العدد 316 -

السنة السابعة والعشرون جمادى الأولى 1434هـ – آذار 2013م

محاسبة النفس (1) صورها وأثرها

بسم الله الرحمن الرحيم

محاسبة النفس (1)  صورها وأثرها

سعيد الأسعد – فلسطين

 الحمد لله القائل:( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) والقائل:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)) والقائل:( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )

إن قضية محاسبة النفس لهي على جانب عظيم من الأهمية، فهي من يقظة الواعين المستيقنين بالدار الآخرة. الذين يدركون حجم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، فيعطون الأولى وزنها والآخرة قدرها، فهي خير وأبقى، قال تعالى: (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)) والذين يستعدون ليوم الحساب العظيم ويحسبون له حسابه، فمن أدركه أنه متجه بقضاء مبرم نحو نقاش حسابه عذب كما قالت أم المؤمنين عائشة: «من نوقش الحساب فقد عذب»،فمن أدرك ذلك سارع وتدارك بمحاسبته لنفسه وهو في سعة من العيش في دنياه ليصلح ما أفسد بتقصيره، ويسرع بما أبطأ به من عمله، ويرمِّم ما صدعته ذنوبه ومعاصيه؛ فيكون مستعداً ليوم صبحه يوم القيامة. ولما كانت الحقيقة أن كل بني آدم خطّاء كانت الحاجة ضرورية ليتتبع سقطاته وزلاته وعوراته، فاليوم عمل ولا حساب. ويمكننا أن نتلافى ونتدارك فنحاسب النفس ونزجرها ونطوعها ونحملها ونرفعها، فغداً حساب وأي حساب، وعندها لات ساعة مندم، إذ لا وقت لتدارك أي أمر، كيف لا، وقد أعطانا ربنا عز وجل فرصة في الدنيا نحاسب بها أنفسنا، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) ). روى الحاكم  عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيّ». وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر». وكتب إلى أبي موسى: «حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة».

وإن حساب النفس له أثران: أثر في الدنيا، وأثر في الآخرة. وأما الأثر في الدنيا فيظهر في استقامة العبد، وفي رقي سلوكه وروعة انضباطه ونزوعه نحو الكمال الإنساني؛ فتقلُّ زلاته، ولا تجد منه إلا الطيب من القول والفعل؛ فيطيب للناس ذكره، ويحبون الاقتداء به، ويضربون الأمثلة به، ويستشهدون به في الخيرات… رغم أنه ليس لهذا كان يسعى ويتفانى. وإنه والله إن كان هذا ما يدركه كل فرد صالح يتمم نقصه بمحاسبة نفسه بلومها وديمومة تزكيتها، فان هذا لهو آكد في حق حملة الدعوة، وهم الثلة الطلائعية ومقدمة الركب في قيادة الناس نحو الخيرات والتزام كل الطاعات، وعلى رأسها حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية وإقامة الخلافة… ذلك أن حامل الدعوة هو محل لمحاسبة الناس ومحط لأنظارهم وينتظرون منه أن يكون مثالاً يحتذى ليقودهم، فالناس لا تعطي قيادتها حين تقصد التضحية والفداء إلا لمن تظن فيه الخير، وتلمس أنه ورع تقي نقي محل قدوة، عطر الذكر قوي أمين، ولا يتأتى هذا لأحد إلا إذا اتخذ من محاسبة النفس سجية له يتمم بها نقائصه ويحيط بها أمره باستقامة وحراسة… وإن الدور القيادي الطلائعي يلقي بظلاله على مقتضيات الأهلية من ديمومة اليقظة على الزلات والحرص على القوة في القدوة والمثال والإحاطة بكل الأسباب التي تقي من العثرات… ولا سبيل إلى كل هذا إلا باثنتين وهما: النصيحة وديمومة المحاسبة للنفس وجلدها إلى حد تطويعها لضمانة الاستقامة على مقياس القادة الأبدال…ولله در القائل «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي»، فدرجة القبول والترحيب والشكر على من ينبهنا لعيوبنا هي درجة الشكر على الهدية. وفي ذلك تطويع للنفس على مبدأ قبول النقد والمحاسبة من الغير، وأما محاسبة النفس للنفس فهي آكد وأولى، بل وتجهزها لقبول النصح من الآخرين.

صور المحاسبة:

1- محاسبة النفس على الصعيد الفردي في الالتزامات الإسلامية وأثرها على النفس وعلى الركب إيجاباً أو سلباً..

إن الالتزامات الإسلامية من قيام بالواجبات، وترك للمحرمات، والحرص على المندوبات والقربات، والحرص على ترك المكروهات، والترفع عن بعض المباحات، يحرص عليه أهل التقوى كل الحرص التزاماً وطاعة لله، وابتغاء لرضوانه، وطمعاً بجنته، وهروباً من زفير نيرانه، ولا يتم ذلك إلا بمحاسبة النفس من قبل حملة الدعوة مرتين: مرة حرصاً على النقاء وإخلاصاً خالصاً لله يقتضي التأكيد على المحاسبة في محاسبة فوق المحاسبة، فيحاسب حامل الدعوة نفسه مرة أخرى وفق معيار يكون فيه أسبق الناس للقيام بالواجبات وترك المحرمات والبعد عن الشبهات، ويكون أسبقهم في التنافس على القربات فيحز في نفسه ويؤرقه أن يسبقه الناس على حضور صلاة الجماعات، ويستنفره أن تتجافى جنوب بعض الناس ممن لا يحملون الدعوة عن المضاجع ويصلون الفجر في جماعة وهو يرقد في فراشه، ويندى جبينه خجلاً أن يرى الناس أو بعضهم يسبقونه في أي من الفضائل، أو يفجر إن خاصم في حين أن خصمه من الناس يصفح ويسامح، وإنه والله لما تتفطر منه القلوب ويهتز له كيان النفس أن لا يحاسب المسلمون أنفسهم ولا يأطرونها على الحق أطراً وخاصة أصحاب الدعوة، بل عليهم أن يعينوا أنفسهم على أنفسهم؛ فيتنبهوا لسلوكهم ويزنوه بميزان الذهب، ويحيطوه بكل رعاية، ولا يفجروا إن خاصموا بل يدفعوا بالتي هي أحسن، فهذا أقوم خلقاً يزكيهم به ربهم كي يكونوا منارات وعلامات يهتدي بها الناس في الظلمات… وإنه واللهِ لا يليق بحامل الدعوة أن يكون وعاءً مليئاً بالخيرات ولا يحرص كل الحرص على محاسبة نفسه في الصغيرة قبل الكبيرة، وفي اللمم قبل العظائم… وليكن شعار المحاسبة هو على معيار نجعل فيه بيننا وبين الحرام سترة من الحلال، فلا نكون على حدود الحرام حتى لا نقع فيه.

2- محاسبة النفس على صعيد حمل الدعوة والقيام بتكاليفها على نحو فيه المسابقة، والمسارعة، والمنافسة، والتفاني والتضحية… ورجاء القبول.

إن حمل الدعوة فيه متطلبات كثيرة، وتقوم كلياته على جزئيات كثيرة، قد لا يأبه بها البعض ولا يعدونها شيئاً بل يمرون عليها مرور الكرام، فلا يحاسبون أنفسهم عليها، وقد يُكثرون من التبرير والاستهانة بتركها، وإن هذا لهو بداية للنقص ومدخل للخطر، فقد يتهاون الواحد في عمل هنا أو هناك، أو معلومة هنا أو هناك، أو مطلب هنا أو هناك، ويبرر بما يحلو له، وإن التبرير يمحق الأعمال ويذهب بها، فمن كثر تبريره كثر اعتذاره، ومن كثر اعتذاره كثر تقصيره، ومن كثر تقصيره سهل ضياعه، ولا سبيل للنجاة من كل ذلك إلا بالمحاسبة الدقيقة الصارمة؛ فيأخذ نفسه بالشدة بالحق، والدقة بالملاحظة، والمثابرة على الصبر على الالتزام، والتشديد على المعايير الدقيقة كميزان الذهب يزن بالذر لأن الذر من الذهب ثمين. وإن أي عمل له مساس بالدعوة لهو أثمن من الذهب، ويجب أن يوزن بأدق من ميزان الذهب، وعليه يكون الحساب.

إن محاسبة حامل الدعوة لنفسه لا يكون فقط على إسقاط الواجب، فلا يكون مثلاً على التأخر عن الحلقة، بل على عدم التبكير لها. وليس على عدم التحضير لها وعدم التفاعل فيها بل على عدم التفوق في كل شيء متعلق بها، وكذلك فإن محاسبة النفس لا تكون على عدم حضور درس عام أو محاضرة بل تكون على التبكير والحشد لها، ودعوة المعارف وترتيب حضورهم وأخذ ردة فعلهم ودوام التواصل معهم. وكذلك فإن محاسبة النفس لا تكون فقط على عدم الاتصال بالناس لأجل كسبهم، أو بالرأي العام لأجل بنائه، بل تكون بأخذ كل الأسباب الممكنة للنجاح. وكذلك الأمر في توزيع الإصدارات، فلا تكون محاسبة النفس على عدم توزيعها، ولا بتأنيب النفس على إهمال كمية صغيرة، بل المحاسبة تكون للنفس بأخذ ردود الفعل عليها لدوام قياس المجتمع وتفاعله مع دعوتنا… نعم إن محاسبة النفس على أصولها تكون وفق هذه المعايير الدقيقة التي تكفل وتضمن بناء النفسية على طاعة لله وعقد الصفقة معه. قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)    وقال تعالى:( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ). وبهذا يكون حامل الدعوة قد بنى نفسه على قيم خاصة رفيعة تضمن بمشيئة الله الرقي بنا إلى مستوى الصحابة الكرام رضي الله عنهم وقرب من عزماتهم. فمن يطلب الدرجات العلى لا بد له من قفزاتها وعزماتها، وهي لا تكون بمحاسبة النفس على أقل التكاليف ولا أيسرها، بل بالأخذ بالعزيمة دون الرخصة فيما تقتضيه صلابة الدعوة ورسوخها إخلاصاً خالصاً لله تعالى وحده، وصدقاً مع رسوله الكريم، واستبشاراً بالبيع الذي بايع ربه عليه.

 3- ليس من العيب جلد النفس وتعنيفها بشكل داخلي وتوسيع النطاق مع مراعاة عدم الإخلال.

إن فكرة محاسبة النفس والحاجة لتعنيفها، وتقويم اعوجاجها وتقصيرها، ومعالجة إبطائها عن الخيرات، وعدم المنافسة والمسابقة والتفاني في المهمات، وعدم الأخذ بالعزائم… إنما يقوم على أن صفقتنا هي مع الله وابتغاء رضوانه والحرص على عدم معصيته، أو التقصير في جنبه وعلى أرضه وتحت سمائه… وقد رزقنا من مائه وهوائه وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة. وأعظم من هذا فقد أنقذنا من النار وقد كنا على شفا حفرة منها بأن جعلنا مسلمين. وزاد في نعمته علينا بحمل الدعوة مع حزب التحرير فاتضحت لنا به فكرة الإسلام وطريقته، وحملنا من خلاله الدعوة على بصيرة وفق منهج الإسلام في التغيير، فاستحقت هذه النعم الغامرة منا كل جهد ورمق، وكل إخلاص ومسابقة وتضحية وتفانٍ شكراً وإخلاصا لله سبحانه، فنحاسب أنفسنا أشد المحاسبة على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق، ولنا خير مثال وقدوة في صحابة رسولنا الأكرم وهم يدركون ويضعون نصب أعينهم قول الله عز وجل (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ) وقوله تعالى: ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) وقوله تعالى( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) وقداستدل أولو البصائر بمثل هذه الآيات فكانوا لأنفسهم بالمرصاد، وعلموا أنهم سيناقشون الحساب، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، فتحققوا أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومتابعة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفَّ يوم القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته. فحتمٌ على كل ذي حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها، وخطراتها وخطواتها، فإن كل نفس من أنفاس العمر لا عوض لها. فانقضاءُ هذه الأنفاسِ ضائعةً أو مصروفةً إلى ما يجلب الهلاك خسرانٌ عظيم لا تسمح به نفس عاقل. قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )،وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال، وقال تعالى:( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) ). والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه، وقال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) ) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة». قال عمر رضي الله عنه: « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا» وقال «مالك بن دينار»: «رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى؛ فكان له قائداً، عن عمر بن الخطاب أنه صعد المنبر يومًا فقال: «إني كنت أرعى الغنم لبني فلان على  قراريط، وكنت كذا وكذا، ثم بكى ونزل، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما زدت على أن أذريت بنفسك، قال عمر: إن نفسي حدثتني بالخلافة فأردت أن أؤدبها» وعن أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً – وقد خرجت معه حتى دخل حائطاً – فسمعته يقول، وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: «أمير المؤمنين!! بخٍ  بخٍ، والله لتتقينّ الله أو ليعذبنّك». قال الحسن البصري : «المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة». وفي قوله الله تعالى: ( وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) ). قال الحسن البصري : «لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي ؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضى قدماً لا يعاتب نفسه». وعن عطاء قال: دخلتُ على فاطمة بنت عبد الملك بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، فقلت لها: يا بنت عبد الملك، أخبريني عن أمير المؤمنين، قالت: «أفعل، ولو كان حيّاً ما فعلت! إن عمر رحمه الله كان قد فرَّغ نفسه وبدنه للناس، كان يقعد لهم يومه، فإن أمسى وعليه بقية من حوائج يومه وصله بليله، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان يسرج له من ماله، ثم قام فصلى ركعتين، ثم أقعى واضعاً رأسه على يده تتسايل دموعه على خده، يشهق الشهقة فأقول: قد خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك ليلته حتى برق له الصبح، ثم أصبح صائماً، قالت: فدنوت منه فقلت: «يا أمير المؤمنين، رأيت شيئاً منك البارحة ما رأيته قبل ذلك، فما كان منك؟» قال: «أجل، فدعيني وشأني، وعليك بشأنك»، قالت: فقلت له : «إني أرجو أن أتعظ»، قال: «إذن أخبرك، أني نظرت إليّ فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأسودها وأحمرها، ثم ذكرت الغريب الضائع، والفقير المحتاج، والأسير المفقود وأشباههم في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلني عنهم، فخفت على نفسي خوفاً دمعت له عيناي، ووجل له قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت لها وجلاً، وقد أخبرتك فاتعظي الآن أو دعي»

نعم يا حملة الدعوة بهذه النفسيات والعزمات وتلك الشهقات وبتلك المحاسبة العسيرة الشاقة على النفس تكون أهلية الرجال في اقتعاد ذرى المجد، وبعد أن نكون قد أرينا الله من أنفسنا ما يرضيه عنا فيرى بكاءنا على خطايانا وتقصيرنا الذي نتبعه ما يزيله أو يجبره، ولعل الله يطلع على قلوبنا وإخلاصنا وإسراعنا وتفانينا ما ينصرنا به نصراً عزيزاً تاقت له نفوسنا ورنت إليه أبصارنا وأفئدتنا تكون فيه عزة الاسلام على أيدينا… اللهم اصنعنا على عينك، واصطنعنا لنفسك، وخذ منا ما يرضيك، واجعلنا أهلاً لموعودك بالنصر والتمكين والاستخلاف في الأرض.

قال تعالى: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) )  وقال جلَّ من قائل: ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) )

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *