العدد 32 -

العدد 32 – السنة الثالثة – جمادى الأولى 1410 هـ الموافق كانون الأول 1989م

انهيار الشيوعيّة

 غورباتشوف يتخلى عن الشيوعية باسم الإصلاح وإعادة البناء.

ودول الكتلة الاشتراكية تطيح بحكم الأحزاب الشيوعية متوجهة نحو الديمقراطية الغربية، وتضرب بالاقتصاد الاشتراكي عُرْضَ الحائط مُيممّة شطر الاقتصاد الغربي الحر.

في الستينات بنوْا جدار برلين واليوم هدموه، ووضعوا مبدأ بريجينيف للسيادة المحدودة واليوم نقضوه، وعادَوُا النظام الرأسمالي واليوم صادقوه. أصحاب الشيوعية تراجعوا عنها بعدما جربوها. فماذا يفعل الشيوعيون في بلادنا؟ هل يتعظون بغيرهم، أو يسيرون حتى تصطدم رؤوسهم وتسيل دماؤهم؟

حين وضع كارل ماركس أسس الماركسية (أي المبدأ الشيوعي) كان يتوقع لها أن تنتصر وتسود العالم، أو قل هو كان يحتّم وليس فقط يتوقع، لأنه صاحب فكرة الحتمية التاريخية التي بناها على (المادية التاريخية).

وحين نجحت ثورة أكتوبر الشيوعية سنة 1917 بقيادة لينين في روسيا كان يتوقع أن هذه الثورة ستمتد لتشمل العالم كله بدءاً بالدول الأكثر إغراقاً في الرأسمالية. فهو كان يتوقع أن إنجلترا وألمانيا وأميركا ستكون من أوائل البلاد التي ستتحول إلى الاشتراكية، لأن نظرية ماركس تقول بأن الاستعمار (الإمبريالية) هو أعلى مراحل الرأسمالية حيث تتحول بعده إلى الاشتراكية بصورة حتمية.

ولكن الواقع كذّب ماركس وكذّب لينين في غالبية الأسس التي قام عليها الفكر الشيوعي، والبقية على الطريق.

وها إن النصف الثاني من سنة 1989 يشهد انهيارات متلاحقة وبشكل سريع في بُنْية منظومة الدول الاشتراكية. بدأ الانهيار في بولندا حيث نُحِّيِ الحزب الشيوعي عن رئاسة الحكومة واستلمت نقابة التضامن الحكم بعدما أيدها الشعب في الانتخابات. ثم تبع ذلك في ألمانيا الشرقية حيث نُحّيِ رئيس الدولة (هونيكر) وجاء (كرنتش) الذي سقط هو بدوره أيضاً وسقط جدار برلين. ثم وصل الدور إلى المجر حيث تراجع الحزب عن أفكاره. ووصل إلى رومانيا ولكن رئيسها (تشاوشيسكو) لم يسقط بعد. ووصل إلى تشيكوسلوفاكيا وجعلها تتراجع أمام تظاهرات الطلاب والمثقفين.

ماذا يجري في المعسكر الاشتراكي؟

إن رائد هذه التغييرات هو (غورباتشوف) رئيس الاتحاد السوفياتي. وهو صاحب كتاب (البيريسترويكا) أي الإصلاح. فما هي حقيقة غورباتشوف؟ هل هو عدوّ للاشتراكية يحاول أن يدمرها بعد أن وصل إلى مركز السلطة، هل هو مدسوس على الماركسية؟

كلا ليس مدسوساً عليها ولا عدواً لها، بل هو مفكر مجتهد وليس مقلداً، وهو صاحب مذهب خاص في فهم الاشتراكية وهو يري أن الذين سبقوه قد أساءوا وانحرفوا فجاء هو بفكرة الإصلاح والانفتاح وإعادة البناء وبما أن أسس الفكرة الشيوعية لا تصلح للاجتهاد، وليس فيها القدرة على تقديم الحلول اللازمة لمواجهة المشاكل فإن كل مجتهد سيضطر إلى تحريفها والخروج منها.

بدأ غورباتشوف عهده (1985) بالانفتاح على الغرب، وإيقاف كل مظاهر الحرب الباردة. ثم بدأ يرتب لسحب قواته من أفغانستان، وأخذ يركز السلطات في يديه ويبعد عن السلطة الذين لا يتفقون معه في الرأي. ثم كشف خطته الإصلاحية التي نرى نتائجها الآن.

لقد رأينا أنه حرك القوميات: فهؤلاء الأرمن، وهؤلاء الأتراك وهؤلاء جمهوريات البلطيق (استونيا وليتوانيا وولاتيفيا) وغيرها قد تحركوا لإعادة جمع شمل الذين كانوا قد هُجِّروا أو ضم المقاطعات التي فصلت.

ورأينا أنه يريد إعطاء حريات في ممارسة السلطة. فهو يقول في كتابه: (بريسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم): «مزيداً من الاشتراكية، مزيداً من الديمقراطية» ويقول فيما يسميه (الغلاسنوست) أي (كشف المخبأ) بأن الإعلام حرّ في النقد وفي استطاعة أيٍ كان أن يقول لأي مسؤول وأمام الناس أنه مخطئ.

ورأينا أنه يريد إعطاء حريات في التملك والشؤون الاقتصادية أكثر، فهو يقول: «إن مهمة البريستوريكا الأولى وشرطها الضروري ومكمن نجاحها تقوم في إيقاظ الإنسان ودفعه ليكون ناشطاً وذا مصلحة حقيقية، للوصول إلى أن يشعر كل فرد أنه مالك البلاد، وأن مكان عمله ومصنعه ومعمله هي جميعاً مؤسسات يملكها هو» ويقول: «إنسانية أكثر في العلاقات الاجتماعية والإنتاجية والشخصية بين الناس، وعزة الفرد واحترام كينونته».

ورأينا أنه يريد إعطاء حريات في ممارسة شعائر الدين. وقد برز في إجراء الاحتفالات في كنائس روسيا بحضور مبعوث البابا، وبتسهيل لقاء رفسنجاني بالمسلمين أثناء زيارته لروسيا. وبرز أكثر في لقائه مع البابا في الفاتيكان في 01/12/89، حيث قال في كلمة مكتوبة: «إن شعوباً من كل الطوائف تعيش في الاتحاد السوفياتي من مسيحيين ومسلمين ويهود وبوذيين وغيرهم. ولجميع هؤلاء الحق في إشباع رغباتهم الروحية. وسيصدر قريباً جداً قانون في شأن حرية المعتقد في بلادنا».

النتيجة هي أن غورباتشوف يحاول إعطاء الاشتراكية مضموناً فيه بُعْدٌ عن مضمونها كما فهمه أسلافه، وفيه تقرّبٌ من الديمقراطية الغربية والاقتصاد الغربي الحر، وفيه حرية التدين.

إن المدقق يجد أن غورباتشوف يتقرب من الغرب ليس حُباً بالغرب وليس افتتاناً بالنظم الغربية، وإنما هو مضطر إلى ذلك، وإن لم يفعل فإن المجتمعات في الدول الاشتراكية ستنفجر من الداخل.

لقد حصلت ثورة المجر سنة 1956 وسحقتها روسيا بكل شدة. وحصل تحرك في تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 وهو ما يسمى (ربيع براغ) بزعامة دوبتشيك وقد نقلت روسيا الدبابات بالطائرات الهيليوكوبتر وأنزلتها في براغ. وكان أهل براغ يسألون الجنود الروس: لماذا جئتم؟ فيجيبون: لحماية الاشتراكية. وقد وضع حينئذ بريجينيف مبدأه الذي يجعل حق السيادة لدول المجموعة الاشتراكية محدوداً، بحيث أنها لو أرادت تعديل نظامها فلا يحق لها، وإذا تمردت فإنه يحق لروسيا تأديبها بالقوة.

لقد لمس غورباتشوف أن جميع دول المنظومة الاشتراكية في حالة غليان بما فيها جمهوريات الاتحاد السوفياتي نفسه. وهو يعرف أن دول الغرب تحاول إثارة الثورات كما حصل في براغ عام 1968 أو في بودابست عام 1956. ووجد أن روسيا لا تستطيع أن تطبق الآن مبدأ السيادة المحدودة الذي وضعه بريجينيف. فرأى أن الحل المناسب هو تنفيس الاحتقان، ورفع الضغط المفروض على شعوب البلاد الاشتراكية. فوضع خطة البريسترويكا. وبدأت عمليات التنفيس التي نراها الآن.

إن غورباتشوف يأمل أن يطول عمر الاشتراكية (ولو محرفة) بعد هذه التنفيسات والترقيعات، التي لولاها لكانت حصلت انفجارات أودت بالاشتراكية والاشتراكيين.

ولهذا السبب فإن جمهرة المفكرين في روسيا وسائر الدول الاشتراكية يريدون ما رآه غورباتشوف من إدخال التحريفات باسم الإصلاحات.

ونعود لنسأل: هل ما يحصل هو انحراف عن الشيوعية أو انهيارها، أو هو إصلاحات ضمن نطاقها؟

وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن ننظر في الأمور الجديدة التي أُدخلت، فإن كانت تقوم على الأسس نفسها للفكرة الأصلية كان الأمر مجرد اجتهاد، وكانت الأمور الجديدة عبارة عن فروع لتلك الأصول، وهذا لا يعد انحرافاً ولا خروجاً.

أما إن كانت الأمور الجديدة تتعارض مع الأسس الأصلية، أو كانت لا تنبثق من تلك الأسس كان الأمر عند ئذ انحرافاً وخروجاً.

الفكرة الماركسية (المبدأ الشيوعي) لا توجد فيها القدرة على حل جميع المشاكل الإنسانية التي تجد مع اختلاف الزمان والمكان. لأنها من وضع بشر عاجز ناقص محدود. ولذلك سيجد أتباعها أنفسهم مضطرين إلى تأويلها وتحريفها والخروج عنها، وإلا فإنهم سيجمدون في مكانهم أو سيصطدمون بالواقع الذي يجرفهم أو يجرف أفكارهم.

والذي يحصل للشيوعية الآن هو اصطدامها بالواقع مما جعل أصحابها يتخلون عنها إما بشكل صريح وإما بالتأويل والتحريف وكلا الأمرين هو انهيار للشيوعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *