ضرب القامات في يوم عاشوراء

هذا البحث منقول عن كتاب: (الشيعة والتصحيح: الصراع بين الشيعة والتشيع) تأليف العلامة الدكتور موسى الموسوي.

وبمناسبة حلول عاشوراء رأت مجلة «الوعي» إطلاع قرائها على رأي العلماء فيما يحصل في هذه الذكرى من أعمال. وهناك كثير من علماء المسلمين (الشيعة) يحملون الرأي نفسه.

إن الجانب الهام في هذه الذكرى هو الاقتداء بالإمام الحسين عليه السلام وليس البكاء عليه. الإمام الحسين رفض أن يبايع يزيد لأنه فاسق، والإمام الحسين بحث عن أنصار يستعين بهم لإسقاط الحاكم الفاسق، والإمام الحسين لم يتراجع حين خذله أنصاره لأنه لم ير العيش مع الظالمين إلا برماً.

فلتكن ذكرى استشهاد الإمام الحسين في عاشوراء حافزاً للمسلمين على الثورة على الحكام الفسقة لهدم أنظمة الكفر وإقامة الحكم بما أنزل الله.

والثابت أن أئمة الشيعة كانوا يختلفون بيوم العاشر من محرم فيجلسون في بيوتهم يقبلون التعازي من المعزين ويطعمون الطعام في ذلك اليوم، وكانت تلقى أمامهم خطباً أو قصائد في ذكرى شهادة الحسين وأهل بيت رسول الله r وفضائلهم.

وفي كربلاء وحول قبر الحسين كان الزوار يمرون على هيئة مواكب وآحاد وهم يقرأون الزيارات التي أشرنا إليها مع بكاء ونحيب كجزء مكمل للاحتفال والزيارة، إنها العادة التي لا زالت جارية في المجالس التي تقام للإمام الحسين في العالم الشيعي فلا بد من ختمها بالبكاء لأن:

«من بكى أو تباكى على الحسين وجبت عليه الجنة».

كما جاء في بعض الروايات التي تنسب إلى الأئمة، ومعاذ اله أن يصدر من الإمام كلام كهذا.

كما أن الشيعة كانت تلبس السواد في شهر محرم وصفر حداداً على الحسين، وهذه العادة أخذت بالتوسع في عهد الصراع الأول بين الشيعة والتشيع وعندما أخذت تظهر الشيعة على مسرح الأحداث السياسي والإسلامي كقوة تريد الإطاحة بالخلافة الحاكمة وكان للبويهيين الذين حكموا إيران والعراق باسم حماة الخلافة العباسية دور بارز في تنمية الاحتفالات في أيام عاشوراء ولكن هذه الاحتفالات أخذت طابعاً عاماً وأصبحت جزءاً من الكيان الشيعي. عندما استلم السلطة الشاه إسماعيل الصفوي وأدخل إيران في التشييع وخلق فيها تماسكاً مذهبياً للوقوف أمام أطماع الخلافة العثمانية المجاورة لإيران كما أشرنا إليه. وكان البلاط الصفوي يعلن الحداد في العشر الأول من محرم من كل عام، ويستقبل الشاه المعزين في يوم عاشوراء، وكانت تقام في البلاد احتفالات خاصة لهذا الغرض تجتمع فيها الجماهير ويحضرها الشاه بنفسه، كما أن الشاه عباس الأول الصفوي الذي دام حكمه خمسين عاماً وهو أكبر الملوك الصفويين دهاء وقوة وبطشاً كان يلبس السواد في يوم عاشوراء ويلطخ جبينه بالوحل حداداً على الإمام الحسين وكان يتقدم المواكب التي كانت تسير في الشوارع مرددة الأناشيد في مدح الإمام ثم التنديد بقتلته.

ولا ندري على وجه الدقة متى ظهر ضرب السلاسل على الأكتاف في يوم عاشوراء وانتشر في أجزاء من المناطق الشيعية مثل إيران والعراق وغيرهما ولكن الذي لا شك فيه أن ضرب السيوف على الرؤوس وشج الرأس حداداً على الحسين في يوم العاشر من محرم تسرب إلى إيران والعراق من الهند وفي إبان الاحتلال الإنجليزي لتلك البلاد وكان الإنجليز هم الذين استغلوا جهل الشيعة وسذاجتهم وحبهم الجارف للإمام الحسين فعلموهم ضرب القامات على الرؤوس.

وحتى إلى عهد قريب كانت السفارات البريطانية في طهران وبغداد تمول المواكب الحسينية التي كانت ظهر بذلك المظهر البشع في الشوارع والأزقة، وكان الغرض وراء السياسة الاستعمارية الإنجليزية في تنميتها لهذه العملية البشعة واستغلالها أبشع الاستغلال هو إعطاء مبرر معقول للشعب البريطاني وللصحف الحرة التي كانت تعارض بريطانيا في استعمارها للهند ولبلاد أخرى وإظهار شعوب تلك البلاد بمظهر المتوحشين الذين يحتاجون إلى قيِّم يقذهم من مهامه الجهل والتوحش فكانت صور المواكب التي تسير في الشوارع في يوم عاشوراء وفيها الآلاف من الناس يضربون بالسلاسل على ظهورهم ويدمونها بالقامات والسيوف على رؤوسهم ويشجونها تنشر في الصحف الإنجليزية والأوروبية، وكان الساسة الاستعماريون يتذرعون بالواجب الإنساني في استعمار بلاد تلك هي ثقافة شعوبها ولحمل تلك الشعوب على جادة المدنية والتقدم.

وقد قيل أن ياسين الهاشمي رئيس الوزراء العراقي في عهد الاحتلال الإنجليزي للعراق عندما زار لندن للتفاوض مع الإنجليز لإنهاء عهد الانتداب قال له الإنجليز: نحن في العراق لمساعدة الشعب العراقي كي ينهض بالسعادة وينعم بالخروج من الهمجية. ولقد أثار هذا الكلام ياسين الهاشمي فخرج من غرفة المفاوضات غاضباً، غير أن الإنجليز اعتذروا منه بلباقة ثم طلبوا منه بكل احترام أن يشاهد فيلماً وثائقياً عن العراق، فإذا به فيم عن المواكب الحسينية في شوارع النجف وكربلاء والكاظمية وتصور مشاهد مروعة ومقززة عن ضرب القامات والسلاسل وكأن الإنجليز قد أرادوا أن يقولوا له: هل أن شعباً مثقفاً له من المدنية حظ قليل يعمل بنفسه هكذا؟.

وهنا أذكر كلاماً طريفاً بالحكمة والأفكار النيِّرة سمعته من أحد أعلام الشيعة ومشايخهم قبل ثلاثين عاماً. لقد ككان ذلك الشيخ الوقور الطاعن في السن واقفاً بجواري وكان اليوم هو العاشر من محرم والساعة اثنتي عشرة طهراً والمكان هو روضة الإمام الحسين في كربلاء، وإذا بموكب المطبرين الذين يضربون بالسيوف على رؤوسهم ويشجونها حداداً وحزناً على الحسين دخلوا الروضة في أعداد غفيرة والدماء تسيل على جباههم وجنوبهم بشكل مقزز تقشعر من رؤيته الأبدان، ثم أعقب الموكب موكب آخر وفي أعداد غفيرة أيضاً وهم يضربون بالسلاسل على ظهورهم وقد أدموها، وهنا سألني الشيخ العجوز والعالم الحر:

ما بال هؤلاء الناس وقد أنزلوا بأنفسهم هذه المصائب والآلام؟

قلت: كأنك لا تسمع ما يقولون، إنهم يقولون «وا حسيناه» أي لحزنهم على الحسين.

ثم سألني الشيخ من جديد: أليس الحسين الآن في «مقعد صدق مليك مقتدر»؟

ثم سألني مرة أخرى: أليس الحسين الآن في هذه اللحظة في الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين؟.

قلت: نعم ثم سألني: أليس في الجنة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.

قلت: نعم.

وهنا تنفس الشيخ الصعداء وقال بلهجة كلها حزن وألم: ويلهم من جهلة أغبياء لماذا يفعلون بأنفسهم هذه الأفاعيل لأجل إمام هو الآن في جنة ونعيم ]يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ @ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ[.

في عام 1325 هجري وعندما أعلن كبير علماء الشيعة في سوريا السيد محسن الأمين العاملي تحريم مثل هذه الأعمال وأبدى جرأة منقطعة النظير في الإفصاح عن رأيه، وطلب من الشيعة أن يكفوا عنها لاقى معارضة قوية من داخل صفوف العلماء ورجال الدين الذين ناهضوه وورائهم «الهمج الرعاع» على حد تعبير الإمام علي. وكادت خطواته الإصلاحية تفشل لولا أن تبنّى جدنا السيد أبو الحسن وبصفته الزعيم الأعلى للطائفة الشيعية موقف العلامة الأمين ورأيه في تلك الأعمال معلناً تأييده المطلق له ولفتواه.

ولقد أعطى موقف جدنا بعداً كبيراً للحركة الإصلاحية التي نادى بها السيد الأمين، ومع أن كثير من الفقهاء والمجتهدين وقفوا موقفاً معارضاً للسيد أبو الحسن كما وقفوا للامين من قبل إلا أن السيد أبو الحسن تغلب على الجميع في آخر المطاف بسبب مقامه الرفيع وصموده. وأخذت الجماهير تطيع فتوى الزعيم الأكبر وبدأت تلك الأعمال تقل رويداً رويداً وتختفي من على الساحة الشيعية إلا أنها لم تندثر تماماً حيث بقيت لها نظاهر ضعيفة وهزيلة حتى أن توفي جدنا رحمه الله في عام 1365 هجري وأخذت بعض الزعامات الشيعية الجديدة تحث الناس على تلك الأعمال من جديد فبدأت تنمو مرة أخرى في العالم الشيعي ولكنها لم تصل إلى ما كانت عليه قبل 1352 هجري.

وعندما أكتب هذه السطور تشاهد المدن الإيرانية والباكستانية والهندية واللبنانية مع الأسف الشديد في يوم العاشر من محرم من كل عام مواكب تسير في شوارعها بالصورة التي رسمناها، وقبل أن تنتهي ساعات ذلك اليوم فإن صوراً تلك الهمجية الإنسانية والجنون المفزع تعرض على شاشات التلفزة في شرق الأرض وغربها لتعطي قوة لأعداء الإسلام والمتربصين بالإسلام والمسلمين معاً.

التصحيح:

إن على الطبقة المثقفة من الشيعة الإمامية أن تبذل قصارى الجهد لمنع الجهلة من القيام بمثل هذه الأعمال التي مسخت وشوهت ثورة الإمام الحسين وعلى الوعاظ والمبلغين أن يقوموا بدور أكثر وضوحاً ورؤية، والحقيقة التي أود أن أذكرها بكل صراحة ووضوح هي أن السبب الذي حدا بالحسين للاستشهاد في يوم عاشورا كان أعلى وأجل بكثير من الصورة التي ترسمها الشيعة عن ذلك. فالحسين لم يستشهد لتبكي الناس عليه وتلطم الخدود وتصوره بالبائس المسكين وإنما أراد الإمام أن يعطي درساً بليغاً في الإيثار عن النفس والحزم والعزم والشجاعة في مقارعة الظلم والاستبداد. فلذلك أن الاحتفال في شهادة الإمام الحسين ينبغي أن يكون احتفالاً يتناسب مع مقام الحسين بعيداً عن الغوغاء والجهلة والأعمال التي تضحك وتبكي في آن واحد. وما أجمل الاحتفالات التثقيفية التي فيها تلقى الخطب والقصائد البليغة وسيرة الرسول وأهل بيته وصحابته في الجهاد والتضحية في سبيل الله.

وهكذا يجب أن نبني أنفسنا في ذكرى الحسين لا أن نهدمها ويجب أن نعطي للحسين حقه في ساحة النضال لا أن نشوهه ونسيء إليه. هذا إن كنا حقاً من أنصار الحسين ومحبيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *