العدد 122 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الأول 1418 – تموز 1997م

السياسة الخارجية في دولة الخلافة

السياسة الخارجية في دولة الخلافة

إن لكل دولة من الدول في العالم علاقات مع غيرها من الدول تقوم على أسس معينة ومعايير خاصة، تنبع من عقيدة تلك الدولة ومفاهيمها عن الحياة، وهو ما يعرف بسياستها الخارجية التي ترعى بها شؤون الناس الذين يحملون تابعيتها في مجال العلاقات مع غيرهم من الأمم والشعوب والدول. وعلى هذا فتكون السياسة الخارجية هي علاقة الدولة بغيرها من الدول والشعوب والأمم، وتتقرر في ضوء تلك العلاقة مواقف الدولة من الأحداث الإقليمية والدولية، وبها يعرف توجه الدولة، وعن طريـقـهـا يـمـكن التنبُّؤ بتـصـرفاتها حيال الأحداث وفي الأزمات.

والدولة الإسلامية، التي هي عبارة عن كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، تُعتبر القوة السياسية التي تمثل المسلمين وغيرَهم ممن يحملون التابعية الإسلامية في مجال علاقاتهم مع غيرهم من الدول والأمم والشعوب من خلال الأحكام الشرعية التي حددت شكل تلك السـيـاسـة الـخـارجية واسـتـراتـيـجـيـتـهـا، وعينت المصالح الحيوية والثانوية لها وصاغتها في أهداف قابلة للتحقيق.

وتقوم السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية على أساس فكرة ثابتة لا تتغير، وهذه الفكرة هي نشر الإسلام في العالم، في كل أمة وكل شعب. فقد حدد الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الكفار خارج حدود الدولة الإسلامية بأحكام نشر الرسالة الإسلامية بالتبليغ وإقامة الحجة والجهاد، وهذه هي طريقة حمل الدعوة الإسلامية رسالة إلى العالم أجمع. فلم يعترف المسلمون في أي وقت من الأوقات بالأطر السياسية التي كانت تنظم علاقات الدول التي وجدت في عهودها المتعاقبة، ولم يكونوا في يوم من الأيام جزءاً من أية منظومة سياسية عالمية أو إقليمية، بل كانوا دوماً ينتهجون سياسة مستقلة تماماً، ترتكز على الأحكام الشرعية الجهادية.

ومنذ أن أقام الرسول صلى اللـه عليه وآله وسلم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة كتب الوثيقة السياسية المعروفة التي نظمت علاقة تلك الدولة الفتية مع جيرانها من الكتل السياسية والدول التي كانت قائمة في الجزيرة آنذاك، سواء في محيط المدينة أم خارجها. وجعلت المؤمنين أمة من دون الناس. وقد اتخذت بالطبع حالة العداء مع الكيان القرشي في مكة كون هذا الأخير أعلن أنه ألد أعداء الدعوة، وعمل جاهداً على إحباط قيام الدولة الإسلامية بكل الوسائل المتاحة لديه. ولذلك كانت المواجهة معه متحققة الحصول، وقد تم ذلك بالفعل في بدر وأحد والخندق والحديبية وأخيراً فتح مكة. وأما باقي الكيانات فقد تهاوت هي الأخرى أمام ضربات المسلمين، خاصة بعد أن ظهر مكرها ونكثها للعهود كما حصل مع اليهود. فكانت المواجهات القاصمة لكياناتهم وحلفائهم في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر وفي مواجهة الأحزاب في غزوة الخندق وفي غزوة حنين.

وما أن اطمأن الرسول r إلى الدعوة الإسلامية في الحجاز كله حتى أخذ يعمل لحمل الدعوة إلى خارج الحجاز، لأن الإسلام دين للناس كافة ولأن الرسول r أُرسل للعالم كله، قال تعالى: ]وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً[ وقال سبحانه: ]هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون[. فبدأ r بإرسال الرسل إلى الخارج بعد أن اطمأن إلى تركيز السياسة الداخلية، وهيأ القوة الكافية لدعم السياسة الخارجية.

بعد رجوع الرسول r من خيبر خرج يوماً على أصحابه فقال: «أيها الناس: إن اللـه قد بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم» فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول اللـه؟ قال: «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل» وذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل وكسرى والمقوقس والحارث الغساني ملك الحيرة والحارث الحميري ملك اليمن وإلى نجاشي الحبشة وإلى ملكي عُمان وإلى ملكي اليمامة وإلى ملك البحرين يدعوهم إلى الإسلام، فأجابه أصحابه رضي اللـه عنهم إلى ما أراد، وصُنع له خاتم من فضة نُقش عليه: «محمد رسول اللـه» وبعث بكتبه مع الرسل يدعو هؤلاء إلى الإسلام.

ولم يتغير عند المسلمين الأساس الذي بنيت عليه السياسة الخارجية الإسلامية وهو نشرُ الإسلام في العالم كله وحملُ الدعوة الإسلامية إلى العالم عن طريق الحجة والجهاد الذي هو دعوة الناس إلى الإسلام والقتال في سبيل اللـه مباشرة أو معاونة بمال أو رأي أو تكثير سواد.

يجب أن يسبق القتال حصول جملة من الأمور أوجزها في النقاط التالية:

  1- إعطاء معلومات واضحة عن الإسلام وبث أفكاره والقيام بالدعوة له وإظهار عظمة أفكاره من خلال كافة وسائل الإعلام المتاحة.

  2- إظهار قوة شخصية الدولة الإسلامية ومقدراتها وإبراز جرأة المسلمين وصلابتهم وشدة تمسكهم بمبدئهم من خلال مواقفها المبدئية حيال القضايا التي تعرض له.

  3- إحسان تطبيق أحكام الإسلام في الداخل حتى ينبهر الناس خارج الدولة بذلك ويتمنوا وصول المسلمين إليهم ليطبقوا عليهم نظام الإسلام.

إن أهم العناصر التي تشكل سياسة الدولة الإسلامية في مجال السياسة الخارجية هي ما يلي:

  1- حصر علاقة الرعاية مع الدول الأخرى بالدولة فقط، فليس لأي فرد أو حزب أن تكون له علاقة رعاية بأية دولة أجنبية، وينحصر دورهم في محاسبة الدولة الإسلامية على تصرفاتها في السياسة الخارجية، فلا يسمح بتاتاً بما يعرف اليوم من نشاطات أحزاب المعارضة خارج حدود دولهم ولقاءات زعمائهم مع سياسيين من الدول الأخرى لأن هذه التصرفات باطلة شرعاً. فالإمام وحده هو الراعي وهو المسؤول عن ذلك.

  2- تمارس الدولة الإسلامية المناورات السياسية التي يقررها الخليفة طبقاً لما يمليه الظرف، وتضع الخطط والأساليب المناسبة لذلك. والقوة هنا تكمن في إعلان الأعمال وإخفاء الأهداف.

  3- يجب أن تبرز الجرأة في كشف جرائم الدول وبيان خطر السياسات الزائفة، وفضح المؤامرات الخبيثة وتحطيم الشخصيات المضللة.

  4- فور قيام الدولة الإسلامية، إن شاء اللـه، ستعتبر الدول القائمة في العالم أربعة أصناف:

    أ) الدول القائمة في العالم الإسلامي، على كل أرض فتحها المسلمون صلحاً أو عنوة أو أسلم أهلها عليها، تعتبر كأنها قائمة في بلاد واحدة، فلا تدخل ضمن العلاقات الـخـارجـيـة ويـجـب أن يُـعـمـل لضمِّها وتوحيدها كلها في كيان دولة الخلافة الواحدة.

    ب) الدول التي تعقد الدولة معها معاهدات من أي نوع تُعامل وفق ما تنص عليه تلك المعاهدات. فلا يسمح بتاتاً بما يعرف اليوم من نشاطات أحزاب المعارضة خارج حدود دولهم ولقاءات زعمائهم مع سـيـاسـيـيـن من الدول الأخرى لأن هذه التصرفات باطلة شرعاً.

    ج) الدول التي لا تعقد معها معاهدات والدول الاستعمارية والدول الطامعة في بلاد المسلمين تعتبر دولاً محاربة حكماً، فتتخذ جميع الاحتياطات بالنسبة لها، ولرعايا هذه الدول أن يدخلوا بلادنا ولكن بجواز سفر وبتأشيرة خاصة لكل فرد ولكل سفرة.

    د) الدول المحاربة فعلاً والمحتلة لأراض إسلامية كإسرائيل يجب أن تتخذ معها حالة الحرب أساساً لكافة التصرفات وتعامل وكأننا وإياها في حرب فعلية سواء أكانت بيننا وبينها هدنة أم لا، ويمنع جميع رعاياها من دخول البلاد.

  5- تمنع منعاً باتاً المعاهدات العسكرية وما هو من جنسها، أو ملحق بها كالمعاهدات السياسية، واتفاقات تأجير القواعد والمطارات، ولكنه يجوز عقد معاهدات حسن الجوار والمعاهدات الاقتصادية والتجارية والمالية والثقافية ومعاهدات الهدنة طالما أنها تسير وفق أحكام الشرع.

  6- لا يجوز للدولة أن تشترك في المنظمات التي تقوم على غير أساس الإسلام كالمنظمات الدولية أو الإقليمية القائمة في العالم اليوم مثل المنظمات المنبثقة عن الأمم المتحدة، وكذلك الأحلاف ومجالس التعاون والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وما شاكل ذلك.

أما الذي يشرف على دائرة السياسة الخارجية بتفويض من الخليفة فهو أمير الجهاد الذي يشرف أيضاً على دائرة الحربية ودائرة الأمن الداخلي ودائرة الصناعة، لعلاقة كل ذلك بالجهاد وأحكامه.

ولقد ظل المسلمون يتبوأون مقعد الصدارة في العالم ويقودون الموقف الدولي ويؤثرون في مجريات الأحداث بشكل واضح في أكثر عصورهم، ولكنهم مع الأسف الشديد نقضوا عروة مهمة من عرى الإسلام في سياستهم الخارجية عام 1856م عندما ألحت الدولة العثمانية على أن تكون عضواً فيما عرف آنذاك بالأسرة الدولية التي تشكلت نواتها من الدول الأوروبية النصرانية في مؤتمر وستفاليا عام 1648م بعد أن استسلمت لشروطهم القاسية بالتخلي عن تسيير سياستها الخارجية على أساس الإسلام ما يعني وقف الجهاد، وكذلك إدخال بعض القوانين الأوروبية. فبدأ عندئذٍ مؤشر عظمتهم يهبط، ونجمُ دولتهم يأفل…. فما ترك قوم الجهاد قط في سبيل اللـه إلا ذلوا! عندئذٍ بدأت حقبة زمنية جديدة تأخذ حيزها في تاريخ المسلمين استنهض فيها الكافر كل عزائمه لينقضّ على الإسلام والمسلمين ويمعن فيهم قتلاً وتشتيتاً وتشويهاً لحضارتهم وتاريخهم، ويعبث بقيمهم على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلاً. فبعد أن آتت حملات الغزو الفكري التي قادها المستشرقون أكلها تحركت الجيوش النصرانية الرأسمالية لتخوض آخر المعارك مع هذا الرجل المريض – وهو اللقب الذي أُطلق على الدولة العثمانية -، وكانت الحرب العالمية الأولى في مطلع هذا القرن حيث انتصر الحلفاء على الدولة العثمانية التي دخلت الحرب متحالفة مع ألمانيا، أعلن بعدها بسنوات قليلة مصطفى كمال في إسطنبول إلغاء نظام الخلافة كنظام سياسي للمسلمين. ومنذ ذلك الوقت وتطبيق الإسلام متوقف داخلياً وخارجياً في كل بقاع العالم الإسلامي. وصار المسلمون بعد زوال سلطانهم وتقسيم بلادهم يحكمون بأنظمة رأسمالية علمانية أو اشتراكية شيوعية أو ديمقراطية مُقننة حسب أهواء الكفار المستعمرين وعملائهم. ومع طول المدة فقد المسلمون التصور الواضح لشكل الدولة الإسلامية وأجهزتها وممارساتها في السياسة الداخلية والخارجية.

حقاً إن العالم كله قد خسر بزوال الدولة الإسلامية خسارة لا يعوضها إلا عودة دولة الخلافة من جديد، ذلك أنهم فقدوا عنصر الهداية الذي يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

ولكن الأمر الأكـثـر وضـوحاً أن المسـلمين هم الخاسر الأكبر، ذلك أنهم فـقـدوا مصـدر عـزتـهـم وكرامتهم، وقسمت بلادهم ونهبت خيراتهم، وتفتتت قواهم، وفوق ذلك كله استحقوا غضب اللـه تعالى بسبب عدم تحكيمهم لكتاب اللـه وسنة رسوله بينهم، وما أصدق قول اللـه سبحانه: ]ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى[. فالواجب على المسلمين جميعاً العمل لإعادة الأمور إلى نصابها، وذلك بوضع كافة الإمكانيات المتاحة لديهم في تصرف العمل لإقامة دولة الخلافة الإسلامية، باعتباره قضية المسلمين الأولى والتي يجب أن توضع اليوم على رأس سلم أولوياتهم.

]والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون[ q

عبد اللـه الفاتي – بيت المقدس

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *