رسم السياسات المالية: الإيرادات العامة (5)
2018/03/10م
المقالات
3,734 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
رسم السياسات المالية: الإيرادات العامة (5)
من كتاب السياسة المالية في دولة الخلافة
د.عايد شعراوي (رحمه الله)
أصبحت السياسات المالية أداة مهمة من أدوات التخطيط الاقتصادي في العصر الحالي، وتراقب الدول المعاصرة إيراداتها ومصاريفها لكي تضبط إيقاع المال والاقتصاد، وهنا سيتم، بإذن الله التعرض للموارد، والتي من أهمها الزكاة، ثم الضريبة، مع ذكر رأي العلماء في ذلك، ثم سيتم التعريج على حق الفقراء في مال الأغنياء خارج نطاق الزكاة، مع استعراض الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على ذلك، وهذا يستدعي التطرق إلى آراء الفقهاء القدامى في ذلك.
وما تقدم ذكره سوف يتم بحثه على الشكل التالي:
المبحث الأول: الإيرادات العامة.
المبحث الثاني: قيام الدولة بجباية الزكاة وتوزيعها.
المبحث الثالث: فرض الضريبة، وآراء الفقهاء فيها.
المبحث الرابع: هل في المال حق سوى الزكاة؟.
الإيرادات العامة
تقوم الدول المعاصرة باستعمال الإيرادات والنفقات، بوصفهما عاملين يتوازنان من أجل التشجيع على النمو والاستقرار الاقتصادي، فتتخذ الدولة قرارات يمكن بواسطتها إحداث تغييرات متعمَّدة في مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية، ويعبِّر مشروع الموازنة عن الوسائل التي سوف تنتهجها الدولة لتنفيذ سياستها المالية. وإذا كانت الدولة متخلفة اقتصاديًا، فإنها تستهدف من سياستها هذه تحقيق النمو الاقتصادي. أما إذا كانت غنية مكتملة النمو، فإنها تحاول تحقيق التشغيل الكامل لكافة عوامل الإنتاج، وتجنب التقلبات الاقتصادية العنيفة، مثل التضخم، والانكماش، والبطالة…إلخ.
المطلب الأول: الإيرادات العامة في الإسلام:
تتشابه أهداف دولة الخلافة خلال تطبيق سياستها المالية مع الأهداف المذكورة أعلاه، والتي تسعى إليها أية دولة أخرى. لكن لدولة الخلافة موارد تختلف عن الموارد التي للدول الأخرى. وتملك دولة الخلافة سلطة تحصيلها، بل من واجبها ذلك، وتعدُّ هذه الموارد أساس مكونات بيت المال، وتفصيلها كما يلي:
أولًا: الواردات الدائمة الدورية لبيت المال: تتألف هذه الإيرادات من: الزكاة، والجزية، والخراج، والعشور، وواردات أملاك الدولة، وواردات الملكية العامة، وهي مفصلة في كتب الفقه والمال، القديمة منها والمعاصرة…
ثانيًا: الإيرادات غير الدائمة غير الدورية لبيت المال: وهي تشمل الإيرادات غير الدائمة غير الدورية لبيت المال: الأنفال، أو الغنائم، وخمس الغنائم، والفيء، وخمس الركاز، والمعدن، والتركة التي لا وارث لها، وكل مال لا يعرف صاحبه. وقد وردت آيات قرآنية تبين حكم هذه الأموال، وتخاطب الجماعة بجمعها، وتحدد كيفية إنفاقها وتوزيعها. والخطاب للجماعة يقصد به من يمثلهم، وهو ولي الأمر ، أو الخليفة بوصفه رأس الدولة، فقد ورد في القرآن الكريم عن الأنفال قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الانفال: 1] فجعل الله قسمتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وللخلفاء من بعده، ونزلت آية الغنائم يوم معركة بدر، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال:41].
وقال تعالى عن الفيء: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الحشر: 6]
وقال تعالى في الزكاة: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: 110].
كما ورد في الجزية قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].
المطلب الثاني: جباية الإيرادات:
تملك دولة الخلافة الولاية على الإيرادات الدورية وغير الدورية لبيت المال: جمعًا وإنفاقًا وتوزيعًا. وتدل النصوص القرآنية السابقة على ذلك، وتدل على ذلك أيضًا كتابات العلماء القدامى، من أمثال أبي عبيد، وأبي يوسف، ويحيى بن آدم القرشي، وابن رجب الحنبلي، وابن تيمية، والماوردي، وغيرهم.
فقد ورد في كتاب “الأموال” لأبي عبيد تحت عنوان: “صنوف الأموال التي يليها الأئمة للرعية” ما يلي: “فالأموال التي تليها أئمة المسلمين هي هذه الثلاثة التي ذكرها عمر، وتأولها من كتاب الله: الفيء، والخمس، والصدقة. وهي أسماء مجملة يجمع كل واحد منها أنواعًا من المال” [أبو عبيد، الأموال، ص:22]. وتدل هذه الفقرة على أن أئمة المسلمين هم أصحاب الولاية على المال المتعلق بالفيء، والخمس، والصدقة.
وذكر أبو يوسف في السطور الأولى من كتابه “الخراج” ما يلي: “إن أمير المؤمنين [هارون الرشيد]، أيَّده الله تعالى، سألني أن أضع له كتابًا جامعًا، يعمل به في جباية الخراج، والعشور، والصدقات، والجوالي [جاء في معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء، للدكتور نزيه حمَّاد، ص: 134 ما يلي: الجوالي:جمع جالية، وأصلها الجماعة التي تفارق وطنها، وتنزل وطنًا آخر، ومنه قيل لأهل الذمة الذين أجلاهم عمر عن جزيرة العرب (جالية)، ثم نقلت هذه اللفظة إلى الجزية التي أخذت منهم، ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه].وغير ذلك ما يجب عليه النظر فيه، والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته، والصلاح لأمرهم. [أبو يوسف، الخراج، ص:3]. أي إن أبا يوسف، وهارون الرشيد، يريان أن جباية الخراج، والعشر، والصدقة، والجزية، هي من مسؤولية الإمام (الخليفة).
أما يحيى بن آدم القرشي، فقد كتب عن الغنيمة: ” فأما الغنيمة ففيها الخمس لله، وهو مردود من الله على الذين سمَّى الله: للرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل) لا يوضع في غيرهم، وذلك إلى الإمام (الخليفة) يضعه فيمن حضره منهم، بعد أن يجتهد رأيه، ويتحرَّى العدل، ولا يعمل في ذلك بالهوى” [يحيى بن آدم القرشي، الخراج، ص:17].
وقال عن الفيء: “والأرض إن شاء الإمام وقفها، وإن شاء قسَّمها، كما يقسَّم الفيء” [يحيى بن آدم القرشي، الخراج، ص: 19].
وتحدث ابن رجب الحنبلي عن الفيء، والخراج، بقوله: “إن الإمام يخير بين الأمرين، إن شاء قسَّمها بين الغانمين، وإن شاء لم يقسِّمها لعموم المسلمين [أي فيما بين عامة المسلمين]، وهذا قول أكثر العلماء” [ابن رجب الحنبلي، الاستخراج لأحكام الخراج، ص16].
ويقول ابن تيمية: “فعلى ذي السلطان (الخليفة)، ونوَّابه في العطاء، أن يؤتوا كل ذي حق حقه. وعلى جباة الأموال، كأهل الديوان، أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية” [ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص:29].
وتحت عنوان أصناف الأموال السلطانية، قال ابن تيمية: “الأموال السلطانية، التي أصلها في الكتاب والسنة، ثلاثة أصناف: الغنيمة، والصدقة، والفيء: [ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص:32]. وأضاف قائلًا: “وإذا كان الإمام يجمع الغنائم، ويقسِّمها، لم يجُز لأحد أن يغلَّ منها شيئًا” [ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص: 35].
أما الماوردي، فقد خصَّص بابًا لولاية الصدقات، وذكر فيه شروط هذه الولاية، وأشار إلى تعيين الإمام لهذا الوالي، وفرَّق بين ما إذا كان والي الصدقات من عمَّال التفويض، يتصرف برأيه واجتهاده، أم من عمَّال التنفيذ، فيقتصر عمله على رأي الإمام (الخليفة) واجتهاده. [الماوردي، الأحكام السلطانية، ص:145-148-149]. ومن ضمن ما قال في هذا المجال: “أحدها أن يتولَّى تقدير أموال الفيء، وتقدير وضعها في الجهات المستحقة منها، كوضع الخراج، والجزية. فمن شروط ولاية هذا العمل أن يكون حرًّا، مسلمًا، مجتهدًا في أحكام الشريعة، مضطلعًا بالحساب والمساحة [الماوردي، الأحكام السلطانية، ص: 166].
هذه بعض آراء العلماء القدامى حول مسؤولية ولي الأمر أو الخليفة (الدولة) عن تولي هذه الإيرادات، وإنه وإن كان حِرْز هذه الأموال هو بيت المال، إلا أن هناك اختلافًا في بعضها وتميُّزًا؛ وذلك فيما يتعلق بأوجه صرف هذه الإيرادات [وسيتم بيانه فيما بعد].
2018-03-10