العدد 43 -

السنة الرابعة – ربيع الثاني 1411هـ، تشرين الثاني 1990م

الديمقراطية فكرة خيالية ونظام كفر

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

تعتبر الديمقراطية اليوم فتنة العصر بحق. وقد اعتبر انهيار الاشتراكية انتصاراً لها عند الكثيرين حتى من المسلمين. ويقوم الغرب بعمل دعاية واسعة لها لترويجها ولجعلها أساساً وقاعدة عند الشعوب ولا سيما عند المسلمين، وذلك إمعاناً في تضليلهم وإبعادهم عن شريعتهم وعقيدتهم.

وإذا كان النظر العميق في واقع هذه النظرية يظهر فسادها واستحالة تطبيقها، فإنه من المستهجن جداً أن تلقى رواجاً وقبولاً لدى المسلمين إذ توجد شريعة إلهية بينهم تحرم عليهم بشكل قاطع أخذ أي تشريع من غير الإسلام. وتجعل مصادر الإسلام وحدها، المتمثلة بالقرآن والسنة، المصادر الوحيدة للتشريع. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي».

وإذا كان مستوى الانحطاط الفكري الذي وصلت إليه الأمة الإسلامية، والذي عمَّ جميع شعوبها، يجعلنا لا نستغرب انتشار كثير من الأفكار غير الإسلامية بين المسلمين، فإن هذه الفكرة بالذات لا يستساغ أن تلقى بين المسلمين استحساناً أو قبولاً، وذلك لمناقضتها الصريحة لعقيدة الإسلام ولرسالته. فالإسلام يجعل التشريع لله وحده، والديمقراطية تجعل التشريع للشعب. وهذا ما يجعلها كفراً في نظر الإسلام.

ومما يزيد في الاستغراب والاستهجان، بل ومما يزيد في غربة الإسلام بين أهله أن نجد من (العلماء)! من ينادي بالديمقراطية ويعتبرها من الإسلام. أو يعتبر الإسلام ديمقراطياً. إما تضليلاً وإما جهلاً، مع أنهم يسمَّوْن علماء!

وقد كان للضعف الذي طرأ على أذهان المسلمين في فهم الإسلام، ولخضوعهم لأحكام الكفر عقوداً مديدة، ولمهاجمة الغرب الكافر للأفكار الإسلامية والترويج لأفكاره ونظرياته عن طريق العملاء ووسائل الإعلام والتعليم الأثر الكبير في انحراف الشخصية الإسلامية وفي جعلها تنشد الكمال والرقي في شخصية الغرب، وتسعى للتحضر من خلال الثقف بثقافته وتقليده. فابتليت الأمة الإسلامية بشخصيات تقدس الفكر الغربي وتنبذ الفكر الإسلام وتنسبه إلى التراث الذي انقضى عهده، وتتهمه بالعجز عن حل مشاكل إنسان اليوم ومجتمعات اليوم. بل إنا قد رأينا ممن يدّعون حمل الإسلام من يدفع عن الإسلام التهمة، فيعتبر الإسلام منهجاً للمجتمع يحل مشاكله ويرتقى به ولكن بعد أن يخضعه لقوالب الفكر الغربي، فيؤوله بما يتناسب مع فكر الكافر المستعمر. ويلوي أعناق نصوصه ليردّ اتهامات الغرب وليقول لهم: نحن مثلكم نقر ما تقرون ونرفض ما ترفضون. وكمثال على ما أقول مطالبتهم بالديمقراطية التي انبهر بها الناس.

وجدير بالذكر أن المسلمين قد مرّ عليهم وقت، راجت فيه الاشتراكية وأفكارها بينهم وآمن بها أفراد وقامت عليها أحزاب، مما جعل بعض أمثال هؤلاء المذكورين يحاولون التوفيق بينها وبين الإسلام ليقولوا أن الإسلام اشتراكي أو أن الاشتراكية من الإسلام أو ما شاكل هذا كما فعل الدكتور مصطفى السباعي في تأليفه لكتابه «اشتراكية الإسلام» على الرغم من غزارة علمه وسعة اطلاعه. وقد انبرى مسلمون علماء فهموا الإسلام فبيّنوا حقيقة الاشتراكية وحكم الإسلام فيها ومن هؤلاء الشيخ عبد العزيز البدري صاحب كتاب «حكم الإسلام في الاشتراكية» الذي ألفه رداً على الدكتور السباعي، رحمه الله.

وإذا كان بعض المسلمين قد ضُلّلوا بفكرة الديمقراطية حتى صار لفظها حسن الوقع لديهم. فإننا لا نشك أن مصيرها هو نفس مصير الاشتراكية.

وفي هذا المجال يحسن أن أذكر للقارئ بعض الكتب القيمة في هذا المجال والتي عالجت الموضوع معالجة فكرية عميقة على أساس الإسلام. من هذه الكتب: نظام الإسلام للشيخ تقي الدين النبهاني، وكتاب: الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها للشيخ عبد القديم زلوم، وكتاب: الديمقراطية وحكم الإسلام فيها للسيد حافظ صالح.

ونحاول في هذا المقال المقتضب أن نلقي ضوءاً على الديمقراطية للوقوف على حقيقة معناها ثم معرفة حكم الإسلام فيها.

قال تعالى في سورة الفرقان: ]أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً @ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً[. قال ابن كثير في تفسيره: أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه كما قال تعالى: ]أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ[ الآية ولهذا قال هنا ]أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً[ أ هـ.

ثم وصف تعالى من كان هذا حاله بأنه أضل من الأنعام.

إذا كان سبحانه وتعالى قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الناطقة والدلائل الباهرة، للدلالة على وجوده، وصدق رسله، ما هو يا ترى سبيل الذين يؤمنون بالخالق وبرسالة الإسلام، وبأن الخالق قد أرسل إليهم شريعة تعالج كل مشاكل البشر وتنظم كل علاقاتهم، فلم تترك أمراً مما حصل أو سيحصل إلا وفيها له حكم. ثم هم بعد ذلك يطالبون بأن يضع الشعب شريعته بنفسه. أليس هؤلاء كالأنعام؟

قال تعالى: ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[ الأنعام. وقال أيضاً: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[ النساء.

قال تعالى: ]أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[ الأعراف. فهذه آيات واضحة تجعل صاحب الحكم هو الله وحده سبحانه وتعالى. أي تحصر الحاكمية بالله تعالى. وإذا كانت لفظة (الحكم) قد يقصد بها السلطة السياسية أو السلطان، ويقصد بها إصدار الأوامر والنواهي، فإن المقصود بها هنا هو إصدار الأوامر والنواهي وإضفاء صفات الحسن والقبح على الأشياء وعلى الأفعال بتعبير آخر: الحكم هنا هو التشريع وليس المقصود به ممارسة السلطة السياسية ولا الجهة صاحبة هذه السلطة.

بهذا المعنى للحكم قالوا بأن الديمقراطية هي حكم الشعب من حيث حقيقة المعنى كاصطلاح ـ وهي كذلك من حيث المعنى اللغوي للفظ الديمقراطية فهي إغريقية الأصل مؤلفة من كلمتي Demo و Kratos فيصبح معناها حكم الشعب ـ أو أن النظام الديمقراطي تكون السيادة فيه للشعب أو للأمة.

وإننا لا نجد حاجةً إلى كبير عناء أو كثير استقراء ولا إلى عميق فهم أو وقفة حتى يدرك المسلم أن الديمقراطية لا تمت إلى الإسلام بصلة وليس فيه لها أي أثر، وأنها فكرة كفر تتناقض مع الإسلام تناقضاً جذرياً. نلمح هذا التناقض في كل حكم شرعي. وتتناقض مع قول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتتناقض مع كثير من الآيات الواضحة.

فالديمقراطية تعني أن يكون الشعب (الأمة) هو الذي يضع دستوره وأنظمته والقوانين التي يخضع لها في علاقاته وكافة شؤونه. هكذا أرادها أصحابها ومبتدعوها، وبهذا المعنى عرفوها وإنهم وإن كانوا يختلفون على طريق تحقيق هذه الفكرة، فهم في الحقيقة متفقون على استحالة تطبيقها. ونتيجة لاستحالة تطبيق الديمقراطية فقد قسمها أهلها إلى ثلاثة أنواع أو جعلوها في ثلاث صور: الديمقراطية المباشرة والديمقراطية النيابية والديمقراطية شبة المباشرة. أما الأولى فهي المعتبرة عندهم نموذجاً مثالياً للحكم الديمقراطي الصحيح وهي التي يتحقق فيها اجتماع المواطنين في هيئة جمعية عمومية للتصويت على مشروعات القوانين ولتعيين القضاة والموظفين وتصريف الشؤون العامة الخارجية والداخلية.

وقد اعتبر جان جاك روسو أن هذه الصورة هي الوحيدة التي تحقق سيادة الشعب وأن أي صورة أخرى لا تمثل الديمقراطية ولا تحقق النظام الديمقراطي.

أما الديمقراطية النيابية فهي التي تقوم على أساس انتخاب الشعب لعدد من النواب يكونون البرلمان ويتولون ممارسة السلطة.

ومع أن هذه الطريقة لا تتفق مع فكرة الديمقراطية ولا مع تعريفها فإنهم يعتبرون أن البرلمان يمثل الشعب وأن النواب يمارسون السلطة باسم الشعب ونيابة عنه. تبرز هذه الفكرة ـ الديمقراطية النيابية ـ أن أهل الديمقراطية ومبتدعي فكرتها قد أدركوا ولمسوا استحالة تطبيقها، ولذلك فهم يتوسلون بما هو قريب منها أو يدور حولها.

ولما لم يكن لديهم بديل ـ الديمقراطية ـ ولا القدرة على وضع البديل ـ إلا الفكرة الاشتراكية التي ظهرت فيما بعد بالشكل المعروف لدينا اليوم ـ فقد ابتدعوا الديمقراطية النيابية ، ولأنها تتناقض مع الديمقراطية فقد ربطوا بينهما بنظرية النيابة كمحاولة للتوفيق.

ومفاد نظرية النيابة أن النائب يقوم بالتصرفات القانونية، وتكون أثارها ملزمة للوكيل أو في ذمته وفي النظام الديمقراطي تكون الأمة هي الموكل أو المنيب والحكام هم الوكلاء أو النواب.

إلا أن هذه النظرية عجزت عن التوفيق لأن إرادة الأمة تختفي أمام إرادة الحاكم عند ممارسة الحكم ولأن الإنابة في الإرادة أمر مستحيل.

إزاء هذا التخبط توسل أهل الديمقراطية بنظرية أخرى هي نظرية العضو. وتعتبر هذه النظرية أن الأمة يمثلها شخص واحد له إرادة واحدة. وأن سائر الهيئات تمثل أعضاء هذا الشخص فتعبر عن إرادته دونما استقلالية عنه. فتكون الأمة كالإنسان والهيئات الحاكمة هي أعضاؤه المعبرة عن إرادته.

إلا أن هذه النظرية لم تلق نجاحاً لعدة أسباب أبرزها أنها تبرر استبداد الحاكم بالشعب أو بالأمة باعتبارها أن الحكام ـ في كل تصرفاتهم ـ يعبرون عن إرادة الأمة. فتنقلب الديمقراطية إلى نقيضها.

ولما كانت هذه النظرية عاجزة أيضاً عن بيان الوجه الذي تكون فيه الديمقراطية النيابية ديمقراطية فقد اتجه معظم فقهاء الغرب إلى أن أساس النظام النيابي لا يرجع إلى نظريات منطقية أو حلول قانونية، وإنما يعود إلى واقع الظروف السياسية والتطورات التاريخية.

والواضح أنهم ما لجأوا إلى الديمقراطية النيابية إلا لاستحالة تطبيق الديمقراطية.

أما الديمقراطية غير المباشرة، فإنه نتيجة لعدم إمكان وجود الديمقراطية المباشرة ولمناقضة الديمقراطية النيابية الديمقراطية، تحاول الديمقراطية غير المباشرة إشراك الشعب في الحكم معتبرة ذلك خطوةً إيجابية لصالح الديمقراطية، ولذلك فهي تعطي الشعب بعض الحقوق مثل الاستفتاء أو الاعتراض والاقتراض، وقد تعطيه زيادة على ذلك حق إقالة النائب وحق حل البرلمان وحق عزل رئيس الجمهورية.

وواضح في هذه الفكرة ـ الديمقراطية غير المباشرة ـ عدم وجود تحقق الديمقراطية، إذ أن ادعاء إعطاء الشعب بعض الحقوق، هو في الحقيقة سلب الشعب بعض حقوقه، وهو مناقض للديمقراطية، ولا تكون الديمقراطية المباشرة إذاً حكم الشعب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ثمة مشكلة تكمن في كيفية الوقوف على رأي الشعب أو على حكم الشعب أو اختياره. فاعتماد رأي أو حكم فئة من الناس على اعتبار أنه رأي الأكثرية قد يكون ـ وهو كذلك غالباً ـ رأي الأقلية. إذ أن الأكثرية قد لا تتجاوز 20% من المجموعة لأن الآراء الأخرى قد تكون متعددة لا يتجاوز أعلاها 15% من المجموع، وهذا فضلاً عن أن كثيراً من الآراء والأحكام والمعالجات لا يصح فيها الرجوع إلا إلى أهل الخبرة والاختصاص أو إلى الصواب، ولا يمكن أن تجعل الحكم في الشعب. هل يرجع للشعب مثلاً للحكم في كروية الأرض أو في وضع خطة عسكرية أو في تحديد نسبة الضرائب التي تفرض عليه.

إن الديمقراطية فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق. وإذا كان الغرب يخدع نفسه ويخادع الآخرين في ابتداع طرق للحكم تحت اسم الديمقراطية. فإن الإنسان مهما كان شأنه يعجز عن وضع نظام صحيح ينظم به سلوكه وعلاقاته ويؤمن له إشباع حاجاته وطمأنينته.

وزيادة في التوضيح والبيان، أعود إلى ما قلته من أن الديمقراطية تتعارض مع كل حكم شرعي. فالحكم الشرعي كما عرفه الأصوليون هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. وطريقة معرفة الحكم الشرعي هي دراسة الواقع المطلوب له الحكم أولاً أو دراسة المشكلة المبحوث لها عن علاج، ثم أخذ الحكم أو العلاج الذي أتت به الشريعة، أي الذي بينته الشريعة للحكم على ذلك الواقع أو لعلاج تلك المشكلة. وعند استنباط الحكم أو عند البحث لمعرفته فإن مصدر البحث لا يكون سوى النصوص الشرعية التي هي وحي من عند الله سبحانه وتعالى ويؤخذ الحكم منها أو مما دلت عليه بحسب دلالة ألفاظها. فالنصوص لها اعتبارها لأنها وحي ولك ما هو ليس وحياً ـ أو ما لم يرشد إليه الوحي، فإنه لا قيمة شرعية له، فلا تستنبط منه أحكام شرعية. وعليه فالشعب ليس مصدراً للحكم لأن رأي الشعب أو حكمنه ليس وحياً. والحكم لا يكون إلا ما كان وحياً أو دل عليه الوحي.

وأضيف هنا أنه حتى ولو توافقت بعض الأحكام الوضعية مع بعض أحكام الشرع، كمنع الربا أو الرشوة في قوانين بعض الدول الاشتراكية، فإن هذه ليست أحكاماً شرعية لأنها ليست موضوعة بناء على أوامر أو نواه من الله سبحانه وتعالى. فالحكم الشرعي يجب أن يلاحظ فيه أنه خطاب من الشارع، والشارع هو الله وحده.

وأما ما ذكرته من أن الديمقراطية تتعارض مع قولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله أي مع عقيدة الإسلام وأساس كل أفكاره.

فإن لا إله إلا الله تعني أن لا معبود بحق إلا الله، وهذه معناها الائتمار بكل ما أمر به والانتهاء عن كل ما نهى عنه، وعدم إعطاء أي جهة أخرى حق الطاعة. وبهذا تكون الحاكمية لله وحده وتكون السيادة للشرع وحده. وبهذا يظهر أن إعطاء الحكم أو أي حكم للشعب أو جعل السيادة أو جزء منها للشعب، هو إعطاء لحق الشتر يع لغير الله سبحانه وتعالى. وهو جعل للحاكمية لغير الله. وهذا من الكفر. إذ أن السيادة كما بينت سابقاً هي حق إصدار الأوامر والنواهي وحق إضفاء الحسن والقبح على الأشياء والأفعال. وهذه لا تكون لغير الله. والحاكمية لا تكون لغير الله باتفاق الأمة الإسلامية قاطبة. لا يشذ عن هذا فرد وهذا هو مفهوم: لا إله إلا الله.

أما قولنا: «محمد رسول الله»، فبعد أن أدركنا أن الحاكمية لله وحده وأن له وحده حق الأمر والنهي، لزمنا أن نعرف من أين وكيف نفهم بماذا أمر وبماذا نهى. فكان هذا القول «محمد رسول الله» موجهاً لنا بأن الأوامر والنواهي قد أرسلها الله سبحانه وتعالى إلينا مع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فهي لا تؤخذ من أحد سواه.

ولهذا كانت الديمقراطية كفراً لأنها تعطي حق الأمر والنهي وحق إضفاء صفات الحسن والقبح للشعب أي لغير الله. وتجعل السيادة للشعب أي لغير الله جل وعلا.

وأما تعارض الديمقراطية مع كثير من الآيات، وتناقضها مع الإسلام تناقضاً واضحاً، فلننظر معاً في هذه الآيات الواضحة ولنحاول أن نفهمها للوقوف على حقيقية حكم الإسلام على الديمقراطية.

قال تعالى: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا[ الأحزاب.

وقال أيضاً: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[ سورة النساء.

وقال: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا[ النساء.

وقال: ]فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ النور.

وقال: ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[ الحشر.

وقال: ]إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ[ الأنعام.

وقال: ]وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[ النساء.

إن هذه الآيات وغيرها كثير، تقضي وتقطع بأن الحاكمية لله وحده، وأن السيادة للشرع لا للشعب وهذه هي القاعدة الأولى من قواعد نظام الحكم الإسلامي، بل هي قاعدة الإسلام، إذ أنها مفهوم العقيدة ومقتضى الرسالة.

وبهذا يتضح أن جعل السيادة للشعب، أي الديمقراطية كفر، فهي تتناقض مع عقيدة الإسلام وقاعدته وتتناقض مع طريقة أخذ الحكم الشرعي وتتناقض مع نصوص الإسلام القطيعة في ثبوتها ودلالتها.

بقيت مسائل يتخذ منها بعض المتأثرين بأفكار الكفر عند الغرب مدخلاً لدعوى أن الإسلام ديمقراطي أو أن الديمقراطية من الإسلام. وهؤلاء لم يفهموا الإسلام فهماً سياسياً يدركون به أن الإسلام نزل للتطبيق، وإنما هم قد يحفظون أحكامه، ويجعلون لكل حكم رخصة أو استثناء يلجئ إليه حال المسلمين في خضوعهم لسيطرة الكافر المستعمر، ويحاولون تأويل أحكام الإسلام لتتوافق مع أسس الفكر الغربي ومنها الديمقراطية، وهذه الفكرة هي أن في الإسلام منطقة فراغ تركها الشارع للمسلمين ليشرعوا فيها بناءً على ما يرونه لمصلحتهم.

وتعليقنا المقتضب على ذلك أن الإسلام ليس فيه منطقة فراغ. وهذا الادعاء لا أصل له، ومتداع لا ينهض له دليل. وهو يشكل طعنة للحنفية السمحاء سواء أقصد ذلك قائله أم لم يقصد. فالإسلام كامل، أكمله الله. قال تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[ المائدة، وادعاء منطقة فراغ فيه ادعاء نقص. فما من حادثة أو فعل من أفعال الإنسان وقع أو هو وقاع أو سوف يقع إلا وللإسلام فيه محل حكم. قال تعالى: ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[ النحل، وما خير فيه المسلم من أمر فليس هو من قبل عدم بيان الحكم، ولا هو جزء من منطقة الفراغ إنما هو من قبل التخيير وهو الإباحة، وهي حكم شرعي على ما سبق وذكرت في تعريف الحكم الشرعي. فالفعل المباح هو ما دل الشرع على إباحته، والشيء المباح هو ما دل الدليل الشرعي على إباحته، أما ما رواه ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» فإنه لا يدل على أن هناك أشياء لم تبيّنها الشريعة وهذا الفهم مناقض لقوله تعالى: ]تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ[. وإنما هو يدل على أن هناك أشياء سكت الشرع عن تحريمها وليس عن بيان حكمها. بل إن هذا الحديث هو تبيان لحكمها وهو الإباحة. وقد سكت الشرع عنها عفواً أي أنه عفا عنها أي أباحها. فهذا إذاً بيان لحكمها وليس تركاً لأحد من الناس ليشرع لها حكماً.

ويلحق بهذه الدعوى المتهافتة أيضاً الدعوى بأن الحوادث متجددة وفي ازدياد مستمر، بينما النصوص محدودة يلزم تجديد الدين باستمرار ليوافق الزمان عن طريق إحداث التجديد في مصادره، ويستلزم ذلك استحداث مصادر تشريع أو استحداث أدلة. وهذه أيضاً تهمة نقص في الدين، إذ أن الدين كامل ويسع كل شؤون البشرية ومعالجاتها بذاته، بنصوصه ودلالاتها، بعامة وخاصة، مطلقة ومفيدة جمله ومفصلة، لا يحتاج إلى تعديل أو زيادة عليه من عند البشر.

إن هذه الدعوى لا يمكن أن توجد عند صَهَرَهُ الإسلام بعقيدته وأفكاره، وإنما توجد عند من يقارنون ويشابهون بين التشريع في الإسلام والتشريع في الأنظمة الوضعية، فيلقون سمات الأفكار غير أفكاره وأفكار التشريع غير الإسلامي على الإسلام. فيحرفون الكلم عن مواضعه بحجة مرونة الإسلام وعته وقد قال تعالى: ]فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ[ المائدة.

وثمة شبهة يتذرع بها المطالبون بالديمقراطية، وهي أن الجو الديمقراطي حيث يسمح النظام بطرح الإسلام والدعوة إليه أفضل لحمل الدعوة من الأجواء التي تنعدم فيها الديمقراطية.

وهذا تبرير نربأ بحامل الدعوة أن يلجأ إليه، إذ أنه لا يتوصل بالحرام إلى الحلال، وكذلك لا يدعى إلى منكر في سبيل الوصول إلى معروف.

وهذا فضلاً عن أن هذه الدعوى هي دعوة أيضاً إلى السماح بطرح أفكار الكفر والدعوة إليها والتكتل على أساسها. بينما الدعوة الحق يجب أن تكون إلى قلع الكفر وإزالة كل مظاهره. وجزء من هذه الدعوة، الدعوة إلى نبذ الديمقراطية. وحامل الدعوة عليه أن يتصور دائماً أنه يحمل الدعوة في دار كفر لتحويلها إلى دار إسلام، أو أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يواجهه من مشقات ومصاعب، وأن يحافظ على صفاء ونقاء أفكار الإسلام وأحكامه، لا أن يحرّفها إيثاراً للسلامة. قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا @ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً[ النساء.

بعد كل ما سبق نقول على سبيل القطع: إن الديمقراطية نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها. وإنه لمن الغريب بمكان أن تجد قوماً فيهم كتاب الله وسنة رسوله، وعندهم شرع الله خالق البشر، ثم ينادون ويطالبون بشرع البشر، متذرعين بشتى الدعاوى، ومحاولين أن يغيروا معناها إمعاناً في التضليل، وركوب رأس في المعصية، انبهاراً بمدنية الغرب وانبطاحاً أمام أفكاره تزلفاً لرؤسائهم وذلاً لحكامهم، تشدقاً بعلم لم ينفع وطمعاً في دنيا زائلة، وإعراضاً عن أمر الله ونسياناً ليوم عسير.

قال تعالى: ]وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى @ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى[ صدق الله العظيم ¨

 

 

 

ساد الأراذل فالبغاتُ يواشقُ .

في موطني حتى الكلابُ أسود .

تركوا اليهود وحاربوا أوطانهم .

فكأن أبناء البلاد يهود .

وإذا استكان الشعب ليس يسوسه .

إلا جبانٌ خائنٌ رِعْديدُ .

هذي الشعوب متى يُفَكّ وَثاقها .

ومتى من التيه المبيد تعود .

الأمة الشماءُ مُزِّقَ صفُّها .

متداعياً وأساسه التوحيد .

ترضى بذل القيد وهي عزيزةً .

بالحق عانق عزَّها التخليد .

في كل قطرٍ دولةٌ مشلولة .

في كل فج نازحٌ وشريد .

يا صيحة التحرير رَنَّ أذانها .

في المشرقين كأنه التغريد .

هُزّي عروشَ الظلم ما بنيانهم .

إلا هشيمٌ خامدٌ وحصيدُ .

يا فأسَ إبراهيمَ كل مُبَجَّلٍ .

من صنع آزرَ ضِلَّةٌ وجحود .

فاستأصلي أصنامهم لا تتركي .

صنماً فلا باغٍ ولا نمرود .

يا شعلةً تهدي السُّراةَ تألقي .

فجراً فمنهاج السُّراةِ رشيد .

أنّا رفعنا للمعالي رايةً .

والنصرُ فوق جناحها معقود .

وتُدَكُّ أبراجُ الطغاة فلا يُرى .

في الأرض صرحٌ للطغاة مشيد .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *