العدد 54 -

السنة الخامسة – العدد 54 – ربيع الأول 1412هـ الموافق تشرين الأول 1991م

الدعوة إلى الإسلام (6)

بعد المقدمات السابقة نعود إلى موضوع البحث وهو تحديد الأعمال المطلوبة شرعاً، والمراحل التي يجب السير بحسبها لإقامة دار الإسلام.

ولنقسم البحث قسمين:

قسم نتناول فيه منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التغيير.

وقسم نتناول فيه منهج الجماعة أو الحزب في العمل للتغيير وذلك بعد التأسي بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم.

والدور الثاني هو دور التفاعل والكفاح بإفهام الناس الإسلام فيتجاوبون معه ويقبلون عليه فيختلط بنفوسهم أو يردونه ويحملون عليه. فيصطدمون بأفكاره. ويحصل من هذا الاصطدام أن يهزم الكفر والفساد ويستقر الإيمان والصلاح وينتصر الفكر الصحيح. وهكذا بدأ التفاعل، وبدأ فيه الكفاح بين فكر وفكر، وبين مسلمين وكافرين، بدأ حين صار الرسول صلى الله عليه وسلم ينشر الدعوة على الناس كافة جهاراً نهاراً سافراً متحدياً. وصارت الآيات تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التوحيد والحملة على أفكار الوثنية والشرك والنعي على تقليد الآباء والأجداد من غير نظر، وصارت تنزل في الحملة على المعاملات الفاسدة فتهاجم التجارة الفاسدة والغش في الكيل والميزان. وصار الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث إلى الناس جماعات ويطلب إليهم أن يسلموا وأن يؤازروه فيرفضوا شر رفض، وتزداد الخصومة بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم، وصارت تجمع الدعوة إلى التثقيف المركز بالحلقات في البيوت وفي الشعاب، وفي دار الأرقم تثقيفاً جماعياً، وتنتقل من دعوة من يؤنس فيه الخير إلى دعوة الناس جميعاً. فيكون لهذه الدعوة الجماعية والتثقيف الجماعي أثر على قريش إذ ازداد حقدها وأحست بالخطر يقترب منها وبدأت تتخذ الخطوات الجدية للمقاومة بعد أن كانت لا تأبه لمحمد ولا لدعوته. فيزداد الأذى والاضطهاد. ولكن كان لهذه الدعوة الجماعية أثر في الدعوة نفسها. فقد أسمعت الناس جميعاً كلمة الإسلام وانتشرت الدعوة إلى دين الله بين أهل مكة ودخل الناس في الإسلام رجالاً ونساءً. وكان للدعوة الجماعية أثر نقلها إلى أفق أوسع، وإن كان نقل حملتها إلى المشقة والعذاب وتحمل صنوف الأذى. وكان يزيد النار اشتعالاً في نفوس زعماء قريش مهاجمعة الرسول صلى الله عليه وسلم للظلم والقسوة والاستعباد الذي كان يسود مكة وكشفه لأحوال الكفار وأعمالهم. وكانت مرحلة من أشق المراحل على الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.

ولئن كان الانتقال من دور الثقافة إلى دور التفاعل هو من أدق الأدوار لأنه يحتاج إلى حكمة وصبر ودقة في التصرف. فإن دور التفاعل هو من أشق الأدوار لأنه يحتاج إلى جرأة وصراحة وتحدٍ دون أن يحسب للنتائج والأوضاع أي حساب، وتحصل فيه فتنة المسلمين عن دينهم. ويظهر فيه الإيمان وقوة الاحتمال ويظهر ما في النفس من صدق اللقاء.

هكذا سار الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته يتحملون الأذى والظلم والارهاق. فكان منهم من هاجر إلى الحبشة فراراً بدينه، ومنهم من مات تحت التعذيب، ومنهم من احتمل. واستمروا على ذلك مدة كافية لتحويل مجتمع مكة، ولكن شدة الأذى هي التي حالت دون ذلك. وصار العرب وكثير من الناس يقفون موقف المتفرج ولم يتقدموا خطوة نحو الإيمان لأنهم كانوا يسعون لعدم اغضاب قريش. وصار العمل للانتقال إلى الدور الثالث وهو دور تطبيق الإسلام خارج مكة حيث راح الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب النصرة والمنعة من القبائل حتى يستطيع أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم.

ذلك أن أبا طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة (رضي الله عنها) هلكا في عام واحد. فعظمت المصيبة على الرسول صلى الله عليه وسلم بهلاكهما. ووصلت قريش من أذاه إلى ما لم يكونوا يصلون إليه قبل وفاة عمه. حتى نثر بعضهم على رأسه التراب. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب». فلما هلك أبو طالب خرج الرسول إلى الطائف يلتمس النصرة والمنعة له من قومه. عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف واشرافهم وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه. فرفضوا عرضه وأوصلوا خبره إلى قومه مع أنه صلى الله عليه وسلم طلب منهم الكتمان. ولم يستطع دخول مكة إلا بجوار.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل ويقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعُوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبيّن عن الله ما بعثني به». وكان عمه يقف وراءه ويرد عليه ما يقول ويكذبه. ولم يقبل منه أحد وكانوا يقولون: قومك أعلم بك حيث لم يتبعوك. ويكلمونه ويجادلونه ويكلمهم ويدعوهم إلى الله ويقول: «اللهم لو شئتَ لم يكونوا هكذا».

وحدّث الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كنده في منازلهم وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه وأنه أتى كلباً في منازلهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وأنه أتى بني حنيفة في منازلهم وطلب منهم النصرة والمنعة فلم يكن أحد من العرب أقبح رداً عليه منهم.

وأنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهر الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء». فقال بيحرة: أفتهدف نحورنا للعرب دونك. فإذا أظهركالله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك.

بقي الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام. ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده.

وكان من سُمىَّ من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم فلم يستجب منهم أحد. 1- بنو عامر بن صعصعة. 2- محارب بن خصفة. 3- فزارة. 4- غسان. 5- مرة. 6- وحنيفة. 7- سُلَيم. 8- عبس. 9- بنو نضر. 10- بنو البكار. 11- كندة. 12- كلب. 13- الحارث بن كعب. 14- عذرة. 15- الحضارمة. وذلك حسب طبقات ابن سعد.

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أقام بدعو القبائل إلى الله ويعرض نفسه عليهم كل سنة بمجنة وعكاظ ومنى أن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة. فليست قبيلة من العرب تستجيب له ويؤذى ويُشتَم حتى أراد الله إظهار دينه ونصر نبيه وإنجاز ما وعده. فساقه إلى هذا الحي من الأنصار فانتهى إلى نفر منهم وهم يحلقون رؤوسهم. فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فاستجابوا لله ورسوله فأسرعوا وآمنوا وصدقوا وآوَوْا ونصروا.

ثم قدِموا المدينة ودعوْا قومهم إلى الإسلام. فأسلم من أسلم.

ولما جاء الموسم من العام المقبل لقية اثنا عشر رجلاً من المدينة فأسلموا وبايعوه على بيعة النساء. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بناء على طلبهم. وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين. وكان سُمِّيَ (المقرئ) وكان منزله على اسعد بن زرارة. ثم حدث أن آمن أسيد بن حضير وسعد بن معاذ.. وهما سيدا قومهما. ولما أسلم هذا الأخير قال لقومه: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال لهم: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل وامرأة إلا مسلماً ومسلمة.

ثم أن مصعباً رجع إلى مكة. وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق. وجاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم واجتمع معهم وكانوا ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين. وكان معه العباس عمه فقط. قال أسعد بن زرارة وكان العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من تكلم فقال: «يا معشر الخزرج أنكم قد دعوتهم محمداً إلى ما دعوتموه إليه. ومحمد من أعز الناس في عشيرته يمنعه والله منا من كان على قوله ومن لم يكن منا على قوله يمنعه للحسب والشرف. وقد أبى محمد الناس كلهم غيركم فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعدواة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فارتأوا رأيكم وأتمروا بينكم ولا تفترقوا لا عن ملأ منكم واجتماع. فإن أحسن الحديث أصدقه».

قالوا: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم: فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغَّب في الإسلام وشرط لربه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا. فبايِعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحَلْقة ورثناها كابراً عن كابرا.

فاعترض أبو الهيثم بن التيهان والبراء يتكلم فقال: يا رسول الله أن بيننا وبين الرجال حبالاً ـ يعني اليهود ـ وإنا قاطعوها، فهل عسيت أن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».

فقالوا نبايعه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. ثم قال البراء: أبسط يدك يا رسول الله ثم ضرب السبعون كلهم على يده وبايعوه. فلما بايع القوم وكملوا صاح الشيطان على العقبة بأبعد صوت سمع: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصبأة معه قد أجمعوا على حربكم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيباً ليكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ـ وأنا كفيل على قومي». فأخرجوا منهم ذلك. وهكذا تمت البيعة في هذا الجو الإيماني الخالص. حتى أن العباس بن عبادة قال للرسول صلى الله عليه وسلم والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم».

وانتهى الموسم وغادر القوم مكة التي جُنَّ جنونها عندما بلغها خبر البيعة. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته عن عروة عن عائشة قالا: «لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة. وجعل البلاء يشتد على المسلمين. فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه بالهجرة ثم أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد أخبر بدار هجرتهم وأنها يثرب. ومن أراد الخروج فليخرج إليها».

إن محاولات طلب النصرة من القبائل وبيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية تدل جيمعها على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد كياناً عنده قوة ومنعة لنصرة هذا الدين. ولم يعد الأمر يقتصر على الدعوة فحسب واحتمال الأذى بل يتجاوزه إلى أن تكون هناك قوة يدفع بها المسلمون عن أنفسهم، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك أيضاً إلى إيجاد النواة التي تكون حجر الزاوية والدعامة الأولى في إقامة دولة الإسلام تطبقه في المجتمع وتحمله رسالة عالمية للناس وتحمل معه القوة التي تحميه وتزيل من أمامه كل حاجز مادي يقف في سبيل نشره. وحدثت الهجرة وكان فيها ترك للمال وللوطن والزوج والأهل. وكانت الهجرة إلى المدينة تختلف كلياً عن الهجرة إلى الحبشة.

فالهجرة إلى الحبشة كانت هجرة أفراد وفراراً بدينهم وخوفاً عليهم من الفتنة. وقد جعلها الله للمسلمين المضطهدين في مكة فرجة فتحها عليهم لكي يغيروا أجواءهم فلا يبقون تحت المطارق. بل ترتاح فيها النفوس لتأخذ الاستعداد من جديد على حمل الدعوة نشيطة قوية. ولم تشكل خطوة من خطوات الطريق حيث يقوم المهاجرون بالعمل من الخارج وبالتعاون مع الأنظمة التي هاجروا إلى بلادها لقلب الحكم في المكان الأصل في حمل الدعوة.

بينما شكلت الهجرة إلى المدينة انتقالاً للدعوة من طور الكلام والصبر إلى طور التنفيذ بعد انشاء الكيان أي الدولة الإسلامية. وهي حركة انتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حيث سيحمل الإسلام بصورة مختلفة تماماً وذلك عن طريق دولة تحكم به وتطبقه وتدعو له بالحجة والبرهان، وتحمل القوة التي تحمي هذه الدعوة من قوى الشر والطغيان.

ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبله عدد كبير من أهلها. فأقام أول ما قام مسجداً. وكان المسجد مكاناً للصلاة وللتشاور ولإدارة شؤون المسلمين والقضاء بينهم، وأخذ يهيء أجواء الميدنة للقتال. فيشكل السرايا ويعين قوادها ويرسلها خارج المدينة. وعقد معاهدات مع اليهود. وعلى الإجمال صار الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في المدينة تصرف الحاكم رئيس الدولة.

وهذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أقيمت دار الإسلام فما هو المتعلق بذمتنا من فعله صلى الله عليه وسلم.

ونحن تأسيا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نسير سيرته. وإذا كان العمل لإقامة دولة الإسلام فرضاً فإن سلوك الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم تأخذ نفس الحكم. ويقول تعالى: ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ.[.

وعليه فإن علينا أن نقسم عملنا إلى دورين أو مرحلتين كما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

– مرحلة التثقيف والتأسيس.

– مرحلة التفاعل والكفاح.

ففي المرحلة الأولى علينا أن نقوم بما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال. وذلك بإيجاد الثقافة الإسلامية المركزة عند من يقبل تحمل أعباء الدعوة، وبناء الشخصية الإسلامية النيّرة والنفسية الإسلامية الخيّرة. ويكون ذلك عن طريق الحلقات المركزة. كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعي كل من يؤنس فيه الخير لقبول هذه الدعوة بغض النظر عن السن والمكانة وبغض النظر عن الجنس والأصل، ويتكتلون على ذلك. ونبقى على ذلك حتى يتحقق في هذه الكتلة الناشئة:

– النضج في الثقافة، بأن تتكون عقليتهم ونفسيتهم بحسب الإسلام. فيصبحون قادرين على مجابهة فساد الواقع.

– أن لا تطيق أن تبقى الدعوة حبيسة في نفوسهم. فيصيرون يتطلعون إلى نشر ما عندهم ويبدأون ذلك مع من يأنسون فيه الخير ثم يتوسعون.

– أن يحس الناس على دعوتهم وعلى وجودهم وعلى اجتماعهم.

حتى إذا وجدت فينا هذه الأمور الثلاثة التي وجدت في الصحب الول للرسول صلى الله عليه وسلم أمكننا أن ننتقل إلى الدور الثاني أو المرحلة الثانية.

وفي هذه المرحلة يجب علينا أن نجهر بالدعوة كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأن نبادئ المجتمعات القائمة ونتصدى لأفكارها وعاداتها وأنظمتها وبيان خطئها وفسادها وتبيان أفكار الإسلام ومفاهيمة وأنظمته الحقة بالمقابل. ويجب علينا أن ندعو كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بكل صراحة وجرأة وقوة، فلا نلين ولا نستكين ولا نحابي ولا نراهن ودون أن نحسب أي حساب لعادات أو تقاليد أو أديان أو مبادئ أو حكام أو سوقة، ويجب أن نحمل الدعوة بحيث تكون السيادة المطلقة للمبدأ الإسلامي، بغض النظر عما إذا وافق الناس أم خالفهم، وتمشّى مع عاداتهم أم ناقضها، قَبِل به الناس أم رفضوه وقاوموه. بل يُتمسك بالمبدأ ويُصير عليه حتى يُغيَّر الآخرون بناء عليه. ولما كان الزعماء سيقفون حائلاً في وجه هذه الدعوة كما وقفوا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فإن ذلك سيقتضي كفاحاً سياسياً ضدهم، وذلك بكشفهم وكشف ألاعبيهم وكشف ولائهم، وكشف تآمرهم ومهاجمتهم تماماً كما هاجم الرسول صلى الله عليه وسلم. فها هو القرآن يهاجم ]تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ @ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ @ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ…[ بالرغم من تشرفه ومكانته في بني هاشم. كذلك تعرض القرآن بالتهديد لسيد بني مخزوم الوليد بن المغيرة بقوله تعالى: ]ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا @ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا[ إلى أن يقول: ]سَأُصْلِيهِ سَقَرَ[ وبقوله فيه في سورة نون والقلم وما يسطرون ]عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ[ وبقوله في أبي جهل ]كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَن بِالنَّاصِيَةِ @ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ[.

وحَمْلُنا للدعوة يجب أن يظهر عليها ما ظهر على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من حرص على هداية الآخرين حيث كان دأب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة أن يفهم الناس مبدأ الإسلام ليكون مبدأهم ولتصبح غايته غايتهم، أي أن نريد من الناس أن يتبنوا عن قناعة ما نحمله لهم.

وكما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم الرد والصد والتكذيب والتشريد والإشاعة والمقاطعة فكذلك يحدث معنا اليوم.

وكما نشأ عند الصحابة شعور بالحاجة إلى استعمال السلاح وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، ومنعهم من ذلك بقوله: «لم يؤذن لنا، وأمرت بالعفو» كذلك يجب أن نتمنّع عن حمل السلاح واستعماله من أجل الوصول إلى الحكم قبل طلب النصرة.

وكما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم النصرة لينتقل إلى الدور الثالث وهو دور التمكين والحكم عن طريقها فكذلك علينا أن نطلب النصرة لنصل إلى إقامة الحكم عن طريقها كما تبيَّنا ذلك من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولنقف قليلاً أمام حكم مهم من أحكام الطريقة وهو «طلب النصرة». ولنراجعه بتمهل ونستخلص منه ما يلزمنا خاصة وأن هناك من يعمل لإقامة الدولة الإسلامية ولا ينظر إلى النصرة أدنى نظر. وكأنها أمر فرعي ليس له وزن أو كأن سندها ضعيف ولا يجوز الأخذ بها. ولم يقفوا عند هذا الحد بل راحوا يهاجمون هاذ الحكم ويهاجمون من يفعله. فكتب السيرة كلها تعرضت لهذا الحكم مع اختلاف ضئيل لا يذكر في التفاصيل. فكتَّاب السيرة لم يكونوا منتمين إلى أحد ومع ذلك فقد قالوا بها. والقرآن نفسه قد ذكر الذين ]آوَوا وَنَصَرُوا[ وسماهم ]الأَنصَارِ[ وهو وصف فيه مدح، ووصف لأبرز ما اتصفوا به.

والناظر في السيرة يرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب النصرة من الزعماء الذين يملوكون القوة. وأنه بالرغم من الرد القبيح الذي تتالى عليه من قبيلة إلى قبيلة فإنه بقي مصراً على الطلب وكرره ولم يهدأ بطلبه. وقد ذكر ابن سعد في طبقاته خمس عشرة قبيلة وبطناً. فهذا الإصرار إن دل على شيء فإنه ليدل بشكل واضح بأن طلب النصرة كان أمراً من الله له بفعله.

وتسمية القرآن لمن استجاب له في هذا الأمر بأنهم الأنصار دليل آخر على ذلك. فقد أثنى عليهم القرآن في أكثر من موضع وتاب عليهم الله. وتقع مرتبتهم بعد المهاجرين مباشرة.

والألفاظ التي تضمنها طلب النصرة. تدل على أن هذا الطلب هو حكم شرعي. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً… وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبيّن عن الله ما بعثني به» فهناك أمر من الله ورسوله. والأمر هو حكم شرعي. تتخذ له الأساليب المناسة لتنفيذه. وليس هو بحد ذاته مجرد أسلوب.

ثم أن المناقشات التي دارت بين الرسول وبين من كان يطلب منهم النصرة وبينه وبين من كان يبايعة في العقبة الثانية لتدل بشكل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرمي بهذا العمل الذي كان يصر عليه إقامة هذا الدين، وإقامة الكيان الذي يحميه ويطبقه وينشره. فكيف نهمله وهو الحكم الذي كان عن طريقة تغيير وجه الدعوة والانتقال بها إلى دار تطبقها وتنشرها. ولحساب من يكون هذا الإهمال؟!

– فقد فهم الكفار أن وراء هذا العمل مبايعة واظهاراً للدين. فها هو وفد بني عامر بن صعصعة يفهم أن الأمير يتعلق بالحكم. وها هم كفار مكة يجن جنونهم لما علموا بأمر العقبة الثانية. وقولهم: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا. وها هو الشيطان يصيح بأبعد صوت بعدما تمت بيعة العقبة الثانية بقوله: يا أهل الأخاشب هل لكم في محمد والصباة معه قد أجمعوا على حربكم.

وأثناء بيعة العقبة الثانية قال البراء: فيايعْنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة. وقال أبو الهيتم بن التيهان: إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنّا قاطعوها فهل عسيت أن أظهرك الله أن تتركنا وتعود إلى قومك.

وقال أسعد بن زرارة: إن إخراجه اليوم مفارقة للعرب كافة وقتل خياركم وان تعضكم السيوف.

وكلام العباس بن عبادة: إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا.

وقال الرسول رداً على أبي الهيثم: «بل الدم الدم والهدم والهدم أحارب من حاربتهم وأسالم من سالمتم».

وها هي عائشة تقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نفسه قد طابت وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة ونجدة.

وها هو ابن هشام يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع طلب النصرة. «ولما أراد الله اعزاز نبيه ونصر دينه ساقه لهذا الحي من الأنصار».

فهذه الألفاظ تعطي دلالة واضحة على أهمية هذا الحكم، وتمنع أن يصرف معناها إلى أن من يُدعى إلى الإسلام فيستجيب يكون قد نصر هذا الدين. فألفاظ البيعة واظهار الدين، والنصر، والحرب وأن يقتل الأشراف وأن تعضهم السيوف، وأن فيها مفارقة للعرب كافة وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وأزرهم، كل هذه ألفاظ تجعل فهم طلب النصرة على الوجه الذي طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم هو طلب الحماية ولو باستعمال القوة لتبليغ الدين، وطلب إقامة الدولة التي تحمي الدين ودعاته وتطبق أحكامه وتنشر إلى العالم رسالته.

ويلاحظ في هذا المجال أن الرسول صلى الله عليه وسلم:

– قد طلب المنعة والحوار لحماية أشخاص ولحماية الدعوة. وهذه تطلب ولو من مشركين كما حدث مع عمه حيث حماه ومنعه ومنع أي أحد من التعرض له. وكما حدث مع المطعم بن عدي عندما أجاره بعد رجوعه من الطائف. وهذه لا يصح أن تتخذ للضغط على المسلم الذي يُجار أو أن يساوم على دينه. فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال لعمه حين طلب منه أن يخفف من زخم دعوته: «والله يا عمّاه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

– أن الرسول كان يتصل بالسادة ويطمع بإيمانهم طمعاً في إيمان من وراءهم وهذا من شأنه أن يجعل الدعوة أسهل انتشاراً وأكثر تقبلاً. وتساهم جيداً في صنع القاعدة الشعبية.

– أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب النصرة والمنعة عن طريق أهل القوة وشرط لها الإسلام كما حدث في بيعة العقبة الثانية.

وطلب النصرة هذا من أهل القوة كان واقعه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أنها كانت تطلب من الزعماء الذين كانوا يجمعون إلى جانب الزعامة القوة الشعبية. فالزعيم كان حينها هو نفسه الحاكم وهو نفسه القائد العسكري، وهو نفسه الذي يعود الناس إلى رأيه.

أما اليوم فإن الحاكم يملك القوة بالإكراه، ويفقد الشعبية. وما يرى له من شعبية فإنها في الغالب ليست حقيقية. ونحن علينا أن نفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أننا يجب أن نتصل بمن لهم ثقل ووزن في المجتمع لفتح الباب أمام من وراءهم وتأمين القاعدة الشعبية ويجب أن نطلب النصرة من أهل القوة مثل ضباط الجيش للوصول إلى الحكم. وعند اشتداد الأذى على أفراد الجماعة فلا بأس من أن يجاروا من معارفهم أو أقاربهم شرط أن لا يشكل ذلك ضغطاً ومساومة على إيمان الفرد المجار. وبهذا نكون قد قمنا بما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم آخذين بعين الاعتبار الواقع الذي نعيشه.

هذه هي الطريق التي سار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه هي الطريق التي يجب أن نسير عليها متأسين بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فنوجد بذلك:

1- الشباب المعدّين إعداداً من شأنه أن يقيم الإسلام على أيديهم، كما أعد الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين الذين قام على أكتافهم حمل الدعوة في مكة وإقامة الدولة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقيادة الأمة من بعده.

2- الرأي العام للفكرة المنبثق عن الوعي العام، أي إيجاد القاعدة الشعبية التي لا ترضى إلا بالاسلام كنظام حكم وتحتضنه حين يقام، كما حدث مع أهل المدينة حيث صاروا يريدون الإسلام ومستعدين لحمايته.

3- أهل القوة والمنعة التي نصل عن طريقها إلى استلام الحكم.

ومتى تهيأت لنا هذه الأمور، فقد تهيأ لنا قيام الأمر على الطريقة نفسها التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم . والله سبحانه قد وعد المؤمنين الملتزمين بشريعته بالنصر حيث قال: ]وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[ وقال: ]وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[ وقال: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا[.□

(يتبع)…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *