسي نفسُه تحت الضغط العسكري (القتالي) من الداخل والضغط السياسي (الدبلوماسي) من الخارج، وما شرع فيه من ترتيباتٍ  أفضت إلى المفاوضات ثم إلى ما سمي «الاستقلال». وهم اليوم في الكثير من المناصب العليا والمواقع الحساسةِ في الدولة: الجيش، الدرك، المخابرات، الشرطة، الإدارة المركزية، وغيرها. ويحمل هؤلاء أسماءَ المسلمين (علي، عمار، محمد، خالد…) وفي أدمغتهم  ثقافةَ فرنسا، وفي رؤوسهم عيونَها وفي قلوبهم حبَّها والولاءَ لها، ويعشقون الكتابة والتحدثَ بلغة المستعمر، وما فتئوا يعملون متعاونين متضافرين منذ 1962م، بل من أيام الثورة، على أخذ السلطة عندما تتهيأ الظروفُ وتحين الفرصة، أي بعدما تهدأ الخواطر وتبرد جذوةُ حرب التحرير   وتُنسى الآلام والجراحُ وتُطوى المآسي وويلاتُ الاستعمار! ومما زاد من شرعيتهم مشاركتُهم الذكيةُ (بتدبير من المستعمِر الفرنسي) فيما عُرف بانقلابي 62 و 65، و لهذا لم يكن أبداً سهلاً على من جاء فيما بعدُ إبعادُهم، حتى جاء الظرفُ المؤاتي وتمكنوا من أخذ الحكم في انقلاب 1992م، أي بعد ثلاثين عاماً من خروج القوات الاستعمارية.

وهؤلاء الجنرالات هم أنفسهم من دبَّر لإبعاد أو تقليص نفوذ الطرف الثاني في الصراع، الذي كان يمثله الراحل بومدين وزمرتُه فيما عُرف في أواخر الثورة التحريرية بمجموعة وجدة (وجدة: مدينة مغربية على الحدود مع الجزائر غرباً، انطلقت منها هذه العصبةُ المرتبطة مادياً وسياسياً وأمنياً بالإنجليز)، قلتُ: هؤلاء الضباط هم من دبر لإزاحة هذا الطرف عن الحكم، بتسميم بومدين والتخلص منه في نهاية المطاف في أواخر 1978م، وإبعاد أبرز مقربيه من أمثال بوتفليقة… (وغيرُه كثير). ويجب ألا يغيب عن الأذهان ما كان يمثله بومدين ومؤيدوه في جيش التحرير وجبهة التحرير الوطنيين في تلك المرحلة، وهو الرجل القوي في الجيش من أيام الثورة، حيث كانت تدعمه يومها وزمرتَه في الخفاء جهاتٌ أجنبية عبر الحدود مع المغرب، تتمثل في الإنجليز وعملاء الإنجليز تحديداً، خصوصاً في الانقلاب الذي كانوا قد خططوه ودبروه لسلفه بن بلَّا صديق عبد الناصر في العمالة والتبعية للأميركان. كان الراحل بن بلَّا مرتبطاً بعبد الناصر وبالتالي بأميركا، وكان كأول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة يريد أن يتجه بالجزائر نحو النظام الناصري، ويجب ألا ننسى أنه هو أيضاً كان مشبعاً بخليط من الثقافة الغربية ومغلفاً بالأفكار الاشتراكية اليسارية، كما أنه خدمَ في الجيش الفرنسي وأسهم في معارك الجبهاتِ الفرنسية والإيطالية أثناء الحرب العالمية الثانية.

والحقيقة أن الثورة الجزائرية منذ البداية كانت تلقى تأييداً عربياً واسعاً (خاصةً شعبياً من تونس والمغرب، ومن مصر وسوريا والعراق وغيرها…) وتلقى دعماً دولياً أميركياً-سوفياتياً في الأمم المتحدة بحكم الظروف الدولية آنذاك، وتلقى دعماً شعبياً    ومادياً ودعائياً كبيراً من مصر-عبد الناصر على وجه التحديد (إذاعة صوت العرب على سبيل المثال كان يصل بثها من القاهرة). والحقيقة أن بومدين العسكري الفطن سياسياً وجماعتَه دبروا لِـ بن بلَّا مكيدتين متتاليتين لم يستيقظ منهما حتى  وجد نفسه في السجن ليمكث فيه حتى مطلع الثمانينات بعد موت بومدين، أي بعدما تغيرت الأوضاعُ في البلاد تماماً بمجيء بن جديد مع بداية 1979م.

ونظراً لما للمؤامرتين -كما سيتبيَّن- من أهمية في تشكيل الدولة والسلطة والمجتمع مستقبلاً في الجزائر، وبالتالي في تحديد نمط الحكم والسياسة في البلاد، وصولاً إلى الوضع الحالي الذي هي عليه الآن، والذي اختلط فيه العسكري بالسياسي والأمني كما هو شأن جميع البلاد المستعمَرة أو التي خضعت للاستعمار أو ما زال يحكمها المستعمِر بيد أبنائها

ونظراً لما فيهما من عبرة  تُبرز أهميةَ الوعي السياسي من زاوية الإسلام في العمل الجاد بقصد تصحيح أوضاع الأمة الإسلامية، وتكشف ألاعيبَ ومكائدَ الدول الرأسمالية الاستعمارية الخبيثة، التي يستحيل معها قيامُ كيان سياسي للمسلمين يُعيد الأمورَ إلى نصابها في بلادهم الغنية بالثروات من كل صنف، والواسعة بَشَرياً وجغرافياً، ويمكِّنهم من حمل رسالتهم إلى العالم ومن إيصال دعوتهم إلى شعوب الأرض، إلاَّ أن تمتلك نخبُهم في مجملها فكراً راقياً يعالج الواقعَ، ووعياً سياسياً على مستوى أو يفوق ما تمتلكه الدول الكبرى ونخبُها، وهو بالفعل ما يمتلكه حزبُ التحرير الذي نشأ في 1953م على يد الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، ونذر نفسه مذاك لغاية إعادة الخلافة الإسلامية إلى الوجود مهما كلف الأمر ومهما كان الثمن… كما تُبرز أيضاً أن التدينَ على منهج الاهتمام بالعقائد والفضائل والشمائل الفردية مع الابتعاد عن السياسة والشأن السياسي، هذا المنهج الذي يتجاهل دسائسَ ومؤامراتِ العدو الحاقد (وهو بالضبط المنهج الذي يريده ويرتضيه الحكام العملاء لصرف الناس عن السياسة وعن الاهتمام بالشأن العام)، أو التدين السطحي على منهج تقويم سلوك الفرد بالعبادات وتربية الأخلاق والانصراف إلى العمل الخيري أملاً في تغيير الأوضاع مع الزمن، أو منهج الدخول الساذج في اللعبة الديمقراطية تحت سقف ثوابتِ الدولة الوطنية ووفق الشروط والضوابط والقواعدِ التي وضعتْها الأنظمةُ العميلة بتخطيط من الكافر المستعمِر، كما حصل في الجزائر من قبلُ في التجربة المعروفة (نهاية الثمانينات)، أو كما جرى في مصر مؤخراً حيث لم يتعظْ أصحابُ التجربة بالتجارب السابقة، وحيث انقلب قادةُ المجلس العسكري على نتائج الصناديق (وهو المرتبطُ بالأميركان وصاحبُ الأمر والنهي في الجيش المصري، وبالتالي صاحب السلطة الفعلية في البلد)، كل ذلك من أصناف التدين وسطحية التفكير وبساطة العقل (السذاجة في النظرة إلى الأمور)، ليس من سياسة ولا من منهج الإسلام في إقامة دولةِ الإسلام والمجتمعِ الإسلامي في شيء!…

قلتُ نظراً لما لكل ذلك من أهمية… نرى أنه لا بد من التفصيل الآتي- ليُرى من مثال الجزائر إلى أي مدى من الكيد والعداوة والخديعة والمكر لأهل الإسلام يذهبُ هؤلاء العملاء وأسيادُهم في الغرب. ونغتنم الفرصةَ من هذا المنبر – منبر مجلة الوعي – لتوجيه الدعوة إلى أهل الجزائر خاصة، وإلى المسلمين كافة في جميع أنحاء العالم، للتعرف على حزب التحرير وثقافته الإسلامية الصرفة، وعلى فكر حزبِ التحرير السياسي الذي يقدم حقيقةً العلاجَ – من الإسلام – لكل مشاكل الأمة، وذلك من خلال الاتصال بأعضائه (مباشرة) الموجودين في الأمة في ربوع البلاد الإسلامية شرقها وغربها، أو بمكاتبه الإعلامية مباشرةً، أو من خلال إصداراته وكتبه وعبر مواقعه على الشبكة، أو بأميره الحالي الشيخ عطاء بن خليل عبر الشبكة، كل ذلك من أجل نبذ البساطة (بمعنى السذاجة السياسية المفرطة) والسطحية في التفكير، ومن أجل معرفة حجمِ التحديات، قال تعالى: ] وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [. وكذلك من أجل لمس قوة التآمر الدولي على أمة الإسلام (كما هو جارٍ الآن في بلاد الشام) لمنع عودة الخلافة إلى ديار الإسلام، قال تعالى: ] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [. قلتُ لإبراز كل ذلك، و نظراً لما له من أهمية، كان لا بد من التفصيل الآتي:

-المكيدة الأولى: تمثلت في إقناع بن بلَّا بتولي رئاسة الجمهورية  ووضعِه في الواجهة أمام العالم وأمام الشعب عشيةَ الاستقلال إثر انقلاب مفضوح على الحكومة الانتقالية المؤقتة التي كان ينتظرها الشعبُ، وكانت تتهيأ لتحكمَ الجزائر بعد خروج قوات الاستعمار في 1962م، وهو ما عُرف بانقلاب 62. ومعلوم أن الحكومة المؤقتة الجزائرية أُنشئت وأعلن عن ميلادها في 19 أيلول (سبتمبر) 1958م برئاسة فرحات عباس الرجل المناضل الليبرالي المتفرنس، لتصبح هي الممثل الشرعي، وتصبح هي الناطقة باسم الشعب الجزائري والمسؤولة عن قيادة الثورة سياسياً وعسكرياً ومادياً.

جرى هذا الإقناع لـِ بن بلَّا (كما جرى إقناع آخرين مثل الطاهر الزبيري بغرض التحالف مع بومدين في الانقلاب على الحكومة المؤقتة التي كان يرأسها وقتئذ بن يوسف بن خدة الذي خَلَفَ فرحات عباس في 1961م) عندما كان في السجن ضمن الخمسةِ التاريخيين في فرنسا، حيث جرى الاتصالُ به بواسطة مبعوث لبومدين قبيل إعلان «الاستقلال» هو بالذات الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة (عبد القادر المالي اسمه الثوري آنذاك) بعدما رُفضت فكرةُ الانقلاب من بعض رفاقه الخمسة، خاصة من بوضياف وآيت أحمد بعد نقاش حاد. تكفَّلت السفارةُ المغربية في باريس بتهيئة الوثائق اللازمة لتقميص بوتفليقة (صاحب اللُكْنَة المغربية الواضحة) شخصيةَ دبلوماسي مغربي مكَّنتْه من زيارة الخمسة في السجن. توجه هذا المبعوث – بوتفليقة –  إلى السفير المغربي في فرنسا آنذاك عبد الكريم الخطيب الذي سلمه تكليفاً بمهمة مكَّنته من الالتقاء بهم بعد دخوله (زيارته) السجن تحت اسم مستعار متقمصاً شخصية «محمد بوخلطة» السكرتير الأول للسفارة المذكورة، وهو يحمل جواز سفرٍ كانت هيأتْهُ له هذه الأخيرة خصيصاً من أجل هذه المهمة (بصمة الإنجليز)، ثم طار بعدها (أي بعد الاتفاق مع بن بلَّا) مباشرةً إلى لندن لإتمام تفاصيل الصفقة وترتيب اللاحق من المهمة. وكان هواري بومدين حينها على رأس الهيئة العامة للأركان في جيش التحرير التي كانت قد تشكلت في كانون الثاني (يناير) 1960م، وكان مقرها في غار ديماو على الحدود مع تونس. تجدر الإشارة إلى أن هيئة الأركان العامة هذه التي أُنيط بها توحيدُ جميع القوات المسلحة لجيش التحرير تحت قيادة واحدة والتي كان إنشاؤها أهمَّ ما تقرر في مؤتمر طرابلس في كانون الأول (ديسمبر)1959م، أصبحت مع نهاية 1961م تمتلك جيشاً منضبطاً ومدرباً تدريباً جيداً على الحدود قوامُه ما يربو على 35000 عنصر، ويتمركز معظمُه على الحدود الجزائرية-التونسية والحدود الجزائرية-المغربية (التي رسمها المستعمِر الأوروبي)، بالإضافة إلى القوات المسلحة الموالية لها في بعض الولايات في الداخل. وكانت قيادةُ هيئة الأركان – خاصة قيادة الحدود الشرقية – تُمثل بالتالي القوةَ الفعلية التي سوف تمسكُ بالسلطة في البلاد غداة «الاستقلال» ومغادرة القوات الفرنسية.

وكان القادة الخمسةُ التاريخيون أحمد بن بلَّا، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، محمد خيضر ومصطفى لشرف قد اختُطفوا من قِبل السلطات الفرنسية بينما كانوا على متن طائرة مدنية مغربية متوجهة من الرباط إلى تونس لحضور مؤتمر ثلاثي (تونسي-مغربي-جزائري) في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1956م. أُنزلت الطائرة في الجزائر وأودعوا السجنَ في فرنسا، حيث أبقتهم هذه الأخيرةُ لديها ريثما تنظر فيما ستفعل في قضية الجزائر. وعندما بدأت المفاوضات لاحقاً وشرعت فرنسا الديغولية في ترتيبات نقل السلطة في الجزائر الجديدة ضمن تنفيذ ما عُرف باتفاقيات إفيان (التي ما تزال تفاصيل بنودها سرية إلى الآن، مثل قضية يهود الجزائر، وكان عرابها العلماني المتفرنس والاستئصالي رضا مالك)، وهي في ذلك مرغمةٌ بفعل المعارك العنيفة    وضربات جيش التحرير (أولاً)، وبفضل النضال السياسي الجماهيري والنضال الدبلوماسي بقيادة جبهة التحرير في الداخل وفي الخارج (ثانياً)، وبالضغط الدولي الخارجي الأميركي-السوفياتي في الأمم المتحدة (ثالثاً)، تقرَّر حينئذ إطلاقُ سراحهم بعد وقف إطلاق النار في آذار 1962م.

   كما استخدم بومدين رئيس «مجموعة وجدة» المرتبطة بالإنجليز و المدعومة من قِبلهم أمنياً وسياسياً في الخفاء في اللحظة المناسبة دعمَ وتأييد القيادة السياسية لجبهة التحرير المتمَثلة تحديداً  في بن بلَّا و محمد خيضر على وجه الخصوص، ليمنحا قيادة الأركان بُعداً سياسياً ضرورياً في هذا التوقيت بالذات، (وهو الأمر الذي جعل بن بلَّا الانتهازي الطامع والطامح هو الآخر إلى السلطة والرئاسة، والذي كان يبحث عن الدعم في الداخل من قِبَل العسكريين لتحقيق مبتغاه، يبدو في الظاهر سياسياً وكأنه هو الرئيس الفعلي لما عُرف حينها بمجموعة وجدة، وليس الأمر كذلك حقيقةً، وذلك عندما قَبِل عرضَ بومدين المتمثل في التحالف معه على أن يُتوج رئيساً للجزائر «المستقلة»! وكان هذا مناورة من عملاء الإنجليز وفخاً مميتاً أفضى به فيما بعدُ إلى نهايته سياسياً!)، استخدمهما بومدين (بن بلَّا و خيضر) لكسب الدعم السياسي المطلوب دولياً، وليستفيد منهما أيضاً سياسياً في النزاع المفتعل من جانبه بين هيئة الأركان العامة (التي يرأسها) والحكومة الجزائرية المؤقتة حول اتفاقيات إفيان، التي أسفرت عنها المفاوضاتُ بين الحكومة الجزائرية المؤقتة والسلطة الاستعمارية الفرنسية. وكان هذا النزاع قد نشب على خلفية ما كان جيش التحرير يراه من تنازلاتٍ مجحِفة قدمتْها الحكومةُ من شأنها الإبقاءُ بحسب رأيه على مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية في البلاد والإضرار بالمصالح العليا للجزائر. يُذكر أيضاً في هذا الصدد أن العلاقةَ بين هيئة الأركان العامة التي كان على رأسها بومدين بمساندة قايد أحمد (وأيضاً بمساعدة كل من أحمد مدغري وعبد العزيز بوتفليقة في ناحية الغرب، وكل من علي منجلي ومحمدي السعيد في ناحية الشرق) وبين الحكومة المؤقتة، وبشكل خاص العلاقة بين بومدين وكريم بلقاسم على خلفية الصراع على النفوذ السياسي-العسكري بين الطرفين، كانت جد متوترة وبشكل لافت منذ تشكيل هذه الحكومة في شهر أيلول 1958م، حيث كان كريم بلقاسم نائباً لرئيس الحكومة ووزير القوات المسلحة فيها. يجهل أكثر العسكريين بل وأكثر السياسيين أسباب هذا الخلاف الحقيقية ويفسرونه بالطموح الشخصي للسلطة والزعامة، أو بطبيعة الاختلاف في الرؤى وأساليب القيادة، ويكاد لا يوجد من يرى للعامل الدولي حضوراً حاسماً، وللأجنبي وللكافر المستعمر الأوروبي أو الأميركي تدخلاً مباشراً إلى هذا الحد وأبعد في توجيه الأحداث وترتيب الأوضاع في جزائر المستقبل، مع أن هذه النظرة العالمية هي من صميم الوعي السياسي على مجريات الأحداث في العالم، وفي البلاد الإسلامية خاصة.

يخفى على الكثير مثلاً أن كل ما كان من مساهمةِ العراق أو ما كان للعراق في حلف بغداد من سلاحٍ وذخائر ومعدات قتالية وأجهزة حربية ومراكب عسكرية وغيرها بعد خروجِ العراق من الحلف، عقب ثورة 14 تموز (يوليو) 1958م التي قادها تنظيم الضباط الأحرار وأطاحت بالملكية هناك، ثم انسحابِ العراق منه رسمياً في آذار (مارس) 1959م إبان حكم عبد الكريم قاسم… وقد كان ذلك الحلف حلفاً عسكرياً وأمنياً وسياسياً أنشأته القوة الاستعمارية البريطانية في شباط (فبراير) 1955م لتأمين مصالحها في المنطقة وخصوصاً في العراق وتركيا (ثم إيران وباكستان)، في مواجهة الاستعمار الجديد (الأميركي)، ولحماية الأنظمة العميلة لها في تلك البلدان، وضرب حركات التحرر التي أخذت تشتد وتقوى في المستعمرات في خمسينات القرن الماضي بدعم أميركي وسوفياتي… كل ذلك السلاح جرى إنزاله بالطائرات في ليبيا عند نقطة قريبة من الجزائر، ليصل إلى يد هيئة أركان جيش التحرير الجزائري في جبهة القتال بقيادة العقيد هواري بومدين عند الحدود مع تونس.

وهكذا نلاحظ أنه منذ ذهاب الخلافة الإسلامية في بداية القرن الماضي بسقوط الدولة العثمانية على يد الإنجليز (على ما كان فيها من هزال و تقصير في آخر عهدها)، أصبحت الدول الاستعماريةُ الكبرى تلعب وتمرح وتصول و تجول في بلاد المسلمين طولاً وعرضاً ويكيد بعضها لبعض من أجل مصالحها، ومن أجل مطامعها، على حساب المسلمين وبلادهم، مستخدمةً طاقاتِهم وثرواتِهم وأموالَهم وأرواحَهم.q

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *