ماذا تعمل أميركا بالعراق؟

أميركا كانت قادرة على احتلال بغداد وإسقاط نظام صدام حسين، ولكنها لم تفعل. ولذلك أنحى قائد القوات (سكوارتسوف) باللائمة على بوش، ثم اعتذر، واحتجت أميركا بأنها جاءت لتحرير الكويت ولم تأت لإسقاط النظام العراقي. وقالت بأن مسألة إسقاط النظام تخص أهل العراق. وقد حرّضت شعب العراق على الثورة فحرضت الشيعة في جنوب العراق والأكراد في شمالهن وأوعزت لعقد مؤتمر، فعقد في بيروت وضم مختلف الفئات المعارضة للنظام العراقي. ونشبت الثورة في العراق دموية عنيفة.

وقام الجيش العراقي بالتصدي للثورة في الجنوب أولاً ثم في الشمال وسحقها بكل عنف. ولم تساعد أميركا الثورة ولم تمنع الجيش العراقي من سحقها، بل سمحت له باستعمال طائرات (الهليكوبتر) لإخماد الثورة. وهنا برز غرض بوش من عدم إسقاط نظام صدام، وبرز غرضه من إيقاف الحرب قبل أن يقضي نهائياً على قوة الجيش العراقي، هذا الغرض الذي يفهمه (سكوارتشوف) في حينه.

غرض بوش هذا هو إيقاع التذابح بين أفرقاء الشعب العراقي من أجل إيجاد الشروخ وزرع العداوات والثارات بين هؤلاء الأفرقاء.

في بداية التحريض الأميركي على الثورة صدّق قادة الشيعة أقوال أميركا، وصدّق قادة الأكراد أقوال أميركا. ثم اكتشفوا خداعها، وأُسقِط في أيديهم، وقالوا بسذاجة: حرضونا على الثورة فثرنا ثم تخلوْا عنها. يقول (بريزنسكي): «كان هؤلاء يعوّلون، بشكل ساذج، على دعم الولايات المتحدة». كان المفروض فيهم أن يفهموا منذ بداية التحريض أن أميركا مخادعة، إذ لو كانت جادة لما كانت تركت الجيش العراقي رمقاً من قوة، ولكانت أسقطت البصرة على الأقل. ولكنها تريد من ذلك أن تشخن النفوس ليس ضد صدام وحده، بل أن تزرع الضغائن بين السنة والشيعة وبين العرب والأكراد، لتثير هذه الضغائن في المستقبل وتحرك هذه الفتن حينما يلزمها ذلك.

آن للمسلمين أن يخلعوا عنهم السذاجة السياسية وأن يفهموا الخداع الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص. حين تقول أميركا بأنها جاءت لتحرير الكويت فهي كاذبة، وإنما جاءت لمصالحها. وحين تقول بأنها تعادي (صداماً) وحده ولا تحمل العداء لشعب العراق فهي كاذبة. وحين تقول بأنها جاءت للمحافظة على الشرعية الدولية وحماية الضعيف من القوي فهي كاذبة. أميركا مثل سائر الدول الغربية تنهج النهج (الميكافيلي)، أي هي تتظاهر بالمظهر الإنساني والأخلاقي والعادل، ولكنها في الحقيقة لا تراعي إلا مصالحها، وفي سبيل مصالحها تدوس الإنسانية وتنحر الأخلاق وتهزأ بالعدالة. وقد رأينا كيف أنهم يكيلون للعرب بمكيال ولليهود بمكيال آخر.

(بريزنسكي) مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر كتب في 22/04/91 في جريدة (اليرالد تريبيون) مبدياً خشيته أن يحلق أميركا العار الخلقي جراء تصرفاتها في حرب الخليج، قال: «إن هناك خطراً متزايداً – لكن يمكن تفاديه – بأن يُنظر إلى الحرب بأنها عجلت من وقوع كارثة جغرافية سياسية وعار أخلاقي» وعن التحريض على الثورة في العراق يقول (بريزنسكي): «آثار الحرب تزيد من حدة الأحقاد والعداوات العرقية والدينية والقبلية في المنطقة والتي بالكاد جرى كبتها. فالحرب ضد العراق قد تنتج سلسلة من ردود الفعل المستمرة واحتمال لبننة المنطقة بأكملها». ويضيف عن الأخلاق: «إن كثافة الهجوم الجوي على العراق أثار القلق حول نظرة الأميركيين إلى حياة العرب. وقد يشكل دليلاً على أن الأميركيين يعتبرون حياة هؤلاء تافهة وعديمة القيمة، مما يزيد من حدة قضايا أخلاقية حساسة».

وقد وصم تقرير بعثة التحقيق الخاصة الذي أحاله الرئيس الفنلندي إلى الأمم المتحدة، وصم الحرب الجوية ضد العراق بأنها (كانت موجهة إلى الأهداف المدنية، فإن نحو 90 بالمائة من القوة العاملة الصناعية عطلت، «وأن المختبر الوحيد في البلاد لإنتاج اللقاحات البيطرية» جرى تدميره بالقصف، وكذلك مستلزمات البذور التابعة له مع كل مخزونات بذور الزراعة. وأدى التدمير المتعمد لمحطة توليد الكهرباء إلى وقف كل شبكات التوليد الكهربائي وسبب انقطاع المياه وجرى تدمير كل وسائل الاتصالات الحديثة…).

هذا التقرير يفضح كذب أميركا، وأنها كانت تعمل على تدمير العراق بما فيه من وسائل العيش المدنية وليس العسكرية فقط. وتحاول الآن أميركا أن تظهر بوجه إنساني من إرسال الغذاء وإقامة المخيمات للاجئين الأكراد. أنها تقتل القتيل وتسير في جنازته!

وهناك مفاوضات الآن بين الحكومة العراقية وزعماء الأكراد على إقامة حكم ذاتي للأكراد في شمال العراق. هذه المفاوضات تجري بمباركة أميركية وتوجيه أميركي.

حكومة العراق تسير الآن مرغمة على خط السياسة الأميركية، وزعماء الأكراد يسيرون الآن على خط السياسة الأميركية. ولا يهمنا أن نحلل ونبحث عن هدف أميركا من رعاية هذه المفاوضات الآن، لأننا رأينا هدفها في العراق من خلال تدمير بنيته كلها، ورأينا هدفها من خلال التحريض على الثورة ثم سحق هذه الثورة. رأينا أنها هي التي كانت وراء هذا التشتيت للأكراد والشيعة بعد إطلاق يد ما بقي من قوة عراقية لتدمير بيوتهم وسحقهم، وذلك من أجل زرع العداوات كما سبق وذكرنا.

فلا يمكن أن تكون أميركا صادقة الآن مع الأكراد في إيجاد حكم ذاتي آمن لهم، فهل يفهم الأكراد ذلك؟ لقد لُدِغوا من جحر أميركا وجحر الغرب مرّات وليس مرتين فقط. ففي سنة 1928 عند نهاية الحرب العالمية الأولى قدّم رئيس أميركا آنذاك، ويلسون «مبادرة النقاط الأربع عشرة» وكانت بمثابة دعوة لإيجاد نظام دولي جديد يقوم على أنقاض الدولة العثمانية. وشدد الرئيس ويلسون في إحدى النقاط على اقتناص فرص الحكم الذاتي، وبناء أوطان مستقلة للقوميات غير التركية. وكان هدفه تمزيق الأمة الإسلامية على أساس عرقي. وحرّضوا الأكراد في حينها، من أن الظرف العالمي والإقليمي مؤات لإنشاء وطن قومي لهم. وجاءت النتيجة يومها مناقضة لما وُعِدوا وما توقعوا، بحيث تخلى عنهم الأصدقاء المحرّضون وانتقمت منهم الحكومة التركية بشكل قاس. وها هو التاريخ يعيد نفسه مع الأكراد وأميركا وينتقم منهم صدام الآن بدل أتاتورك.

ونود أن نقول للأكراد: أنتم مسلمون، والإسلام ألغى الروابط العرقية والعنصرية والقبلية والقومية وجعل المسلمين أمة واحدة. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) صلاح الدين الأيوبي لم يكن يفكر على أساس عرقي، فلم يكن يدور في خلده أنه هو من أصل كردي وأن فلاناً من اصل عربي وأن هناك تمييزاً بينهما. الكافر المستعمر هو الذي نفخ فينا روح العصبية ليمزقنا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يوصينا: «دعوها فإنها منتنة».

وجاء بوش الآن بأخبث مما جاء به سلفه ويلسون، جاء لينفخ المذهبية إلى جانب العرقية، فحرض سكان الجنوب العراق من زاوية أنهم شيعة وأن ولاءهم لإيران.

النظام العراقي ليس نظاماً سُنياً يحارب الشيعة، أنه نظام علماني كافر يحارب الشيعة ويحارب السنة. وعلى المسلمين جميعاً: سنة وشيعة، عرباً وأكراداً وغيرهم، عليهم جميعاً أن يتذكروا قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وأن يتعاونوا لهدم هذا النظام وإقامة نظام الخلافة الإسلامية الراشدة¨

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *