العدد 22 -

السنة الثانية – العدد العاشر – رجب 1409هـ، الموافق شباط 1989م

كلمة «الوعي» لبنان الصغير

 قبيل قيام البطرك صفير برحلته الشهيرة إلى أميركا في حزيران 1988 قال بأنه (سمع كلاماً مقلقاً خلاصته: هل هناك جدوى من إعادة لبنان إلى الخريطة؟ وماذا يخسر أصحاب المصالح الإقليمية والدولية من زوال بلد يسميه البعض «غلطة جغرافية» والبعض الآخر «غلطة تاريخية» [جريدة الأنوار 12/06/1988].

أما سليمان فرنجية فقد صرح غير مرة، أثناء رئاسته وبعد رئاسته، أن أميركا عرضت عليه، بلسان كيسنجر، أن تؤمن البواخر لترحيل الموارنة والنصارى من لبنان.

وكان المطران جورج خضر كتب في جريدة النهار أن الذين هجروا لبنان خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة يزيدون عن (800) ألف شخصاً أكثرهم من النصارى. وقد صحح جوزيف سكاف هذا الرقم فقال بأن الإحصاءات بينت أن المهاجرين بلغوا (480) ألف لبناني منهم (400) ألف من النصارى والباقي من المسلمين. [كلام سكاف من مقابلة مع تلفزيون L.B.C في 18/12/88].

روجية إده قال عن جلسة ضمته وريمون إده ومسؤول أميركي كبير، إن ريمون إده سأل المسؤول الأميركي: كيف تنظر الإدارة الأميركية إلى أهمية لبنان؟ وكان جواب المسؤول الأميركي: لبنان لا أهمية له، ولم يعد من حاجة لوجوده. [من مقابلة روجيه اده مع تلفزيون لبنان قنال 7 في 12/01/89].

جوزيف سكاف، نائب زحلة، قام بمسعىً لدى الدول الكبرى لإقناعها بفصل مشكلة لبنان عن مشكلة المنطقة من اجل الإسراع في حل مشكلة لبنان. وكان المسؤول الإنجليزي الذي كلمه صريحاً معه فقال له: (لا تتعب نفسك ولا تضيّع وقتك، لبنان تابع للمنطقة ولا يمكن فصله عنها وأضاف: أنتم تظنون لبنان كبيراً ومهما ونحن نراه نقطة صغيرة في منطقة، والمنطقة كلها نراها صغيرة، فلا تتوهموا). [من مقابلة مع L.B.C في 18/12/88].

مورفي، المسؤول الأميركي، قال للمسؤولين اللبنانيين في 20 أيلول 88 بأنه اتفق مع سوريا على أن مخايل الضاهر المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية، وإذا رفضوه فمصير لبنان هو الفوضى والخراب.

البطرك صفير قدم قائمة بأسماء مرشحين ونقلتها أميركا لسوريا لتختار سوريا واحداً من القائمة، ويقول جوزيف سكاف في مقابلته التلفزيونية المذكورة: (سألت السفير الأميركي عن مبرر تفاؤله بحصول انتخابات قريبة فأجابني: الأسماء عند سوريا فإن وافقت على اسم منها فالانتخاب يحصل فوراً). وهذا يعني أن أميركا جعلت، وبشكل علني، الكلمة الفصل في اختيار رئيس الجمهورية اللبنانية، لسوريا وحدها.

مورفي قال أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأميركي، بعد الإخفاق في انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، قال: (إما أن ينتخبوا رئيساً للجمهورية وإما أن ينقسم لبنان إلى دولة مارونية صغيرة وإلى جمهورية شيعية).

واستمر مسلسل الشرذمة والتقسيم: انقسام رسمي في الحكومة، انقسام واقعي في مجلس النواب، انقسام رسمي في الأمن العام، انقسام رسمي في الجيش، والحبل على الجرّار. قبل ذلك انقسام في الأفكار والمشاعر والولاءات، وانقسام في المصالح والتحالفات.

أما من حيث السلطة العسكرية على الأرض فإن إسرائيل تحتل الشريط الحدودي، وتهيمن على قسم آخر، والباقي هو في يد سوريا.

وإذا طُرحتْ هذه الصورة أما أي عاقل في الدنيا فماذا تُراه يقول؟ أيقول بأنه متفائل بإقامة لبنان الجديد؟ أيقول بأن الدول الكبرى صادقة في إعادة لبنان بلداً حراً مستقلاً؟ أم يقول بأن لبنان أل 10452 كلم مربع انتهى؟

وهل كان لبنان في يوم من الأيام عبر التاريخ سيداً حراً مستقلاً، كي نقول بعودته إلى ذلك.

ميشال عون قال: (لبنان لم يكن ولا مرة في تاريخه الحديث سيداً حراً مستقلاً… ففي نظام القائمقاميتين لم يكن مستقلاً. وفي ظل حكم المتصرفية كان المتصرف أجنبياً. وبعد حكم المتصرفية صار لبنان خاضعاً للحكم الفرنسي. وفي عام 1943 لم يحصل لبنان على الاستقلال التام الناجز كما زعم، إنما استقل عن فرنسا، وبات خاضعاً للنفوذ البريطاني ولتوجيهات «المفوض السامي» يومذاك الجنرال سبيرس. وبعده صار خاضعاً لتوجيهات مصر عبد الناصر بشخص سفيرها اللواء عبد الحميد غالب. وبعده لمداخلات الفصائل الفلسطينية… ثم صار لبنان أخيراً خاضعاً لسيطرة سوريا الأسد وهيمنتها وهو لا يزال إلى الآن).

[جريدة النهار 09/01/89].

نعم لم يكن لبنان في يوم من الأيام سيداً حراً مستقلاً لا في تاريخه الحديث ولا القديم. ولكن الدول الغربية ذات المصلحة، وعلى رأسها فرنسا، أوجدت تحت حمايتها وهيمنتها كياناً أسمته لبنان، وتوهم في بعض الفترات أنه سيد مستقل. وقد ضعف نفوذ فرنسا، الأم الحنون، ولم يبق عند أميركا أو الإنجليز من مصلحة للحفاظ على هذا الكيان فصار في مهب الريح.

ثم اقتنعت أميركا بأنه لم يعد من مبرر لبقاء الكيان اللبناني ووافقت على إطلاق يد سوريا فيه.

في البداية وافقت أميركا على إطلاق يد سوريا في لبنان بشكل خجول، ولكن بعد أن صرح مورفي بأن سوريا لم تقبل برئيس غير مخايل الضاهر، وخيّر اللبنانيين علناً بين من اختارته سوريا وبين الفوضى والخراب، تكون أميركا قد أطلق يد سوريا في لبنان واقعياً ورسمياً.

واللبنانيون ينتظرون الآن الترياق الآتي من تونس. وفي ندوة في التلفزيون اللبناني القنال 11، طرحت فكرة أن يعود الرؤساء الثلاثة: الحسيني والحص وعون كرؤساء، أي فليتفقوا على: عون لرئاسة الجمهورية والحسيني لرئاسة مجلس النواب والحص لرئاسة الحكومة، وتنحل المشكلة.

مساكين هؤلاء الذين تتقاذفهم الأرجل كالكرة ويظنون أنهم يتحركون بإرادتهم.

عون والحص والحسيني لا يملكون من الأمر شيئاً. صباح الأحمد الصباح واللجنة التي يرأسها لا يملكون من الأمر شيئاً. وزراء الخارجية العرب الذين اجتمعوا وشكلوا اللجنة لا يملكون من الأمر شيئاً. مؤتمر القمة العربي لا يملك من الأمر شيئاً.

الأمر هو في يد الدول الكبر، وبالتحديد في يد أميركا. والتصرفات التي تقوم بها أميركا تشير إلى أنها لم تكن تريد انتخابات رئاسة جمهورية، وتشير إلى أنها كانت تخدع البطرك صفير، وتشير على أنها الآن تخدع وزير خارجية الكويت ولجنته، وتخدع المسؤولين في لبنان، وتشير إلى أن حالة الفوضى التي يتخبط فيها لبنان تسير بشكل مبرمج وأن أميركا هي صاحبة هذه البرمجة.

إلى أين تسير أميركا بلبنان ما دامت هي صاحبة البرمجة؟ لا نريد أن نغرق في التكهن بل نكتفي بالإشارة إلى الاتجاه الذي يسير فيه قطار البرمجة الأميركية.

إن كلام مورفي أمام لجنة الشؤون الخارجية عن قيام كيان ماروني صغير وقيام جمهورية شيعية يشير إلى ما تريده أميركا. ولا يقصد مورفي بعبارة «جمهورية شيعية» جمهورية إسلامية أو كيان شيعي بل يقصد أنه سيكون هناك منطقة صغيرة، ربما في كسروان، تعطى للموارنة ليعبروا فيها عن ذاتهم، وتكون بقية لبنان دولة واحدة بإشراف سوريا كما هو حاصل الآن.

والكيان الماروني الصغير بدأ يحن إليه كثير من الموارنة، فقد كتبت جريدة النهار في 31/01/89 بتوقيع سركيس نعوم: (ما هي الصيغة الممكنة للبنان المستقبل في رأي مسيحي الشرقية؟ هناك صيغتنا… الأولى… صيغة لا مركزية… تدعمها القوات اللبنانية… قال جعجع: «إن الصيغة الـ 43 ماتت، وإن مصلحة لبنان تقتضي صيغة فدرالية، وأن لا تراجع عن هذا الهدف…» أما الصيغة الثانية، فأصحابها يعتدون أن «لبنان الكبير» الذي أعلنه الجنرال الفرنسي غورو عام 1920، كان خطأ كبيراً إذ أخل بالمعادلة الطائفية في لبنان… وهم يعتقدون أيضاً أن لبنان الصغير… قد يحمل الحل…).

هاتان الصيغتان هما صيغة واحدة في الحقيقة، لأن الذي يطالب بالعودة إلى لبنان الصغير، أو يطالب بفيدرالية في لبنان الصغير مرتبطة ببقية لبنان، هذان المطلبان هما في الواقع مطلب واحد.

وهذا ينبغي أن الموارنة فقدوا الأمل في أن يحكموا كل لبنان، فانكفأوا إلى لبنان الصغير. أي أنهم يئسوا من دعم الدول الكبرى لهم كما ساعدتهم فرنسا عام 1920.

ولكن هل تساعدهم أميركا لتكوين كانتون لهم فيما يسمى بلبنان الصغير؟ في أحسن الحالات بالنسبة لهم تساعدهم على إنشاء ما يشبه الحكم الذاتي، أو إدارة لا مركزية، على أن تبقى هذه الإدارة تابعة للدولة في لبنان أي لسوريا، لأنها هي الدولة في لبنان في المدى المنظور. أما أن ينشئوا كياناً مستقلاً في لبنان الصغير فهذا أمر غير مسموح به. وقد صرح عبد الحليم خدام غيرة مرة أن هذا غير مسموح به، وصرح حسين الحسيني أن هذا لن يكون، لأن هذا هو التقسيم.

والمفروض أن لا يتم هذا لأنه سيكون خنجراً، مثل إسرائيل، في خاصرة المنطقة كلها.

والمطلوب من المسلمين الآن ومن عقلاء الموارنة وسائر النصارى أن يرضوا بالأمر الوقع ويصبحوا بشكل رسمي وقانوني جزءاً من سوريا ومن سائر بلاد الشام، وأن يتوجهوا لقلع الخنجر الآخر وهو دولة اليهود من فلسطين.

المطلوب من هؤلاء أن يكفوا عن التطلع لانسحاب سوريا من لبنان، وأن يطلبوا بدل ذلك من سوريا أن ترتب الأمور من أجل إقامة الوحدة الاندماجية بين سوريا ولبنان.

الأمر ليس صعباً. في بعض الحالات يكون هناك قانون على الورق ولا يكون له واقع تطبيقي على الأرض، وفي بعض الحالات يكون هناك واقع مطبق على الأرض، ولكنه يفتقر إلى قانون يكسبه الناحية الشرعية، وهذا أهون بكثير من الحالات الأولى، لأن الجانب الصعب في الأمر هو التطبيق العملي على الأرض، وليس تشريع القوانين، خاصة حينما يكون هذا التطبيق وهذه القوانين تحقق مصالح الناس وتتجاوب مع رغباتهم.

إن الوحدة هي الأمر الذي ينادي به الناس من صميم قلوبهم وهي التي تحل مشاكلهم، وها هي تتحقق على أرض الواقع، فلماذا نقابلها هكذا بخجل وتردد، ولماذا لا نندفع إلى إكمالها بأن تكتب الأقلام وترتفع أصوات الخطباء وتعقد الندوات ويتشاور أهل الحل والعقد في أنجع السبل من أجل تحقيق هذه الوحدة.

أسرة «الوعي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *