الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم والأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي
1988/02/22م
المقالات
12,594 زيارة
بقلم: عبدالرحمن الطرابلسي
.. من الخطأ عدم التفريق بين الأشياء والأفعال عند إصدار الحكم عليها، وقد عمم كثيرون قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة» على الأشياء والأفعال، وصاروا يعطون فتاوى بإباحة كثير من الأفعال مستندين بهذه القاعدة وفقد كثير من الناس الضابط لأعمالهم بسبب هذا الخلط.
خلط واضح
وفي كتاب، «الوجيز في أصول التشريع الإسلامي» للدكتور محمد حسن هيتو، يظهر هذا الخلط بشكل واضح، وسنناقش ما ورد في الصفحة الرابعة والسبعين من الكتاب في المسألة الرابعة «هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب»؟، وذالك ليس للتجريح أو الطعن، وإنما حرصا على المناقشة الايجابية والمفيدة لا سميا وأن الكتاب هو من معتمدات بعض المعاهد الشرعية، مع احترامنا لجميع العلماء والمفكرين المخلصين من المسلمين.
جاء في الكتاب:
إذا اوجب الشارع شيئا،ثم نسخ وجو به،فيجوز الإقدام عليه،عملا بالبراءة الأصلية،والأصل في المنافع الإباحة،قال تعالى﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾.
لكن الدليل الدال على الإيجاب، قد كان أيضا دالا على الجواز دلالة تضمن، على معنى أن الشارع إذا أمر بفعل، كان هذا الأمر متضمنا للإذن في الفعل ودالا على تعيّن أحدها عليه.
فإذا نسخ الشارع الوجوب، هل تبقى الدلالة على الجواز، أم تزول بزواله؟ ذهب الجمهور الأعظم من الأصوليين إلى انه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز الذي كان ضمنه. والمراد بالجواز هنا عدم الحرج في الفعل والترك، من الإباحة، أو الندب، أو الكراهة، إذ لا دليل على تعيّن أحدها.
وصورة المساْلة أن يقول الشارع: نسخت الوجوب، أو نسخت تحريم الترك، أو رفعت ذلك.
فأما إذا نُسخ الوجوب بالتحريم، أو قال: رفعت جميع ما دلّ عليه الأمر السابق، من جواز الفعل، وامتناع الترك، فيثبت التحريم قطعاً، وهذا لا ينافي القاعدة، لأنها واردة في الأمر مع ناسخة فقط، وهنا وُجد دليل خارجي عارض الجواز وذلك كما نسخ التوجّه إلى بيت المقدس باستقبال البيت الحرام، الدال على تحريم التوجه لاستقبال بيت المقدس، والموجب لاستقبال الكعبة.
والموجب لاستقبال الكعبة. «هل يبقى الجواز بعد نسخ الوجوب»
ومن فروع هذه المساْلة الحِجامة والفصد للصائم, فقد أخرج البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، وهذا يدلّ على تحريم الحجامة بلا شك ويمنع منها. ثم ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم, فانتفى التحريم المفهوم من الحديث السابق, وبقي الجواز, وهو شامل للندب, والإباحة, والكراهة كما ذكرنا».
هذا ما ورد في كتاب الدكتور هتيو. والكلام يحوي عدة مغالطات:
الأشياء غير الأفعال
إن قاعدة «الأصل في المنافع الإباحة», أو فلنقل على الأصحّ «الأصل في الأشياء الإباحة» تتحدث عن الأشياء التي خلقها الله تعالى وسخرها للإنسان وأحلها له عموماً بدليل كثير من الآيات القرآنية. قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ وقال: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ وقال: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ وقال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ @ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ وقال: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ @ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ @ رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ وقال: ﴿لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا… ﴾ الآية.
هذه الآيات تدل بصراحة على أن الله تعالى قد أباح الانتفاع بالأشياء التي خلقها للإنسان عموماً, إلاّ ما استناه سبحانه في النصوص، كتحريم الميتة والخنزير وما أُهلّ به لغير الله وغير ذلك، قال تعالى: ﴿حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ وثبت عن الرسول أنه نهى عن أكل الحُمُر الأهلية والسباع والجوارح من الطير. ومن هنا جاءت قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم» فهي مستنبطة استنباطاً شرعيّاً من النصوص الشرعية.
إلاّ أن هذه القاعدة لا تتناول أفعال العباد, فإن الآيات السالفة, إنما تتحدّث عن الأشياء أي الأعيان, ولا تتحدث عن الأفعال, فالأشياء هي ما لها أعيان مادّية مستقلة عن فعل الإنسان, وهي غير الأفعال, والأفعال هي غير الأشياء. فلا يجوز أن نقول إن الأصل في أفعال الإنسان الإباحة ولا التحريم ولا غير ذلك, لأنه لا حكم قبل ورود الشرع, والشرع لم يجعل الأصل في الأفعال الإباحة ولا التحريم, وإنما أعطى لكل فعل حكماً شرعياً دل عليه الدليل الشرعي. لذلك فإن القاعدة التي تنطبق على الأفعال هي: «الأصل في أفعال المكلفين التقيد بالحكم الشرعي» وليس أصلها الإباحة ولا التحريم. ولذلك يجب الرجوع إلى الشرع لمعرفة حكم أي فعل من الأفعال, لأن الشريعة كاملة وقد بينت حكم كل شيء وحكم كل فعل. وقد استنبطنا قاعدة عامة للأشياء (الأعيان) ولم تدل النصوص على قاعدة عامة للأفعال.
والفعل إما أن يكون واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً. وهذا ظاهر في ما ورد في النصوص من طلب جازم للفعل, وطلب غير جازم للفعل, ومن طلب جازم لترك الفعل, ومن طلب غير جازم لترك الفعل، ومن تخيير بين الفعل والترك, ولذلك فإن أي فعل لا يمكن إلا أن يأخذ هذه الأحكام الخمسة.
أما بالنسبة للأشياء – أو المنافع – فلم ترد بشأنها هذه الأحكام الشرعية، وإنما وصفت فقط بالحِل أو الحُرمة, ولم تعط حكم الوجوب أو الندب أو الكراهة. وكان الحل أو الحرمة وصفاً للشيء وهذا ظاهر في النصوص التي تحصر وصف الأشياء في الحل والحرمة فقط. قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً﴾ وقال: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ وقال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ وقال: ﴿حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ وقال: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ(. وقال: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾. فهذه النصوص لم تجعل للشيء إلا أحد وضعين: إمّا أن يكون حلالاً وإما حراماً, ولا ثالث لهما.
لذلك لا يقال: «إذا أوجب الشارع شيئاً, ثم نسخ وجوبه, فيجوز الإقدام عليه عملاً بالبراءة الأصلية، والأصل في المنافع الإباحة», لا يقال ذلك لأن الشيء لا يوصف بالوجوب, أما إذا حرّم الله تعالى شيئاً ثم نسخ تحريمه فإنه في هذه الحالة يعود الشيء إلى إباحته, لأنه إما أن يكون مباحاً أو حراماً.
دليل جديد
وما ورد في كتاب المؤلف من أمثلة على ذلك لا يصلح للتمثيل, لأن التوجه إلى بيت المقدس ليس شيئاً أو منفعة, فلا تنطبق عليه قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة»، وعندما يدلّ الدليل على نسخ التوجّه إلى بيت المقدس, فإننا نحتاج إلى دليل يدلّ على الحكم الجديد, لأنه ليس هناك قاعدة عامّه تتحكّم بهذه المسألة, وهذا ما حصل بالفعل, فقد جاء دليل آخر على الحكم الجديد, وهو التوجّه إلى البيت الحرام.
وأما مثال الحجامة والفصل فإنه لا يصلح للتمثيل أيضاً, لأن الحجامة والقصد ليستا من الأشياء, وإنما هما من الأفعال، فلا تنطبق عليهما قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة». وإنما قاعدة «الأصل في أفعال المكلفين التقيّد بالحكم الشرعي». أضف إلى ذلك أن المسألة التي هي مدار البحث هي نسخ الوجوب، بينما هذا المثال هو عن نسخ التحريم, فالحديث الأول ينهى الصائم عن الحجامة, والدليل الثاني يدلّ على نسخ التحريم.
أضف إلى ذلك أيضاً, أن جواز الإحتجام للصائم لم يأت من نسخ التحريم وحسب, وإنما أتى من كون الرسول r قد احتجم وهو صائم, فهو دليل في ذات الوقت على نسخ التحريم وعلى الإباحة.
أمّا إذا كان المراد بالبحث, نسخ وجوب فعل من الأفعال, فإن الذي يقال: نسخ الوجوب إما أن يكون إلى بدل أو إلى لا بدل، فأمّا إذا نسخ إلى بدل, فإن البدل يكون هو الحكم الجديد سواء أكان البدل التحريم, كتحريم التوجّه إلى بيت المقدس بإيجاب التوجّه إلى الكعبة, أو كان البدل الاستحباب كنسخ وجوب صوم عاشوراء بالندب, وسواء أكان البدل الكراهة أو كان الإباحة. وأما إذا كان النسخ إلى لا بدل, فإن هذا النسخ بحد ذاته هو دليل على الإباحة. وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم□
1988-02-22