العدد 326 -

السنة الثامنة والعشرون ربيع الأول 1435هـ – كانون الثاني 2014م

«أخلاق الرسول ومناقبه»… في عيون بعض المستشرقين المنصفين

بسم الله الرحمن الرحيم

«أخلاق الرسول ومناقبه»… في عيون بعض المستشرقين المنصفين

كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل للناس طراً، وزنت أخلاقه وأعماله واختبرت في كل خطوة من خطا حياته ولم يُرَ فيها أقل نقص قط، يتحدث المستشرق ديسون عن اهتمام الباحثين الإسلاميين في سيرة الرسول فيقول: «ولقد راح الكتَّاب المسلمون يصفون نبيهم، فما تركوا ناحية من صفاته وأخلاقه إلا عرفوا بها وأشاروا إليها». وتكفي شهادة الله سبحانه وتعالى له بقوله عنه: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وقد كانت حياته مكشوفة للناس جميعاً: مسلمهم وكافرهم. أما المسلم فليتأسى بها، وأما الكافر فليعلم أنه رحمة مهداة من لدن حكيم عليم فيؤمن أو يكابر. وهذه نبذة من أقوال بعض علماء الغرب المنصفين في رسولنا الكريم.

يقول الكاتب الفرنسي الكسندر دوما: «كان محمد معجزة الشرق لما في دينه من معالم، وفي أخلاقه من سمو، وفي صفاته من محامد».

لقد رأى المفكر الإنكليزي جون أروكس بعصمة الرسول معياراً لعظمته حيث قال: «لم نعلم أن محمداً تسربل بأية رذيلة مدة حياته لذلك نراه عظيماً».

يقول توماس كارليل: «وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي، لا يعوِّل إلا على نفسه، لا يدعي ما ليس فيه. ولم يك متكبراً، ولكنه لم يكن ذليلاً ضرعاً،  فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم، يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها».

يقول أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف المستشرق إدوار مونتيه (1856م – 1927م) في كتابه: «حاضر الإسلام ومستقبله» باحثاً جماع خصاله وجميل سجاياه ونزاهة مقاصده وصحة أحكامه وطبيعته الدينية كمصلح عظيم يدهش الفكر، ويثير مكامن الإعجاب، يقول مونتيه: «أما محمد فكان كريم الأخلاق حسن العشرة، عذب الحديث، صحيح الحكم، صادق اللفظ، وقد كانت الصفة الغالبة عليه هي صحة الحكم، وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يقبله ويقوله، إن طبيعة محمد الدينية تدهش كل باحث مدقق نزيه القصد، بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص، فقد كان محمد مصلحاً دينياً، ذا عقيدة راسخة، ولم ينهض – إلا بعد أن تأمل كثيراً، وبلغ سن الكمال _ بهاتيك الدعوة العظيمة، التي جعلته من أسطع أنوار الإنسانية، وهو في قتاله الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند آباء زمنه، كان في بلاد العرب أشبه بنبي من أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا كبارًا جداً في تاريخ قومهم، ولقد جهل كثير من الناس محمداً فبخسوه حقه، وذلك لأنه من المصلحين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها».

أما المؤرخ والمستشرق الأميركي أورينج فقال في كتابه: «الحياة والإسلام»: «كان النبي الأخير بسيطاً خلوقاً ومفكراً عظيماً ذا آراء عالية، وإن أحاديثه القصيرة جميلة ذات معان كبيرة، فهو إذاً مقدس كريم».

ولقد رد المستشرق الإنكليزي صاحب كتاب: «الأبطال» على أولئك الذين جهدوا في اتهام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالمطامع الدنيوية التي كانت وراء دعوته، فقال: «ويزعم المتعصبون والملحدون أن محمداً لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان. كلا وأيم الله، لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات، المتوقد المقلتين، العظيم النفس، المملوء رحمة وخيراً وحناناً وبراً وحكمة وحجة… أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه».

 وردَّ كارليل على المتعصبين الحاقدين من المستشرقين الذين اتهموا الإسلام ورسول الإسلام بالشهوانية، فالإسلام برأيه دين ينأى عن الشهوانية. أما سيرة حياة الرسول التي اتسمت بالبساطة والزهد والتقشف، فأبعد من أن تخفى على باحث، يقول: «وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلماً وعدواناً، وأشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوانياً لا هم له إلا قضاء مآربه من الملاذ. كلا، فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أياً كانت! لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله، وكان طعامه عادة الخبز والماء، وربما تتابعت الشهور ولم توقد بداره نار، وإنهم ليذكرون -ونعم ما يذكرون- أنه كان يصلح ثوبه ويرفوه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام، مجتهد في الله، قائم النهار ساهر الليل، دائب في نشر دين الله، غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان، غير متطلع إلى ذكر أو شهرة كيفما كانت، رجل عظيم وربكم،  وإلا فما كان ملاقياً من أولئك العرب الغلاظ توقيراً واحتراماً، وإكباراً وإعظاماً، وما كان ممكناً أن يقودهم ويعاشرهم معظم أوقاته ثلاثاً وعشرين حجة، وهم ملتفون حوله، يقاتلون بين يديه، ويجاهدون معه. لقد كان في هؤلاء العرب جفاء وغلظة وبادرة وعجرفة، وكانوا حماة الأنوف، أباة للضيم، وَعْرِيُّو المقادة، صعاب الشكيمة، فمن قدر على رياضتهم وتذليل جانبهم حتى رضخوا له واستقادوا، فذلك وأيم الله بطل كبير. ولولا ما أبصروا فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا له ولا أذعنوا، وكيف وقد كانوا أطوع له من بنانه، وظني أنه لو كان أتيح لهم بدل محمد قيصر من القياصرة بتاجه وصولجانه لما كان مصيباً من طاعتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده، فكذلك تكون العظمة، وهكذا يكون الأبطال».

حاولت الأقلام الاستشراقية المغرضة أن تنفث سمومها في رسول الإسلام حين ألصقت فيه تهمة الشهوانية وتهالكه على النساء… يقول مونتجمري وات في كتاب : «محمد في المدينة»: «وهناك اتهام أوروبي مسيحي لمحمد بأنه شهواني، أو أنه ، بلغة القرن السابع عشر الفظة «فحاش مسنّ» غير أن هذه التهمة تسقط إذا فحصناها على ضوء الأفكار السائدة في عصر محمد، كان الفكر الإسلامي في أول ظهور الإسلام يميل إلى تضخيم شخصية النبي ورفعها فوق مستوى البشر ، ويوجد حديث يقول (إن محمداً قد أعطي من قوة الرجولة ما يجعله يستطيع أن يقسم ليلته بين جميع نسائه) ولا شك أننا هنا بصدد حديث موضوع؛ لأن الحديث العادي يقول بأن محمداً كان يخصص ليلة لكل واحدة من نسائه، ونستطيع على كل حال أن نحكم من وراء ذلك على موقف بعض أتباع محمد منه. كان المسلمون الأول سيئي الظن بالعزوبية، وكانوا يعارضونها في كل مناسبة حتى الزهاد في الإسلام كانوا عادة متزوجين».

يرد إميل درمنغهم على هجوم المستشرقين الذين يتناولون حياة الرسول الخاصة ، وعابوا عليه تعدد زوجاته وشبقه الجنسي ، يقول: «وإن بعضهم يعيب محمداً في كثرة ميله إلى النساء، فإنه مما لا مشاحة فيه، أن محمداً لم يكن شرهاً ولا فخوراً ولا متعصباً ولا منقاداً للمطامع، بل كان حليماً رقيق القلب عظيم الإنسانية»

ويناقش الباحث الفرنسي- المستشرق إتيين دينيه في كتابه: «محمد رسول الله» من يعيب على الرسول حبه النساء بقوله: «كان محمد يحب النساء، وقد عاب عليه الكثير من الأعداء ذلك. وحقاً كان محمد رجلاً بكل ما في الكلمة من معانٍ خلقية ومادية، ورجولته امتازت بالعفة التي لا تتعارض مع أسباب اللذة البريئة المجردة من الدنس، وعلى منواله سلك العرب الذين يمتازون حتى أيامنا هذه بالعفة والحياء الخاليتين من كل تكلف ورياء، لا كحياء المغالين في الدين وعفتهم المصطنعة المدعاة .
وإذا كان محمد قد عقد على ثلاث وعشرين زوجة فإنه لم يتصل إلا باثنتي عشرة منهن، أما الأخريات فتزوجهن لأسباب سياسية محضة، إذ كانت كل القبائل ترغب في شرف مصاهرته. وقد كثرت عليه الطلبات في شأن ذلك، ويروى أن عزة أخت دحية الكلبي ماتت من شدة الفرحة عندما نبئت أن الرسول قبل الزواج بها، وقد كان الرسول يعطف على النساء جميعاً، وحاول في كل مناسبة أنصافهنَّ. فحرم أول ما حرم وأد البنات، تلك العادة القبيحة القاسية التي تحدثنا عنها فيما سبق، ثم وضع حداً لتعدد الزوجات، فجعل العدد الأقصى منهن أربعاً، وزاد على ذلك أنه نصح المؤمنين بالتفكير ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ) .
ومن أحاديثه : « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » وأتبع ذلك بأن منح المرأة حق المطالبة بالطلاق إن لم يوفِّ الرجل بواجباته الزوجية… وبفضل تشريعاته الحكيمة أصبحت البنت البالغ تستشار قبل زواجها، وأصبح المهر لا يعطى للأب بل للعروس نفسها، وقد وصف أعداء الإسلام تلك السنة الحكيمة بأنها:     «شراء للمرأة». وهم لم يسمعوا، فيما أظن، ذلك الجواب المفعم الذي يمكن أن يرد به المسلمون عليهم حينما يقولون لهم: إن المهر في بعض الأقطار الغربية يدفعه والد البنت إلى رجلها!. وفوق ذلك، فالمسلم مكلف بسائر حاجات البيت دون أن يكون له أي حق في التصرف في مال امرأته .ومنح الرسول المرأة كذلك حقاً في الميراث. وحقها فيه: نصف حق الذكر؛ وذلك لأن المرأة لا تدفع مهراً كالرجل وليست مكلفة بحاجات البيت».

وكتب المفكر المصري واصف باشا بطرس غالي في مؤلفه: «فروسية العرب المتوارثة» رداً على افتراءات بيرون ضد الرسول وتعصبه الفاضح: «كان محمد يحب النساء ويفهمهن، وقد عمل جهد طاقته لتحريرهن، وربما كان ذلك بالقدوة الحسنة التي استنها إضافة للقواعد والتعاليم التي وضعها، وهو يعد بحق من أكبر أنصار المرأة، إن لم يكن عظيم الاحترام والتكريم لهن، لم يكن ذلك خاصاً منه بزوجاته، بل كان ذلك شأنه مع جميع النساء على السواء».

يقول الباحث والروائي الألماني ويلكي كولنز في كتابه: «جوهرة القمر»: «لقد جاء محمد بصيانة النساء وحثهن على العفاف، وحذر من السير على خلافهما، مشيراً إلى ما في هذين من النقص والخسة، وكم لمثل هذا من نظير في شريعته السامية».

يقول المؤرخ الأميركي واشنطون إرفنج: «كان الرسول في كل تصرفاته ناكراً ذاته، رحيماً بعيداً عن الكبر في الثراء والمصالح المادية، فقد ضحى بالماديات في سبيل الروحانيات».

يقول المستشرق الأسباني جان ليك (1822م-1897م) في كتابه: «العرب» مؤكداً هذه الحقيقة :
«وحياة محمد التاريخية لا يمكن أن توصف بأحسن مما وصفها الله نفسه بألفاظ قليلة، بين بها سبب بعث النبي محمد ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )  وقد برهن بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ولكل محتاج إلى المساعدة، كان محمد رحمة حقيقية لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء، وإني بلهفة وشوق لِأن أصلي عليه وعلى أتباعه».

يقول المستشرق البريطاني لين بول في مؤلفه: «رسالة في تاريخ العرب» متحدثاً عن سجايا الخلق المحمدي: «إن محمداً كان يتصف بكثير من الصفات كاللطف والشجاعة وكرم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تطبعه هذه الصفات في نفسه، ودون أن يكون هذا الحكم صادراً عن غير ميل أو هوى، كيف لا وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته سنوات بصبر وجلد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد مصافحه حتى لو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمر بجماعة يوماً من الأيام رجالاً كانوا أم أطفالاً دون أن يسلم عليهم، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وبنغمة جميلة كانت تكفي وحدها لتسحر سامعيها، وتجذب القلوب إلى صاحبها جذباً، وقد كان محمد غيوراً ومتحمساً، وما كانت حماسته إلا لغرض نبيل ومعنى سام، فهو لم يتحمس إلا  إذا كان ذلك واجباً مفروضاً لا مفر منه، فقد كان رسول من الله، وكان يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، كما أنه لم ينسَ يوماً من الأيام كيانه أو الغرض الذي بعث من أجله، دائماً كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البلايا، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد».

وأما الكاتب الإنكليزي السير وليم موير فيتناول في مؤلفه: «حياة محمد» سجايا الرسول وشمائله ولين عريكته وتعامله مع الأطفال، فيقول: ومن صفات محمد الجليلة الجديرة بالذكر، والحَريَّة بالتنويه، الرقة والاحترام اللذان كان يعامل بهما أصحابه، حتى أقلهم شأناً، فالسماحة والتواضع والرأفة والرقة تغلغلت في نفسه، ورسخت محبته عند كل من حوله، وكان يكره أن يقول لا، فإن لم يمكنه أن يجيب الطالب على سؤاله، فضل السكوت على الجواب، ولقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وقالت عائشة رضي الله عنها: وكان إذا ساءه شيء تبيَّنا ذلك في أسارير وجهه، ولم يمسَّ أحداً بسوء إلا في سبيل الله، ويؤثر عنه أنه كان لا يمتنع عن إجابة الدعوة من أحد مهما كان حقيراً، ولا يرفض هدية مهداة إليه مهما كانت صغيرة، وإذا جلس مع أحد أياً كان لم يرفع نحوه ركبته تشامخاً وكبراً، وكان سهلاً لين العريكة مع الأطفال، لا يأنف إذا مر بطائفة منهم يلعبون أن يقرئهم السلام، وكان يشرك غيره في طعامه».

ويتناول الباحث والمؤرخ  الفرنسي كاردفو (1872م-1933م) جانباً من بساطة الرسول ولين عريكته وسهولة خلقه مقروناً برجاحة العقل واتزان التفكير فيقول في كتابه «العرب»: «ومن المعروف عن -محمد- أنه مع أمِّيته كان أرجح الناس عقلاً، وأفضلهم رأياً، دائم البشر، مطيل الصمت، لين الجانب، سهل الخلق،  يكثر الذكر ويقلُّ اللغو، يستوي عنده في الحق القريب والبعيد، والقوي والضعيف، يحب المساكين، لا يحقر فقيراً لفقره، ولا يهاب ملكاً لملكه، يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويساير من جالسه أو قاومه، ولا يحيد عمن صافحه حتى يكون الرجل هو المنصرف، يجلس على الأرض، ويخصف النعل، ويرقع الثوب».

ويتناول المفكر الإنكليزي توماس كارليل في كتابه: «الأبطال» جوانب من حياة الرسول تظهر رقة قلبه ومحبته لأصدقائه ورحمته وأنه كان أخاً للإنسانية جمعاء، يقول: «وكانت آخر كلماته تسبيحاً وصلاة، صوت فؤاد يهم بين الرجاء والخوف أن يصعد إلى ربه، ولا تحسب أن شدة تدينه أزرت بفضله، كلا بل زادته فضلاً، وقد يروى عنه مكرمات عالية، منها قوله حين رزىء بغلامه: «العين تدمع، والقلب يوجع، ولا نقول ما يسخط الرب». ولما استشهد مولاه زيد بن حارثة في غزوة «مؤتة» قال محمد: «لقد جاهد زيد في الله حق جهاده، ولقد لقي الله اليوم فلا بأس عليه» ولكن ابنة زيد وجدته بعد ذلك يبكي على جثة أبيها، وجدت الرجل الكهل الذي دب في رأسه المشيب يذوب قلبه دمعاً! فقالت: «ماذا أرى؟» قال: «صديق يبكي صديقه». مثل هذه الأقوال وهذه الأفعال ترينا في محمد أخا الإنسانية الرحيم، أخانا جميعاً الرؤوف الشفيق، وابن أمنا الأولى وأبينا الأول».

يقول جان ليك في كتابه: «العرب»: ما أجمل ما قال المعلم العظيم محمد: «الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله».

يقول توماس كارليل: «ولم تخلُ الشعوب الشديدة التي وقعت له مع الأعراب من مشاهد قسوة، ولكنها لم تخلُ كذلك من دلائل رحمة وكرم وغفران. وكان محمد لا يعتذر من الأولى ولا يفتخر بالثانية. إذ كان يراها من وحي وجدانه وأوامر شعوره، ولم يكن وجدانه لديه بالمتهم ولا شعوره بالظنين».

 ومن بين أولئك المنصفين الذين قدروا الرسول حق قدره المؤرخ المستشرق الفرنسي سيديو الذي أعطى الحضارة الإسلامية حقها، يقول: «من التجني على حقائق التاريخ ما كان من عزو بعض الكتاب إلى محمد القسوة والجبن. فقد نسي هؤلاء أن محمداً لم يألُ جهداً في إلغاء عادة الثأر الموروثة الكريهة التي كانت ذات حظوة لدى العرب، كحظوة المبارزات بأوروبا فيما مضى. وكأن أولئك الكتاب لم يقرأوا آيات القرآن التي قضى محمد فيها على عادة الوأد الفظيعة. وكأنهم لم يفكروا في العفو الكريم الذي أنعم به على ألد أعدائه بعد فتح مكة، ولا في الرحمة التي حبا بها كثيراً من القبائل عند ممارسة قواعد الحرب الشاقة، ولا إلى ما أبداه من أسف على بعض الأمم الشديدة، وكأنهم لم يبصروا أن الأمة أم القبائل العربية كانت تعد الانتقام أمراً واجباً، وأنها ترى من حق كل مخلص أن يقتل من غير عقاب من يكون خطراً عليها ذات يوم. وكأنهم لم يعلموا أن محمداً لم يسئ استعمال ما اتفق له من السلطان العظيم قضاء لشهوة القسوة الدنيئة، وأنه لم يألُ جهداً – في الغالب – في تقويم من يجور من أصحابه، والكل يعلم أنه رفض _بعد غزوة بدر_ رأي عمر بن الخطاب في قتل الأسرى، وأنه عندما حل وقت مجازاة بني قريظة ترك الحكم في مصيرهم لحليفهم القديم سعد بن معاذ، وأنه صفح عن قاتل عمه حمزة، وأنه لم يرفض _قط _ ما طلب إليه من اللطف والسماح»

رد الباحث الإنكليزي توماس كارليل على تلك الفرية التي تذهب إلى أن الإسلام لم ينتشر إلا بحد السيف،  يقول هذا الكاتب المنصف: «ولقد قيل كثيراً في شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلاً على كذبه، فشد ما أخطأوا وجاروا، فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف، ولكن ما هو الذي أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين، وأنه حق… غير أننا فيما يتعلق بنفي الإرهاب عن الخلق المحمدي، فإن النضال البطولي الإنساني للرسول إن دل على شيء فعلى عظمة النبي وقوة شخصيته وصبره العظيم. فما أبعده عن الضعف والجبن والقسوة والإرهاب. لقد كان القوي الكبير في جميع مواقفه ، جمع الرحمة إلى الحزم، واللين إلى الثبات، حتى تمكن أن ينشر رسالة ربه التي صدع بها».

يقول الكاتب ميخائيل طعمة في مقالة له نشرتها جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا قبل الاحتلال الصهيوني: «لو لم يكن خلق محمد عظيماً لانقلب عليه محيطه، ولو لم يكن خلق محمد عظيماً لضعف أمام ما اعترضه من العقبات، ولرأى نفسه مضطراً إلى مجاراة محيطه، ولما قوي على إحداث ما أوجده من الانقلاب العظيم، فبدَّل الضلال بالهدى، والجهل بالعلم، والهمجية بالمدنية».

يقول المستشرق البريطاني لين بول في مؤلفه: «رسالة في تاريخ العرب»: «إن ما اتصف به ( محمد ) من الصبر واحتمال المكاره والعفو عند المقدرة، لبرهان لنا واضح على أنه كان صادقاً إذ يقول: «لا إكراه في الدين» فمحمد ذو يقين راسخ وقوة عزم هائل» .

أما الباحث الإنكليزي ولير موير فقد تحدث عن معاملة رسول الله أعداءه تلك المعاملة التي اتسمت بالرحمة والعفو، حين فتحه مكة ، يقول هذا الباحث: «وعامل حتى ألد أعدائه بكل كرم حتى مع أهل مكة، وهم الذين ناصبوه العداء سنين طوالاً، وامتنعوا من الدخول في طاعته، كما ظهر حلمه وصفحه في حالتي الظفر والانتصار، وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له.

يقول مارسيل بوازار في كتابه: «إنسانية الإسلام» موضحاً نضال الرسول ومنافحته عن المجتمع الإسلامي الجنيني، ورحمته وعفوه عند المقدرة، وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، لكنه لم يكن ليلين أو يتساح مع أعداء الدين. ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة، قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه، وجسدت المناخ الروحي للإسلام الاتباعي، ولا تنفك الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية تصور في الأذهان كرم الرسول وتواضعه، كما تصور استقامته ونقاءه ولطفه وحلمه. وكما يظهره التاريخ قائداً عظيماً ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحاً قوي الشكيمة .

يقول المستشرق والفيلسوف الفرنسي إدوار مونتيه، في كتابه: «العرب»: «عرف محمد بخلوص النية والملاطفة  وإنصافه في الحكم ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الذمام، فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم»

يقول المؤرخ الفرنسي لاتيس (1847م-1909م) في مقالة له نشرتها مجلة الهلال المصرية عن أمانة الرسول وصدقه في نضاله في سبيل نشر الرسالة، ما جعله يحقق معجزة تشييد أول دولة إسلامية: «إن محمداً كان مشهوراً بالصدق منذ صباه، حتى كان يلقب بالأمين، وما زال يسهر لحياة دينه والعرب حتى مات، وما مات حتى أسس ديناً وأقام دولة».

أما المستشرق الفرنسي إميل برينغهام (1857م-1924م) فقد حاول أن يرسم صورة للرسول بالقلم، إذ تقصَّى سائر مراحل حياته ليس في الكتب وحسب بل من روح الحضارة التي غرسها في نفوس أتباعه، فكتب يقول في كتابه «الشرق والإسلام» «إنني أردت أن أصور محمداً صورة مطابقة للواقع على قدر الإمكان كما فهمتها وكما قرأتها عنه في الكتب، وكما رأيتها في أرواح أتباعه الحية، إلى أن قال: فنشأ معتمداً على نفسه، يرجع إليها في الكبيرة والصغيرة، ويجهد ويعمل من أجل حياته من عرق جبينه، إذ لم يكن ذا ثروة تكفيه مؤونة السعي، فكانت ثروته عند نشأته، صدقه وأمانته ونزاهته وإخلاصه، وتلك لعمر الله الحق أكبر الثروات وأغلاها، تلك كانت صفات محمد في وسط منحل لا يعرف أخلاقاً ولا نبلاً».

ويتحدث الكاتب الإنكليزي توماس كارليل عن طبع الرسول المفكر وسداد أخلاقه ويقدم صورة قلمية عنه، مظهراً مزاياه الخَلقية والخُلقية التي ينبع منها النبل والشهامة والصدق، يقول: «ولوحظ عليه منذ فتوَّته أنه كان شاباً مفكراً، وقد سماه رفقاؤه الأمين، أي رجل الصدق والوفاء في أفعاله وأقواله وأفكاره، وقد لاحظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة، وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت، يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة، لا يتناول غرضاً فيتركه إلا وقد أنار شبهته، وكشف ظلمته، وأبان حجته، واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلا فلا» .

ولكن رغم ما اتصف به النبي من صفات الكمال الخلقي، كان هناك عدد من المستشرقين بدافع التعصب الأعمى والحقد الطائفي الدفين الذي هو وليد الحروب الصليبية دأبهم تشويه صورة الرسول وتزوير الحقائق التاريخية، فنهض لهم المستشرق الفرنسي ميسمر للرد عليهم مسفهاً تلك الأقاويل، داحضاً تلك التخرصات في كتابه: «العرب في عهد محمد» وذهب إلى الرأي بأن كل من ينكر صدق محمد هو كاذب سفيه لا يتحدث بوحى من ضميره. ونعم ما يقول ذلك المنصف: «إن من تسافه و أنكر صدق محمد فقد بتَّ بهذه المسألة دون ان يحلها، وحمَّل ضميره مسؤولية المكابرة، ورمى بنفسه إلى نهاية سيئة، إذ ليس من وحي الضمير الحر ما يقارفه أولئك المغرضون على محمد الذي اتصف بكل صفات الكمال .كان الرسول عظيماً في أخلاقه إنساناً وقائداً ونبياً، لا ينطق عن الهوى».

وفي خطبة له ألقاها في بيروت عام 1925م بمناسبة ذكرى عيد المولد النبوي، قال المندوب الفرنسي على سورية ولبنان مكسيم ويغان: «مهما احتفل المسلمون بعيد ميلاد محمد فهو قليل، لأنه جاءهم بدين هو فوق الأديان، وهو في نفسه كبير، وفي أخلاقه عظيم، وفي شريعته سيد الأنبياء، فعلى المنصفين أن يحتفلوا بذكرى عظماء التاريخ، وفي طليعتهم محمد الرسول العربي القائد الأعلى لتحقيق شريعة الله على الأرض،   وتركيزها في صدور الناس».

ويتحدث اللورد هيدلي عن أخلاق الرسول راداً تهم الافتراء والتزوير التي حاولت المساس بمصداقية أخلاقه وعظمته: ليس في وسع الإنسان، في الحقيقة، إلا أن يعتقد أن مدبجي وناسجي هذه الأفتراءات لم يتعلموا حتى ولا أول مبادىء دينهم، وإلا لما استطاعوا أن ينشروا في جميع أنحاء العالم  تقارير معروفاً لديهم أنها محض كذب وافتراء .إن تعاليم القرآن قد نفذت ومورست خلال حياة محمد الذي سواء في أيام تحمله الألم واضطهاده، أم في زمن انتصاره ونجاحه _ وأظهر أشرف الصفات الخلقية التي لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها. فكل صفات الصبر والثبات في عصره كانت ترى أثناء الثلاث عشرة سنة التي تألمها في مجاهداته الأولى بمكة. ولم يشعر في كل زمان هذا الجهاد بأى تزعزع في الثقة بالله، وأتم كل واجباته بشمم وحمية.كان مثابراً ، لا يخشى أعداءه لأنه كان يعلم بأنه مكلف بهذه المأمورات من قبل الله. ومن كلفه بهذا العمل لن يتخلى عنه ..وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا تعرف الجفول. تلك الشجاعة التي كانت حقاً إحدى ميزاته وأوصافه العظيمة _ إعجاب واحترام الكافرين، وأولئك الذين كانوا يشتهون قتله. ومع ذلك فقد تنبهت مشاعرنا وازداد إعجابنا به بعد ذلك في حياته الأخيرة، أيام انتصاره بالمدينة ، عندما كانت له القوة والقدرة على الانتقام، واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل، بل عفا عن كل أعدائه .
العفو والإحسان والشجاعة ، ومثل هاتيك الصفات، كانت ترى منه في كل تلك المدة، حتى إن عدداً عظيماً من الكافرين اهتدوا إلى الاسلام عند رؤية ذلك .عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذبوه، آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة، وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه، عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته … !تلك الأخلاق الربانية التي أظهرها النبي الكريم، أقنعت العرب بأن حائزها يجب أن لا يكون إلا من لدن الله، وأن يكون رجلاً على الصراط المستقيم حقاً، وكراهيتهم المتأصلة في نفوسهم حولتها تلك الأخلاق الشريفة إلى محبة وصداقة متينة».q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *