إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع
1988/07/04م
المقالات
11,940 زيارة
بقلم: د.يونس شناعه
تتخذ بعض المفاهيم في أذهان غالبية المسلمين شكل البديهيات والمسلمات على أنها حقائق منتهية، والنقاش فيها إضاعة للوقت والجهد؛ حتى أن بعضها انتقل من الذهن إلى النفس، وتحول إلى قناعة قلبية تصعب زعزعتها أو زحزحتها؛ كل ذلك على الرغم من خطئها وضعف ما تستند إليه من حجج عقلية، وعلى الرغم من فشلها على أرض الواقع.
وعلى الرغم من كثرة هذه المفاهيم المغلوطة إلا أنني رأيت (لغايات التوضيح) أن أحصر البحث وأقصر مقالتي هذه على ثلاثة منها فقط، راجياً أن يفي ذلك بالغرض.
نحن هنا أمام أمرين: الصلاح والإصلاح، وإصلاح الفرد وصلاح المجتمع. أما الأمر الأول فله خطره وخطورته مثل الأمر الثاني. فالسائد في المجتمع الإسلامي الحديث خلط بين الصلاح والإصلاح. فالناس يكتفون بالصلاح، ويعرضون عن الإصلاح. أما السبب فيعود إلى سهولة الأول (الصلاح) بالمقارنة بالثاني، رغم صعوبة الأمرين من جهة، وإلى سوء فهم لمعنى الصلاح من جهة أخرى.
فالصلاح يشمل الفرد في ذاته في النهاية، أما الإصلاح فهو التحرك الذي يقوم به الفرد (أو الجماعة) تجاه نفسه أو غيره، لتحقيق الصلاح في النهاية.
فالصلاح نتيجة الإصلاح: فهو حالة سلبية أما الإصلاح فهو الوضع الإيجابي المؤثر وهو الأهم في المعادلة. فالمصلح هو العنصر الإيجابي في المجتمع أما الصالح فهو من ثمرات المصلح؛ وإذا توقفت عملية الإصلاح ازداد الصالح اقتراباً من الفساد؛ فالمصلح صالح في ذاته مصلح لغيره، والصالح صالح في ذاته قابل للفساد. هذه هي طبيعة الصلاح والإصلاح على أرض الواقع.
من هنا، ودائماً بمنظار الإسلام: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، جاءت آيات الكتاب المبين في غاية الوضوح ترفع من قدر المصلحين، غير عابئة بالصالحين: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) لا (صالحون)؛: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)؛ وفي معرض حديثه صلى الله عليه وسلم عن مسؤولية الجماعة تجاه الأفراد الفاسدين وما يتبع ذلك بالضرورة من فساد المجتمع كله، وما يترتب على كل ذلك من (هلاك الجماعة) تساءل المستمعون من صحابته صلى الله عليه وسلم فقالوا: (أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟) قال: نعم. ويوضح الفكرة أيما توضيح حديث (السفينة) الذي يحدد علاقة الفرد بالجماعة ومسؤولية الجماعة تجاه فساد أو إفساد الأفراد، وكيف أن الغرق يهدد كل من على السفينة، ومنهم الصالحون، إن هم وقفوا متفرجين على إفساد الأفراد (فإن أخذوا على يديه ـ أي منعوه من العبث ـ نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا).
وعندما لاحظ أبو بكر رضي الله عنه سوء فهم بعض الناس للآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال: أيها الناس إنكم تفهمون هذه الآية على غير ما تعني، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليلعنكم الله بعذاب، فتدعونه فلا يستجاب لكم»! وبمعنى آخر فإن الإسلام لا يكتفي من المسلم بصلاحه في ذاته فقط. بل لا بد له من أن يكون (مصلحاً) ويمنع الفساد والإفساد.
صحيح أن الذي اهتدى لا يضره (ولا يجوز أن يزعزع يقينه) ضلال غيره، لكنه لا يجوز له أن يقف متفرجاً فيكتفي بصلاح نفسه ولا يتحرك لإصلاح الضالين. ولا يجوز أن يفهم الناس مثل هذا التحرك على أنه (تدخل المرء فيما لا يعنيه)، فالإصلاح بمنظار الإسلام من صميم ما يعني المسلم.
ونتناول الآن القضية الثانية والتي يمكن تلخيصها في السؤال التالي:- هل يؤدي إصلاح الفرد إلى إصلاح المجتمع؟ أي هل نستطيع في النهاية الحصول على مجتمع صالح باللجوء إلى إصلاح أفراده واحداً بعد الآخر؟
يتراءى الأمر للوهلة الأولى بديهياً فإذا أنت صبغت كل بيضة في طبق البيض باللون الأخضر مثلاً، فإنك تحصل في النهاية على طبق من البيض الأخر. غير أن الأمر ليس في هذه البساطة (أو السذاجة في الحقيقية)، فالمجتمع البشري ليس مجموعة من الناس مصفوفة في رفوف خشبية أو محصورة في غرف متشابهة، في مواقع ثابتة. إنما المجتمع البشري معادلة معقدة، قوامها الناس، وما يحملون من أفكار عامة وقناعات ومشاعر متشابهة أو متقاربة أو متضاربة، ومصالح متشابكة، ويحكم هذا النسيج العنكبوتي نظام متفرع إلى أنظمة تتناول شتى مناحي الحياة، فإذا حكم مجتمع ما بنظام معين، ترك هذا النظام بصماته على معظم آفاق الحياة في ذلك المجتمع بحيث يصبح له طابع خاص به، وفي ظل كل مجتمع متميز عن غيره تنشأ أعراف وتقاليد وهذه تأخذ دالة على أذواق الناس وتفكيرهم لا شعورياً بحيث يستهجنون ما يراه غيرهم محبباً في مجتمع آخر، والعكس بالعكس.
هذه هي الصورة (المعقدة) التي يجب أن ينظر المصلحون إليها ليروا طبيعة المجتمع من خلالها، قبل أن يقرروا إمكانية إصلاحه بإصلاح أفراده فرداً فرداً، فهل ذلك ممكن؟
كل التجارب العملية التي أجريت (على الطبيعة) لتغيير المجتمعات وعلى تراخي العصور، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن التغيير أو الإصلاح يبدأ من أعلى إلى أسفل، أي من النظام الذي يحكم العلاقات الدائرة في المجتمع. والأمثلة على البسيط من الأمور نوضح الفكرة التي نرمي إليها. خذ (أكشاك) التليفونات أو (الهاتف العام) مثلاً. إن فكرة قبوله واستعماله بالشكل الصحيح تواجه مقاومة ساخرة في البداية، فالأمر مستهجن. وعليه يتعرض (الهاتف العمومي) للتلف أو (الإتلاف) في وقت مبكر؛ فإذا كنا نتوقع عكس ذلك نكون مخطئين، لذلك كان لا بد من إعداد العدة منذ البداية للصيانة المتكررة وبلا تذمر، معززين ذلك بحملة توعية مكررة تبين فوائد هذه (الأكشاك) ومزاياها (في المدينة كما في المطار)؛ مع الزمن سوف يترسخ في (تصرف) الناس حسن استعمالهم لهذه الأكشاك، ويكتسب العراقة التي تجعلهم يحافظون عليها وعلى استمرارها. ومثل ذلك يقال عن الإشارات الضوئية المرورية (في باكورة عهد الناس بها)، وقس على ذلك الكثير. ترى من الذي أرسى دعائم هذه الأمور… البسيطة الهامة؟ النظام أو السلطة طبعاً. وانطلاقاً من نفس المبدأ تحدثت إلى كثيرين ممن يطالبون (بالحجاب) سمة ظاهرة في الشارع وملمحاً ظاهراً على قسمات المجتمع، باعتبار أن الناس في غالبيتهم مسلمون. قلت لمحدثي يؤمئذ، وأقول: إذا توفر الرأي العام مع الحجاب في بلد ما فإن مراعاته في الشارع وحيث يمارس الناس أعمالهم وواجباتهم يمكن تحقيقه ببلاغ واحد، ويمكن ضمان استمراره بحملة إعلامية مكثفة تخاطب قناعات الناس وتحثهم على استمراره حتى يصبح عرفاً وتقليداً مألوفاً ينال عطف السلطة ورعايتها و… هيبتها في آن واحد.
إن الانطلاق من الفرد بغية إصلاح المجتمع عملية شاقة مضنية عدا عن كونها في النهاية تصب في بحر العبث. إنها كالحراثة في البحر، أو بكلمات أجدادنا (كالذي يرقم على الماء)؛ فأنت ما تكاد تصلح الأول فالثاني فالثالث حتى تلتفت خلفك لتجد الأول قد (نكص على عقبيه)، وهكذا، إلا من رحم ربك من الناس ذوي الاستعداد الاستثنائي على الاندماج في الوضع الجديد، بفعل قناعاته الجديدة. ونحن حيال إصلاح الفرد بالمفهوم الإسلامي إنما نثقفه من جديد بثقافة الإسلام بشكل عميق ومؤثر، كأن لم تكن له خلفية عنه، كي نتخطى فعل الرواسب ومفاهيم الأعماق، فنخلط القديم بالجديد، وتتضارب المفاهيم وتنتج البلبلة الذهنية التي يترتب عليها بلبلة وتناقض في السلوك، إذ أن الإنسان يتحكم فكره في سلوكه عادة.
وطبيعي إنك لا تغير صياغة مجتمع لتغير صياغة هذه القلة من الأفراد الاستثنائيين، فالوضع والحالة هذه بكلمات أحدهم (كناضح الحفرة في المنخفض)!.
لماذا يفسد الفرد الذي نصلحه في وقت قصير بالطريقة التي أسلفنا؟ لأن المحيط العام لا يسمح له بالاستمرار فهو يقاوم في البداية ويقاوم، ثم تنهار مقاومته في النهاية في الأغلب الأعم. هل تريدون أمثلة؟ أنظر إلى هذا الفتى الذي رباه أبواه على الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ونشأ وترعرع في كنف التقوى والورع وقراءة القرآن…الخ ثم إذا هو في الجو الجامعي الجديد وفي بلاد تختلف فيها القيم (حتى لا أقول في بلادنا… الإسلامية!) يتحول إلى شاب آخر، تختلف في ذهنه بل وفي نفسه كل القيم والمعايير، ويتبعها سلوكه بالضرورة. أوَ لم يشِرْ إلى هذا من قَبلُ شاعر العربية أبو الطيب المتنبي بقوله:
أرى الآباءَ تَغْلِبُها كثيراً على الأبناءِ أخلاقُ اللئام؟
غير إنك ترى هذا الفتى في بلاد الغرب مثلاً يحرص على التقيد بإشارات المرور ولا يبصق في الشارع (عفواً) ولا يلقي بالقمامة من سيارته كيفما اتفق وترى بالمقابل الفتى (الغربي) الذي اعتاد على فعل (الأصول) في بلاده لا يتورع مع الزمن من مخالفة قواعد المرور مثلاً، في بلادنا، فما الذي يحدث لهذين الشابين؟ كلاهما يتأثر بالنظام العام السائد حيث هو موجود فيتأقلم مع النظام تدريجياً ويجرفه موجه، فينطبق عليه بذلك المثل الإنجليزي القائل: (عندما تكون في روما فافعل ما يفعله أهلها).
وليعذرني القارئ الكريم، فأنا لا أقصد إننا في بلادنا ندعو إلى التساهل مع الجانحين والمخالفين، أو نغض النظر عن المارقين! معاذ اللهّ! فذلك أبعد ما يكون عن القصد؛ غير أن هذه الممارسات الخاطئة لا تجد في العرف والرأي العام قوة كافية تحول دون وقوعها على الرغم من العقوبات التي توقعها الدولة بمرتكبيها. ثم أن قوة استهجان مثل هذه الممارسات في (البلاد الأخرى) لا تعني أنها ـ أي الممارسات الخاطئة ـ لا تقع عندهم إلا أن وقوعها يعتبر استثناء، كما أن الفرق كبير جداً بين الاستهجان بالقلب والرفض العملي الجاد المانع.
أما على مستوى التغيير الجذري في المجتمع، فالأمر أكثر وضوحاً؛ ودليلنا ـ بمنظار الإسلام ـ السيرة النبوية الشريفة، فهي وإن كانت نبوية إلا أنها جعلت مثالاً بشرياً يحتذى نظراً لطبيعتها البشرية والعملية في تسلسلها. فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمضى ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس في مكة إلى الإسلام. ولم يظفر بطائل، ولم يزدد المجتمع المكي إلا تحجراً، اللهم إلا إسلام أفراد ثبتوا على الحق واحتملوا الصعاب بشكل استثنائي؛ لم يتغير في جوهر المسيرة شيء ذو بال حتى كانت بيعة العقبة الأولى وفيها غير موقف ستة من رجال يثرب مجرى التاريخ؛ باحتضانهم وتعهدهم بذرة الدعوة الإسلامية، وتهيئة المناخ الملائم لها في المدينة المنورة، فيسر الله على يدي مصعب بن عمير فتح يثرب فتحاً ثقافياً إسلامياً ليهاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد، ويقيم دولة الإسلام الأولى، وييسر له (فيما بعد) فتحاً عسكرياً مبيناً للقرية التي أخرجته، مكة.
بذلك فقط تغير مجتمع المدنية وبذلك تغير المجتمع المكي، وعندئذ فقط أمكن للدولة الجديدة أن تحطم أصنام الكعبة بعد أن تهاوت طواغيت الكفر من حولها، وأن يكون كل ذلك تتويجاً (للضوء الأخضر)، والإذن الإلهي الكريم: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ @ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ).
1988-07-04