العدد 35 -

السنة الثالثة- 1410 هـ، آذار 1990م

حرام على المسلم أن يشترك في حكم كفر حرام على المسلم أن يطبّق حكم كفر

أحمد فضل

طرابلس ـ الشام

]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[.

لقد كثر في الآونة الأخيرة الكلام عن التدرج في تطبيق أحكام الشرع، وعن المشاركة في حكم الكفر، ووُجد من يدعو لهما ويعمل على ممارستهما بدون أي تحرّج. ففي الأمس القريب طالب بعض المسلمين بحقائب وزارية في الحكومة الأردنية بحجة أنهم سيطبقون الإسلام من خلال الوزارات التي سيستلمونها، ثم منحوا الثقة للحكومة التي تشكلت والتي تحكم بالكفر، والتي أعلنت بعد أيام من تشكيلها أنها ستقوم بحماية حدود الكيان اليهودي وأنها ستعاقب كل من يحاول القيام بعمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي، وقد برّر هؤلاء منحهم الحكومة الثقة، بأنهم يأملون منها القيام بتطبيق الأحكام الشرعية تدريجياً. فما هو يا ترى واقع هذه الدعوات؟ وما حكم الشرع فيها؟ وإلى ماذا ستؤدي على أرض الواقع؟

أن أهم كلام يقال لهؤلاء. أن الله تعالى قد أمر بتطبيق الأحكام الشرعية كلها دون استثناء، قال تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ…[ والسلم في هذه الآية يعني الإسلام. وقال تعالى: ]وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[، ولفظة «ما» تفيد العموم، أي يجب أخذ كل ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم من شرع وتنفيذه، والانتهاء عن كل ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام. وقال تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ[. وهنا أيضاً نجد لفظة «ما» التي تفيد العموم، أي الحكم بكل ما أنزل الله تعالى، فلا يجوز تطبيق بعض الإسلام وترك بعضه أو تأخير بعضه.

ثم أن الإسلام بمجموعه، هو عبارة عن فكرة وطريقة، الفكرة هي الأفكار والأحكام التي تعالج مشاكل الإنسان. والطريقة هي الأحكام التي تبين كيفية تطبيق الفكرة وكيفية المحافظة عليها وكيفية نشرها. فالطريقة هي من جنس الفكرة، أي هي شرعية تستمد من الوحي، ولا يحق لنا أن نبحث عن طريقة لتنفيذ الفكرة من غير الشرع. وقاعدة «الغاية الشرعية تُدْرَك بالطريقة الشرعية.

وإذا عدنا إلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي إنما جاء بها الوحي، لوجدنا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام طبق الإسلام تطبيقاً انقلابياً جذرياً، فلم يكن يختلط مع الإسلام في الدولة أية أنظمة أخرى غيره تشوه صورته وتلوث كيانه.

لقد استدل هؤلاء بأن الأحكام الشرعية نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة، فخلطوا ما بين تشريع الأحكام ـ الذي يعود لله تعالى ـ وبين تطبيق الأحكام والذي هو من واجب المسلمين المطالبين بتطبيق الإسلام كاملاً غير منقوص. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكم بأي حكم ولا نظام سوى ما أتى به الوحي، إلا أن الحوادث التي لم تكن تقع جملة واحدة، حين كانت المسائل تستجد الواحدة تلو الأخرى، كانت الآيات تنزل لتعالج كل مشكلة عند حصولها، ولتحل كل مسألة مستجدة. وكل حكم شُرع يجب الالتزام به ولا يجوز إهماله بحال من الأحوال، فالله تعالى هو الذي شرع، وعصر الوحي انتهى بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب على المسلمين الطاعة والتنفيذ، قال تعالى: ]وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[.

ثم أن الشبهة يجب أن تزول وتنتفي حين ننظر إلى المجتمعات التي حكمها الإسلام بعد تمام نزول القرآن وكمال الشريعة، من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مروراً بالخلفاء الراشدين إلى أواخر عهد الدولة الإسلامية، فنجد أن الإسلام كان يطبق فيها تطبيقاً جذرياً انقلابياً، لا يبقي للنظام القديم أي وجود. فمن أين طلعت لنا هذه البدعة الجديدة التي لم يقل بها فقيه من فقهاء الأمة ولا مجتهد من مجتهديها، طوال التاريخ الإسلامي؟!

إن الذين يستدلون على جواز خلط أحكام الإسلام بأنظمة الكفر، بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينسبون بذلك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بتطبيق أحكام الإسلام إلى جانب غيرها، أي إلى جانب أحكام الكفر، فهلاّ وعي هؤلاء ما يقولون!

إن الأمثلة التي ضربها دعاة التدرج، هي نفسها لا ينطبق عليها الحكم الذي يطلقونه باعترافهم هم. فهم يستدلون بأن الخمرة حرمت على مراحل ـ مع أن هذا غير صحيح ـ ثم إن سألتهم، هل يجوز التغاضي عن شرب الخمر الآن؟ فإنهم يجيبون: معاذ الله. ويستدلون بأن الربا حرّم على مراحل، ثم إن سألتهم: هل يجوز التغاضي عن التعامل بعقود الربا الآن؟ فإنهم يقولون: معاذ الله: عجيب أمرهم، إذا كان المثال نفسه لا ينطبق عليه الحكم باعترافهم، فكيف يطبقونه على غيره من المسائل؟! لا شك أنها مغالطة كبيرة، وما هذه الاستدلالات إلا تبريرات للحكم الذي استُمد من غير الشرع.

وهناك ملاحظة أخرى يجدر التنويه إليها، وهي أن الأنظمة الإسلامية، هي وحدة متكاملة، وبنيان متماسك، إذا طبقت بشكل كامل، وأُحسن تطبيقها. فإنها ستؤدي إلى حل مشاكل المجتمع حلاً صحيحاً، وتنهض به النهضة الصحيحة. أما إذا طُبق بعضها وترك البعض الآخر وحل محله أنظمة من غير الإسلام، فإنها لا تؤدي إلى حل المشاكل على الوجه المنشود، ولن تؤدي إلى نهضة المجتمع، لأن أحكام الإسلام يكمل بعضها بعض، ويبنى بعضها على البعض الآخر، لذلك فإن فصل الأحكام بعضها عن بعض، أو تطبيق البعض دون البعض الآخر، هو كمن يبتر أطراف الجسد وأعضاءه عن بعضها، فلا يعود لها أي فائدة على الإطلاق. فالإسلام ـ مثلاً ـ حين أوجب قطع يد السارق، كفل للإنسان الذي يعيش تحت سلطة الدولة الإسلامية حاجاته الأساسية بحيث لا يعود هناك ما يرخّص السرقة، فإذا سرق بعد ذلك فمن العدل الذي لا شبهة فيه أن يعاقب على فعله. وكمثال آخر. فإن الإسلام أمر بقتل المرتد إن لم يتب، وذلك بعد أن منع وجود أي دعوة لأفكار أو عقائد أو مبادئ غير الإسلام، والتي تشوش الأذهان وتفسد عقول الناس. وأيضاً كمثال، إن الدولة الإسلامية هي دولة جهاد وحمل رسالة، وأن إعلان نشر الدعوة والجهاد سمة للسياسة الخارجية للدولة يقضي بإلغاء الحدود التي يرسمها الدستور، ويقضي بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الدول التي تحكم بلاد المسلمين باعتبارها باغية مغتصبة للحكم وخارجة على الدولة الإسلامية ومطبقة للكفر على المسلمين، ويقضي بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الدولة المستعمرة، ولك ذلك يقضي بإلغاء الاعتراف بشرعة الأمم المتحدة وعدم الالتزام بما يسمى بالأعراف الدولية، وهذا كله لا يتأتى بوجود القوانين الدستورية والفرعية المستمدة من غير الإسلام. هذه أمثلة قليلة. والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى، فأنّى للتدرج أن يجعل الإسلام موضع التطبيق؟!

إن تطبيقاً للأحكام الشرعية على كل هذا الشكل سيؤدي بلا شك، إلى ظهور هذه الأحكام، بل المعالجات الإسلامية كلها، في صورة العاجز عن معالجة المشاكل الإنسانية، وفي صورة النظام القديم الذي أكل الدهر عليه وشرب، مما سيُفقد ثقة الناس من جديد بمعالجات الإسلام وأحكامه وأفكاره، فنجد أنفسنا قد عدنا من جديد إلى أحلك حالات الانحطاط والتخلف الذي عاشته الأمة، والذي كان سببه فقدان الثقة بالأنظمة الإسلامية.

فهل يدرك دعاة التدرج إلى أين يسوقون الأمة، وهل يدركون أبعاد سلوكهم نهجهم هذا، الذي إن سلكوه إلى نهايته سيؤدي إلى أوخم العواقب وأخطرها؟

وفوق ذلك نقول…

إن تطبيق بعض الأحكام الشرعية أو القوانين الإسلامية من خلال قنوات أنظمة الكفر لا يعتبر حكماً بالإسلام.

قد يستغرب البعض هذا القول.. كيف لا يكون تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقاً للإسلام؟! نقول ونؤكد، نعم ليس هذا تطبيقاً للإسلام..

وهاكم شرح ذلك..

إن القوانين في أي دولة من دول العالم هي ترجمة وشرح وتفريع للدستور، لذلك فإن الذي يحدد هوية الدولة هو الدستور.

فعندما يكون الدستور قائماً على أساس ديمقراطي، فإن الدولة تكون ديمقراطية، وحين يكون قائماً على أساس الاشتراكية، فإن الدولة تكون اشتراكية، وحين يقوم على أساس الإسلام فإن الدولة تكون إسلامية.

والدساتير المطبقة في بلادنا اليوم قائمة على أساس الديمقراطية الغربية، والديمقراطية تنص على أن الشعب هو الذي يصنع القوانين، ولا تحدد المصدر الذي يجب على الشعب أن يستمد منه القوانين، فقد يكون العرف وقد يكون قوانين دول أجنبية وقد يكون الدين أو غير ذلك أو من عدة مصادر. وها هي كثير من الدساتير في بلادنا تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع. ولكن الدولة عندما تطبق تنسجم مع الدستور، وعندما تكون هذه القوانين مستمدة على هذا الأساس فإن الدولة لا تطبقها على أساس أنها حكم الله وشريعته ونظامه، بل بوصفها قوانين من وضع الشعب، وهي بذلك تنسجم مع الدستور الذي ينص على أن السيادة للشعب. ولذلك لا تعتبر هذه الدولة مطبقة للإسلام ولا حاكمة به، وإنما تبقى حاكمة بالنظام الديمقراطي، أي نظام الكفر. وبذلك، فإن الدولة حين تدخل المزيد من الأحكام الشرعية في القوانين فإنها ستطبقها باعتبارها قوانين ديمقراطية، ومن خلال أقنية نظام الكفر، وباعتبارها منبثقة عن الدستور الديمقراطي الكافر، لا باعتبارها حكم الله وشريعته، وبعبارة أخرى، فإن الناحية الروحية فيها مفقودة.

والنتيجة عند ذلك، أن الدولة التي تحكم بدستور كافر قد لبست ـ بدعوة دعاة التدرج ـ رداءً إسلامياً يحافظ على وجودها ويضمن لها مزيداً من البقاء، لأن الشعب سيسكت عنها ظناً منه أنها تحكم بالإسلام. ثم أن الأحكام الشرعية التي أدرجت في القوانين أصبحت في خدمة نظام يقوم على دستور ديمقراطي كافر.

أين ذلك الطرح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». هل يدرك دعاة التدرج هذه الحقيقة أيضاً؟ هل يعلمون أنهم يطيلون بعمر النظام الكفار حين يدعون بهذه الدعوة، هل يدركن أنهم يجعلون أحكام الإسلام في خدمة دساتير الكفر، وحكام الكفر عملاء الكفار؟

ها هي الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين، تحتوي قوانينها على الكثير من الأحكام الشرعية، إن هذه الدول ستبقى دول كفر ما دامت الدساتير الديمقراطية تحكمها، وما لم يحل محلها الدستور الإسلامي.

إن مثال السودان ليس ببعيد، حيث أدخلت بعض الأحكام الشرعية إلى القوانين الفرعية، في الوقت الذي يتحكم الدستور الديمقراطي بالدولة كلها بما فيها نظام الحكم والاقتصاد والسياسة الخارجية وسياسة التعليم. فتنبع عن ذلك صورة مشوهة عن تطبيق الشريعة الإسلامية، ولم تتوقف المشاكل التي أفرزها نظام الكفر عن التفاقم، إلا أن هذه المشاكل، نسبت إلى الشريعة الإسلامية حين ادعى الحكام تطبيها كذباً وبهتاناً وزوراً..

إن الإسلام أعلى وأرقى وأكرم وأشرف، من أن يطبق من خلال قنوات الأنظمة التي تتناقض معه من حيث الأساس. فشكل الدولة الراهنة وأجهزتها ومناصب الحكم والتنفيذ فيها ـ كلها ـ تتناقض مع شكل الدولة الإسلامية كل التناقض. فنظام الحكم فيها هو نظام الخلافة وليس النظام الاقتصادي، ونظام الاقتصاد فيها متميز من أساسه وليس نظاماً رأسمالياً ولا اشتراكياً، وسياسة التعليم فيها إسلامية تهدف إلى بناء الشخصية الإسلامية وليست سياسة التعليم الحر أو الليبرالي، وسياستها الخارجية ليست سياسة القانون الدولي ولا شرعة الأمم المتحدة، وإنما هي سياسة حمل الرسالة وإعلان الجهاد لنشر الدعوة.

كيف يتأتى لأنظمة كهذه التي تحكمنا أن تطبق الإسلام، وتركيبتها وطبيعتها أساساً لا تسمح بذلك؟!! إنه حقاً لعبث ولهو وإلهاء أن يُدعى بدعوة كهذه.

إن دعاة التدرج لم يكتفوا بأن يدعوا الحكام إلى التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية. بل تجاوز فريق منهم ذلك، إلى العمل على المشاركة في الحكم بحجة أنه ينوي تطبيق الأحكام الشرعية من خلال منصبه وصلاحياته، إن هو أصبح وزيراً للاقتصاد، فإنه سيطبق النظام الاقتصادي الإسلامي، وإن هو أصبح وزيراً للتعليم فإنه سيفرض سياسة التعليم الإسلامية، وإن أصبح وزيراً للإعلام فسوف يعمل على الدعاية للإسلام.. وهكذا.. إلى أن يسيطر الإسلام على كل مناصب الحكم ـ حسب زعمهم ـ فيكلم بذلك تطبيق الإسلام.

إن كلاماً كهذا، إنما يدل على سطحية بالغة في فهم واقع الأنظمة القائمة، وكذلك على جهل بطبيعة الأنظمة الإسلامية والدولة الإسلامية.

فعلاوة على ما قلناه من أن الإسلام إنما يطبق تطبيقاً انقلابياً شاملاً، وإن هذه الطريقة هي الطريقة الشرعية الوحيدة، وعلاوة على أن النظام الإسلامي لا يؤدي نتائجه على أرض الواقع إلا بتطبيقه كاملاً تاماً، نقول لهؤلاء، ونسائِلُهم.

كيف يمكن الوصول إلى حكم إسلامي عن طريق مخالفة الشرع؟ هل اندرجت لديكم قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» حتى على الوسائل المحرمة؟ هل تجوز المشاركة في حكم الكفر؟ من أين أتت هذه الفتوى؟ أمن كتاب الله؟ أم من سنة رسول الله؟ أم من الإجماع أم القياس؟ لا شك أنها من نتائج العقول التي غرقت في الواقع الفاسد إلى درجة أنها جعلته مصدر المعالجة، تستقي منه تصوراتها، بدل أن يكون الواقع الفاسد موضع المعالجة، تستقي منه تصوراتها، بدل أن يكون الواقع الفاسد موضع المعالجة وأن تستمد المعالجة من الشرع. ألا يخشى أولئك أن ينطبق عليهم قوله تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا[. وأين هم من قوله تعالى: ]وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ

قد يردون أن المسلمين عندما يصلون إلى الوزارة فإنهم لن يطبقوا الكفر، وإنما سيطبقون الأنظمة الإسلامية.

فنقول…

أن الوزير ليست مهمته أن يختار الأنظمة التي يطبقها، وإنما هو أجير استؤجر من أجل تطبيق الأنظمة التي تبنتها الدولة، فليس في يده شيء من ذلك. فهو ليس ذا سلطة تشريعية، وإنما هو من السلطة التنفيذية، فمن أين له أن يطبق الأحكام الشرعية.

ثم إن هذا المسلم الذي شارك في الحكم عن طريق الوزارة، لو سلمنا جدلاً أنه سيطبق أحكاماً شرعية من خلال منصبه، إلا أنه خالف النظام الإسلامي بمجرد أن أصبح وزيراً، وسيظل مخالفاً ما دام وزيراً. فهذه الوزارة هي أحد مناصب نظام الحكم الديمقراطي الذي تقوم الدولة على أساسه، وهو غير نظام الحكم الإسلامي، أي هو نظام كفر. ومجرد شغل هذا المنصب يعتبر حكماً بالكفر وإقراراً له. فكيف يعقل أن تنكر نظاماً أو تنقضه في الوقت الذي تطبقه؟ إن هذا لا شك أمر غريب عن الإسلام ولا يمتّ إلى المبدئية بصلة.

الأصل في المسلم، أنه بمجرد سماع الكلام عن الوزارة يعتبرها من الكفر، وأن الذي يشغل الوزارة إنما هو حاكم بالكفر، ولو طبق من خلالها أحكاماً شرعية.

لقد تعاطى بعضهم مع المسألة بسطحية، فقال: «إن منصب الوزارة ليس خاصاً بالنظام الديمقراطي ولا أي نظام وضعي، وإنما هو موجود في النظام الإسلامي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وزيراي في الأرض أبو بكر وعمر»، والخليفة طوال عهود الدولة الإسلامية كان حوله وزيران على الأقل، فلا تكون الوزارة بذلك مخالفة للشرع».

فنقول.. إن الوزارة بمدلولها الحديث المطبق الدولة الحديثة هو غير مدلولها في النظام الإسلامي، فهما أمران مختلفان وإن اتحدا بالإسلام، وهما من باب المشترك اللفظي لا أكثر.

فأصل الوزارة في النظام الديمقراطي، أن الحكم لديهم لا يجوز أن يكون فردياً، وإنما يجب أن تتوزع مهما الحكم على مجموعة من الحكام، وهؤلاء الحكام يسمّون وزراء، يرأسهم أحدهم أو رئيس الدولة. وكل وزير من هؤلاء له صلاحية الحكم بسلطته الخاصة فيما هو مكلف فيه، ولا يمضي أي قرار مما يتعلق بوزارته إلا بموافقته، وبذلك يوجد في الدولة الواحدة عدة حكام، كل واحد منهم له سلطته وصلاحياته المستقلة.

وهذا يختلف كل الاختلاف عن نظام الحكم الإسلامي، حيث القيادة فردية، وهي للخليفة وحده، أما اللذان سماهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «الوزيرين»، فهما عبارة عن معاونين للخليفة، ولذلك كان الأصح بعد أن أصبح للفظة «الوزير» هذا المدلول الجديد، أن نستبدل بها لفظة «المعاون»، حتى لا يختلط به معنى الوزارة في الدول الحديثة التي تقوم على أساس غير الإسلام.

وبذلك يتبين ـ ولو بشكل جزئي ـ الفرق بين نظام الحكم وشكل الدولة في الإسلام وبين نظام الحكم وشكل الدولة في النظام الديمقراطي، ويتبين أن الوزارة التي يريد دعاة المشاركة والتدرج شغلها هي عبارة عن منصب في نظام الكفر.

أما عن الأدلة التي أوردها دعاة المشاركة، فإنها لا ترقى لأن تستحق المناقشة القيّمة أو العميقة، وهي لا ترقى لأن تكون شبهة دليل معتبرة شرعاً..

لقد استدل بعضهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنه شهد في الجاهلية حلفاً، لو دعي إليه في الإسلام لأجاب. وهذا الاستدلال هو من أوحى الاستدلالات، فإن هذا الحلف كان عبارة عن اتفاق جرى بين بعض رجال قريش على نصرة المظلومين الذين يدخلون مكة ويتعرضون للاعتداء، وسُميّ حلف الفضول.

فقد روى ابن كثير عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعد ظالم مظلوماً». وروى ابن كثير أن الزبير بن عبد المطلب كان ضمن ذلك الحلف، ونقل قوله:

إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا

                     ألا يقيموا ببطن مكة ظالم

أمرٌ عليه تعاقدوا وتواثقوا

                 فالجار والمعتر فيهم سالم

إذن، فكل ما يفيده الحديث هو وجوب الدفاع عن المظلوم، وندب التعاون على ذلك ولو مع الكفار. أما أن يستدل به على جواز دخول حكومات الكفر والحكم بأنظمة الكفر، فهذا مما لا يحتمله الحديث لا من قريب ولا من بعيد، إذ لا شأن له لا بالحكم ولا بالأنظمة ولا بشيء من ذلك.

واستدل بعضهم بقوله تعالى على لسان نبيه يوسف مخاطباً ملك مصر: ]قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[، وقالوا أن يوسف شارك الملك في حكمه وكان بمثابة وزير للمال في الدولة، وقالوا أن شرع من قبلنا هو شرع لنا.

وهذا الاستدلال واهٍ ومردود من عدة جهات. لن أتكلم في الخلاف الدائر بين علماء الأصول حول شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا أم ليس شرعاً لنا؟ مع العلم أن الجمهور أثبتوا أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا. ولكن أقول.. حتى العلماء الذين قالوا أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقالوا هو شرع لنا ما لم يرد له ناسخ في شريعتنا، فإذا جاء الحكم على مسألة ما في شريعتنا فإنه لا يعود هناك مجال للعمل بشريعة الأنبياء السابقين.

فنتوجه بالسؤال إلى دعاة المشاركة: هل نظرتم إلى الشريعة الإسلامية، وبحثتم عن نظام للحكم فلم تجدوه؟ شريعتنا سنّت لنا نظاماً للدولة، كل نظام سواه هو نظام كفر، وهذا النظام هو ما اصطلح عليه تسميته بنظام الخلافة. فلماذا الرجوع إلى شريعة يوسف عليه السلام، بينما نظامنا بين أيدينا؟ ثم من قال أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان لديه نظام للدولة ثم طبق نظام كفر؟ ومن قال أنه كان وزيراً كوزراء هذا العصر؟

الذين يدخلون في الحكومات ويستلمون الوزارات، يخالفون بذلك أحكام شريعتهم، ويحكمون بالكفر، فلا يجوز لهم الاستدلال بفعل يوسف عليه الصلاة والسلام. ليس هناك ما يدل على أن يوسف كان معه نظام للحكم وطبق غيره، بل أن عصمة الأنبياء تقضي بنفي ذلك عن سيدنا يوسف لأن تطبيق غير ما نزل به الوحي هو تطبيق للكفر، وحاشا لأنبياء الله أن يطبقوا الكفر.

ثم ها هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد عُرض عليه الملك في مكة المكرمة، فلم يقبل به، ولو أراد أن يعمل وفق «نظرية» التدرج والمشاركة، لقبل السلطة التي عرضت عليه وتدرج في تطبيق الشريعة، إلا أنه اعتبر ذلك مخالفة لشرع الله وتركاً للدعوة، فردّ بقوله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

من هنا، نقول.. أن رأياً كهذا، لا يستند إلى دليل شرعي، وإن ادّعى أصحابه الاستدلال بالنصوص. لذلك فإن التعاطي معه لا يكون بالمناقشة التي تجري بين الذين يختلفون في فهم النصوص الشرعية الظنية الدلالة. أي أن صاحبه لا يملك شبهة دليل حتى يعتبر رأيه حكم الله في حقه. وإنما هو تحميل النصوص ما لا تحتمله بأي شكل من الأشكال. وبمعنى آخر ليس رأياً إسلامياً، والمسألة ليست مسألة خلافية وإن خالف فيها البعض، مثلما أن تحريم فوائد البنوك ليست خلافية وإن أفتى بعض أصحاب العمائم بجوازها.

لذلك فإن التعاطي مع هذا الرأي، يكون بمهاجمته ومكافحته باعتباره رأياً غير إسلامي، أي فكراُ من أفكار الكفر يشكل خطراً على فكرة الأمة وسلوكها.

وختاماً نسأل الله تعالى أن يكرمنا بدولة خلافة راشدة على منهاج النبوة، تعز الإسلام وأهله وتذل الكفر وأهله، وتعلي راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله» خفاقة فوق كل الأرضين، ولا تبقي لأنظمة الكفر باقية، وهو القائل سبحانه: ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *