العدد 36 -

السنة الثالثة – رمضان 1410هـ، نيسان 1990م

أقوال مستغربة من الدكتور يوسف القرضاوي

في غرة عام 1990م أجرت جريدة «الشرق الأوسط» التي تصدر في لندن مقابلة مع الدكتور يوسف القرضاوي في أحد فنادق واشنطن. ونشرت المقابلة في أربع حلقات في 5 و6 و7 و9 من شهر شباط 1990م.

ولمّا كان فضيلته أحد العلماء والمفكرين المسلمين الذين يتأثر بآرائهم بعض المسلمين فإن مسؤوليته تصبح أكبر أمام الله وأمام الناس. و«الوعي» رأت من واجبها توجيه النصيحة إليه، وتنبيه المسلمين الذين يأخذون بأفكاره وأفكار أمثاله أن يترووا ويتأكدوا قبل أن يقلدوا ويتأثروا.

قال فضيلته: (نحن نعلم أن الفقهاء قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، وإذا كان هذا يجري على كل النواحي، فإن أولاها بالتغيّر هي المسائل السياسية. نحن محتاجون إلى معرفة عصرنا وما يتطلبه، ومن ذلك الديمقراطية.

سألني شاب في الجزائر: ما رأيك فيما يقوله بعض الإسلاميين من أن الديمقراطية كفر؟ ما هذا؟ إن من يقوله لم يفهم الإسلام ولم يفهم الديمقراطية، ولم يُضْرَب الإسلام ودعاته إلا تحت مطارق القهر والاستبداد والتسلط، ولم ينتعش العمل الإسلامي يوماً إلا في ظلال الحرية. كيف إذن يروج هذا الرأي؟

إن الديمقراطية هي التعبير العصري عما نسمّيه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى، والحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق الناس بها… إن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولا تتم الفرائض المطلوبة منا الآن كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ الدعوة وقول الحق وتجميع الناس على المعاني الإسلامية، لا يتم هذا كله في غياب الديمقراطية) انتهت عبارته.

وحين يقول فضيلته: (نعمل أن الفقهاء قرروا…) يفهم القارئ أو السامع أن جميع الفقهاء متفقون على هذا. فهل صحيح أن جميع الفقهاء قرروا ذلك أو أن فضيلته لا يقيم وزناً لما يقول، أو هو يدلّس عن قصد؟ وكيف يتصور عاقل أن جميع الفقهاء قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف؟

إن الأمر البديهي عند فقهاء المسلمين وعامتهم أن حرام محمد صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة وأن حلاله حلال إلى يوم القيامة ولا قيمة للزمان أو المكان أو العرف أو الحال إلا إذا وردت رخصة شرعية لذلك الحال وليس لذلك الزمان أو المكان أو العرف. والرخصة حكم شرعي تفهم من النصوص كما تفهم العزيمة.

وحين يقول فضيلته: (هذا يجري على كل النواحي وأولاها بالتغيّر المسائل السياسية)، فهو يعني أن قاعدة التغيّر لا تطال المسائل السياسية وما كان على شاكلتها فقط بل تطال كل المسائل فتطال العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والمطعومات والملبوسات والحدود.. الخ.

ماذا تكون قد أبقيت من الإسلام يا صاحب الفضيلة؟ وأنت تزعم أن جميع الفقهاء متفقون على ذلك!

– بقي أن تشرح لنا الآلية التي تتغيّر الأحكام بموجبها، أهي رغبة الحكام أم طغيان العادات الأجنبية الوافدة على المسلمين، أم هي الأهواء والشهوات عند كل ذي هوىً وشهوة، أم هي الأهواء والشهوات عند كل ذي هوىً وشهوة، أم هي المصالح من وجهة نظر معينة، أم هي العقول التي تربّت على أفكار معينة؟

وحين يقول فضيلته: (إن من قال: الديمقراطية كفر، لم يفهم الإسلام ولم يفهم الديمقراطية) فهذا يعني أنه هو الذي يفهم الإسلام ويفهم الديمقراطية. لا بأس، لكن هل هو يدافع عن الديمقراطية بشكل مطلق أو عن نموذج معين في ذهنه يسميه (الديمقراطية)؟ لم يتكرم فضيلته بالتوضيح. ولا عذر لمثله حين يُبقي كلامه مبهماً. المعلوم عند القاصي والداني أن كلمة (الديمقراطية) تطلق على نظام حكم له أسس محددة ومواصفات محددة، وهو النظام الذي تتباهى به الحضارة الغربية، وبه فُتِنَ كثير من المسلمين. ومن أهم أسسه أنه حكم الشعب. أي أن الشعب هو الذي يشرّع (يحلل ويحرّم)، والشعب هو الذي يعدّل الشرائع، والشعب هو الذي يختار طراز العيش الذي يريد فعنده حرية الاعتقاد وحرية التملك وحرية القول والحرية الشخصية. هذا هو معنى الديمقراطية. فهل يسمح الإسلام للمسلم أن يرتد عن الإسلام إذا شاء بموجب حرية العقيدة؟ وهل يسمح له أن يقول ما يشاء بموجب حرية القول أو يلتزم بقوله تعالى: ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ وهل يسمح له بالانفلات في الإباحية بموجب الحرية الشخصية؟ وهل يسمح للشعب بترك شرع الإسلام؟

يُشتمّ من كلام فضيلته أنه يفهم الديمقراطية كنقيض للقهر والاستبداد والتسلّط. وبما أن القهر والاستبداد والتسلط أمور قبيحة فيكون نقيضها (الديمقراطية) حسناً. هكذا يريد هو أن يقول. ويلزم من ذلك أن نقول: النظام الاقتصادي الرأسمالي فاسد ونقيضه هو النظام الاشتراكي الذي وضعه ماركس. إذاً هو نظام صالح.

والحقيقة هي أن الرأسمالية فاسدة ونقيضها (الاشتراكية الماركسية) فاسد. والقهر فاسد والديمقراطية فاسدة. والديمقراطية ليست هي مجرد السماح للمسلم أن يدعو إلى الإسلام، بل هي نظام واسع له أسس وله فروع وله دعاة وله أتباع وله مروّجون. ونحن نربأ بك يا صاحب الفضيلة أن تكون من مروجيه والداعين له.

وأغرب من ذلك قولك يا صاحب الفضيلة: إن الديمقراطية من الواجبات لأن كثيراً من الواجبات لا تتم إلا بها. فيا حبذا لو عدت وشرحت للقراء أنك لم تدافع عن الديمقراطية بشكل مطلق بل كنتَ تدافع عن معنى معين محدد أطلقت عليه اسم (الديمقراطية). فتصبح المشكلة أخف. أما إذا أردت إزالة المشكلة فلا تستعمل كلمة (الديمقراطية) إلا في صعيدها وهي أنها نظام غير إسلامي أي نظام كفر.

وقال فضيلة الدكتور القرضاوي في مقابلته هذه: (ليس من مصلحة الحركة الإسلامية أن تستعجل الصدام بالسلطات لأن ما نريده منها الآن ليس بالضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، فقد تكون أعجز من ذلك، وقد لا يسمح لها الآخرون الذين يملكون مقدّراتها أن تطبقها. نحن نطالبها فقط بأن تسمح للحركة الإسلامية بالتعبير عن نفسها… قضية الحركة الإسلامية الآن إذن هي الحرية. نحن نطالب بجو نستطيع أن نتنفس فيه ولا نختنق… لتجنب الصدام ـ بين الحركة الإسلامية حكام البلاد الإسلامية ـ واستبعاده لا بد من البحث عن المصادر المؤثرة، لأن كثيراً من السلطات تتأثر بالضغوط الغربية… لقد دعوتُ منذ فترة إلى حوار على المستوى الديني بيننا وبين الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي… لماذا لا تعقد ندوات للنقاش مع المستشرقين المهتمين بالعالم الإسلامي وتبحث معهم بعض القضايا الفكرية المحددة فيتاح لهم الاستماع إلى وجهة النظر الإسلامية… ونريد أيضاً حواراً على المستوى السياسي مع الغربيين، لأن كثيراً منهم يظنون الإسلام غولاً مفترساً والمسلمين وحوشاً لا تبقي ولا تذر. هذه أفكار لها رواسب تاريخية ونحن مطالبون بتصحيح المفاهيم عن الإسلام والمسلمين وعن الحركة الإسلامية ونبين أننا نريد فقط العيش بإسلامنا. ما يضيرهم أن نكون مسلمين متدينين؟ إننا لا نريد قتالهم، فالقتال أُجيز في الزمن الماضي لإزالة الحواجز التي تحول بيننا وبين إبلاغ كلمة الإسلام إلى الآخرين. لكن الحواجز الآن مزالة والطريق مفتوحة والإذاعات الموجهة ميسرة والحرية متاحة للجميع، ويا ليتنا نستفيد من عشر ما هو متاح لنا من حرية التحرك والدعوة أو حتى من عشر العشر.

إني أظن أن حوارات من هذا القبيل سيكون لها تأثير إيجابي على سلطاتنا، لأن كثيراً منها متأثرة بموقف الغرب فلو تحسن موقفه كان ذلك سينعكس عندنا أيضاً) انتهت عبارته.

هذا الكلام من أخطر ما يقال عن الإسلام والمسلمين، فكيف وهو صادر عن مسلم، وكيف وهذا المسلم هو أحد الأعلام في البلاد الإسلامية: عالم، فقيه، مفكر، داعية…!

هو ينصح الحركة الإسلامية بالحوار مع سلطات البلاد الإسلامية وعدم الصدام معها. ويقول بأن ما تريده الحركة الإسلامية من الحكام ليس تطبيق الشريعة الإسلامية بل الترخيص للحركة الإسلامية بالدعوة. وهو يرى أن هذه السلطات لا تملك أمرها ولا مقدّراتها، بل الغربيون هم الذين يملكون أمرها ومقدراتها. وهو يرى أن الحوار مع هذه السلطات لا يثمر إلا حاز رضى المصادر الغربية المؤثرة، إذاً فهو يقترح أن تذهب الحركة الإسلامية لمحاورة الفاتيكان ومحاورة السلطات السياسية الغربية، وإقناع هؤلاء جميعاً أن الحركة الإسلامية اليوم صارت مسالمة وأنها تريد غسل رواسب الماضي وأننا تخلينا عن أمر القتال الذي لم يعد له لزوم. فإذا نجحت الحركة الإسلامية بإقناعهم بحسن نواياها فإنهم سيوعزون إلى سلطات البلاد الإسلامية بالسماح للحركة الإسلامية بالعمل والتحرك والتنفس.

هذه هي خلاصة نظرية هذا العبقري الفذ!

الدكتور القرضاوي لا يجب الصدام مع الحكام، ومع معرفته التامة أنهم عملاء للغرب فهو يتجنب تسمية الأشياء بأسمائها فيقول عنهم: إنهم أعجز من أن يطبقوا الشريعة وقد لا يسمح لهم الآخرون الذين يملكون مقدراتهم. ويقول عنهم : كثير من السلطات تتأثر بالضغوط الغربية.

إذاً فضيلته يعرف أن الحكام ليسوا إلا دُمىً بيد الغرب، وهم صوت سيدهم وسوط سيدهم أيضاً. وهو يريد أن يتحاور مع السيد مباشرة.

ولكن كيف غاب عن فكر فضيلته قوله تعالى: ]وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[ وكيف غاب عنه قوله تعالى: ]وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا[ وقوله تعالى: ]قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ[.

هل أنت جادٌّ يا صاحب الفضيلة حين تقول: (نبيّن لهم أننا نريد فقط العيش بإسلامنا. ما يضيرهم أن نكون مسلمين متدينين؟ إننا لا نريد قتالهم)؟ على فرض أنك جاد فأنت لا تفهم الإسلام (واسمح لنا بها)، وهم يفهمون الإسلام من هذه الناحية أكثر منك، ولذلك لن تستفيد من محاورتهم. وإذا كنت مناوراً فإنهم واعون وحذرون ولن تستفيد من مناورتك.

(نريد فقد العيش بإسلامنا)! أي ننزوي في بلادنا ولا نتعاطى بشؤون العالم. وأين حمل الرسالة إذاً؟ وكيف نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه الله بقوله: ]قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[ وماذا نفعل بقوله تعالى: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[.

(وما يضيرهم أن نكون مسلمين متدينين؟)! ألا تعرف ما يضيرهم؟ أليس المسلم المتديّن هو الذي يقارع الكفر والكفار؟ أليس المسلم المتدين هو الذي يقتلع المنكرات من جذورها، وعلى رأسها ثقافة الغرب ونفوذ الغرب وعملاء الغرب؟ أليس المسلم المتديّن هو الذي يعيد بناء الخلافة الإسلامية لحمل رسالة الإسلام من جديد ورفع راية الجهاد من جديد؟

وأغرب من ذلك قولك يا صاحب الفضيلة: (إننا لا نريد قتالهم، فالقتال أجيز في الزمن الماضي لإزالة الحواجز… والحواجز الآن مزالة… والإذاعات الموجهة ميسرة).

هل انتهى الجهاد يا صاحب الفضيلة؟ وهل كان فقط من أجل إسماع كلمة، وما دامت الإذاعات تكفلت بإسماع الكلمة فقد انتهى دور الجهاد؟

وماذا تفعل بقوله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم» وقوله صلى الله عليه وسلم: «والجهاد ماضٍ مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجَّال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل».

اللهم احفظنا من الضلال والزلل وخذ بأيدينا لما تحب وترضى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *