العدد 371 -

السنة الثانية والثلاثون، ذو الحجة 1438هـ،، الموافق آب/أيلول 2017م

مدلول الشهادتين (2): العبادة تبع للإيمان

مدلول الشهادتين (2)

العبادة تبع للإيمان

 

ضعف القيام بالعبودية وقوته تبع لضعف الإيمان بـ (لا إله إلا الله) وقوته:

إن الإيمان بمقتضى (لا إله إلا الله) هو الذي أدى إلى الإيمان بالله المعبود الحق، وأدى إلى فرض القيام بالعبودية، ويكون العبد بمجرد شهادته بأن (لا إله إلا الله) قد التزم بالإيمان بأن الله وحده هو الإله الحق، وأن غيره من الآلهة باطل، والتزم بأن عليه أن يمارس القيام بطاعة ربه والخضوع له والتذلل إليه وحده. وعليه، فإن العبادة أمر مترتب على الإيمان بالله إلهًا حقًا، وعلى مقدار قوة الإيمان وصدقه تكون قوة العبادة وصدقها. أي إن أي خلل يطرأ على العبادة؛ فإنه لا بد أن يجد تعليله في الإيمان؛ فتعالج العبادة من خلال معالجة منطقة الإيمان؛ فإذا صح الإيمان صحت العبادة، وإذا صدق الإيمان صدقت العبادة. وإذا مرض الإيمان واهتز ضعفت العبادة واهتزت… هذه العلاقة بين الإيمان والعبادة أقرها الإسلام، وربط القرآن بينهما ربطًا وثيقًا. فمن لا يتقيد بأوامر الله من المؤمنين، فمرد ذلك إلى ضعف إيمانه.

 قال تعالى: ( أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ).

وقال تعالى: ( لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ ).

وقال تعالى:( إِنَّمَا يَعۡمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ يَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِينَ ).

وقال تعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ).

وغير ذلك من الآيات كثير، وكلها تبين أن الطاعة والعبادة والتقيد وتحكيم الشرع، وغيرها مما هو من مثلها،  تبع للإيمان. لذلك كان من الخطأ تصور أن حالة المسلمين التي تجب معالجتها هي الفساد والفسق والفجور والفحشاء والمنكر والبغي والذل والخزي والهوان والمعاصي والموبقات… بعيدًا عن معالجة منطقة الإيمان. فهذا التقصير، وهذه المعاصي التي يقع بها عامة المسلمين إنما هي نتيجة لدخول دخن إلى منطقة الإيمان، أو لضعفه… والذي يجب معالجته لدى المقصر العاصي هو السبب، وهو إيمانه، فإن كان على غير إيمان أُقنع بالإيمان ومن ثم طلب منه الالتزام. وإن كان التزامه غير صحيح نُبـِّه إلى الجانب المتعلق بالإيمان والمرتبط بمعصيته، وعلى سبيل المثال، إذا أهمل المسلم القيام بفرض العمل لإقامة حكم الله، نُبه إلى الآيات التي تربط الحكم في الإسلام بالعبادة. من مثل قوله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ). وقوله تعالى: ( إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ). فالحديث عن الإيمان هو الذي سيدفع المسلم للالتزام محبةً بالله، ورغبةً في جنته بطاعته، وخوفًا من عذابه بسبب معصيته وتركه العمل لإقامة فرض الخلافة. وإن ذكر مثلًا أن حكم الله يأتي كنتيجة طبيعية للقيام بعبادة الله وطاعته بالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وغيرها من أحكام الإسلام الفردية… لفت نظره إلى وجوب التأسي بالرسول في كل الأعمال، وهذا متعلق بالإيمان بالرسول من حيث وجوب إفراده بالطاعة والخضوع والتشريع، وهو مقتضى الإيمان بالشق الثاني من الشهادتين، وهو: (محمد رسول الله). ووجوب التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي وجوب القيام بمثل فعل الرسول، وعلى وجهه، ولأجله. أما القيام بمثل فعل الرسول، فهو القيام بالأعمال نفسها التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إقامة دولة الإسلام التي هي تحكم بالإسلام. أما على وجهه، فهو القيام بهذه الأعمال على الوجه الذي كان يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما كان منها واجبًا على أنها واجبة وهي القيام بالأعمال التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وكان من شأنها أنه أقام بها دولة الإسلام، وهي ما تعرف بأحكام الطريقة، وهي أحكام ملزمة. وما كان مباحًا فيقام به على وجهه من الإباحة، وذلك من مثل الوسائل والأساليب التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يقوم بأعمال الطريقة من مثل أنه عندما قام بالثقافة المركزة في مكة للمؤمنين معه وهذه من أحكام الطريقة؛ اتخذ لذلك أساليب منها تدريسه لهم في بيت الأرقم بن أبي الأرقم، وفي بيوت بعضهم كما حدث مع أخت عمر بن الخطاب وزوجها حين دهمهم عمر وكانت سبب هدايته، أو في الشعب حيث كانوا يتدارسون ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن أعين كفار قريش خوفًا من الأذى. أما لأجله، أي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحديدًا فعله، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر الله المسلمين بطاعته مطلقًا. وهذا يكون له ولا يكون لغيره، قال تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ) وقوله تعالى: ( وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ) وهكذا يكون التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمر الله تعالى به بقوله تعالى: ( لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ).

وقولنا هذا لا يعني أن الالتفات إلى منطقة الإيمان عند المعصية عدم وجود الإيمان؛ بل الإيمان موجود؛ ولكنه يعني أنه ضعيف، ويحتاج إلى تقوية بحيث يدفع إلى الالتزام. فالعقيدة موجودة لدى كل المسلمين، فكل المسلمين يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله اليوم الآخر والجنة والنار… ولكن كم هي هذه العقيدة حاضرة في قلب المسلم ومنعكسة على جوارحه؟! فهنا الموضوع؛ لذلك تقوم دعوة الإسلام أول ما تقوم على العقيدة بالنسبة للكافر، وعلى الاطمئنان إلى منطقة العقيدة لدى المسلم العاصي أو المقصر… حتى الكافر فإن أول ما يبدأ معه في الدعوة هو الإيمان، ومتى دخل في الإيمان دخل في الالتزام؛ إذ مقتضى الإيمان أنه آمن بالله ربًا خالقًا ومدبرًا، وبالتالي عليه أن يطيعه في تنظيم شؤون حياته… وهذا ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: “أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول الأمر: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، ولو نزل أول الأمر: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدًا. أُنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جارية ألعب: ﴿ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ ﴾ وهي من سورة القمر، وما نزلت البقرة والنساء إلا وأنا عنده في المدينة” أخرجه البخاري. وعن جندب بن عبد الله قال: “كنا غلمانًا حزاورة (الحزوّر: وهو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وقارب البلوغ) مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فتعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا، وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان.من صحيح ابن ماجة.

هذا هو منطق القرآن الواضح؛ إذ إن أي عمل يقوم به المسلم إنما يقوم به طاعة لله، والطاعة مصدرها الإيمان؛ حتى إن المسلم، وإن كان مطيعًا لله بظاهره، ولكنه لا يقوم بطاعته هذه على أساس الإيمان بالله؛ فإن طاعته هذه ليست طاعة لله، ويكون عمله محبطًا، ويوضح هذا الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”. متفق عليه .

هذا ما على أهل الدعوة أن يلحظوه في دعوتهم؛ فالمسلم مأمور شرعًا بالإيمان وبالالتزام، الإيمان أولًا ثم الالتزام، ويعتبر الإيمان هو الأساس، ويعتبر الالتزام هو مما يقتضيه الإيمان، ولا يقبل الله التزامًا من غير أن يقوم أساسه على الإيمان. فالمسلم عندما يصدق يجب أن يصدق لأن الله أمره بالصدق وليس لأي اعتبار آخر، وهذا ما يجعل الالتزام بالصدق ثابتًا، وكذلك هو عندما يجاهد، وعندما يتصدَّق، وعندما يصلي ويصوم ويتزوج، وعندما يقوم بأي عمل يجب أن يكون عمله هذا قائمًا على طاعة الله، وكذلك عندما يدعو إلى إقامة دولة إسلامية؛ فإن دعوته هذه يجب أن تقوم أول ما تقوم على الإيمان بالله، وأنه يبغي من دعوته هذه أن يرضي الله، وأن ينال رضا العيش في رحاب الطاعة، ويبغي نشر دين الله وإدخال الناس عن طواعية في الإسلام، ويبغي إقامة حجة الله على سائر الأديان والمبادئ ( هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ ) ويبغي من دعوته كذلك، وكأساس، أن يدخله الله الجنة ويباعده عن النار باعتبار أنه فرض والقيام بالفرض في الإسلام من شأنه أن يؤجر عليه، وعدم القيام به من شأنه أن يأثم بتركه.

ثم إن الدعوة إلى إقامة دولة الخلافة هي دعوة تؤدي إلى شمول العبادة لله تعالى في كل أمور الحياة، فالإسلام دين حياة، وعبادته شاملة لكل أحوال الإنسان، ولا تتحقق العبودية فيه إلا من خلال دولة.

وهنا لنا وقفة مع واقع العبادة التي يحتمها الإيمان بالله الذي جاء به الإسلام، وما يحتمه من الشمول. فالعبادة أصلًا معناها الذل والخضوع، يقال طريق معبد إذا كان مذلَّلًا للسير ومهيَّأً لوطء الأقدام، والخضوع الذي نحن مأمورون به هو الذل في كل ما يجب أن يُذَلَّ به لله، ويُتعبَّد له، ولا يتأتى هذا إلا بالقيام بجميع أوامر الدين ونواهيه، فكانت العبادة هي مجموع الدين لأنها لا تتحقق إلا بالقيام بالدين كله.

والدين كذلك يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال دنته فدان، أي أذللته فذل. ويقال يدين الله ويدين لله، أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له والذل إليه، ومن هنا كان الدين كله هو مناط العبادة كلها. وبه كله تتحقق العبادة كلها؛ فلا بد إذًا من ممارسة كل الدين ليتأتى تحقيق كل العبادة، وتحقيق الخضوع والذل والطاعة الكاملة لله.

من هنا، فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والطهارة، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والجهاد، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والدعاء، والذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير والعدل، وترك الفحشاء والمنكر والبغي، وحب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر على أمره، والشكر لنعمائه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، ورجاء رحمته، والخوف من عذابه، وأحكام الاقتصاد، والاجتماع، وأحكام السياسة والإمامة، وأحكام الحيض والنفاس، وأحكام الجنائز والأضحية والشفعة والإجارة والبيع والنكاح والطلاق، وأحكام الرهن… كل ذلك وغيره  هو من العبادة لله. والذي يطلب منه أن يقوم بهذه العبادة كلها هو العبد، والعبد هو المعبَّد الذي عبَّده الله فذلَّله وهيَّأه لطاعته، فمجرد تسميته عبدًا يعني أنه مذلَّل للطاعة في كل ما هو طاعة. فليس من طاعة إلا والعبد قد ذُلِّل لها، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فما أمر الله به العبد ونهاه عنه فهو مذلَّلٌ للقيام به خير قيام. وحتى يحقق العبد العبودية فلا بد أن يُذلِّل نفسه ويُخضع ذاته لكل ما ذلَّله الله وأخضعه له وأمره بطاعته به. فكل فرض عين، سواء أكان فرضًا اعتقاديًا أم فرضًا عمليًا، أمر الله به عبده وأطاعه فيه. وكل فرض كفاية ارتبط بذمته القيام به، كان على المسلم أن يقوم به امتثالًا لعبوديته لله.

ومن هنا، فإن العبادة إذا كانت اسمًا جامعًا لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، وإذا كان الدين اسمًا جامعًا لجميع ما يُعبَد الله به. وإن العبد إذا كان المراد به المعبَّد المذلَّل لكل طاعة لله منه؛ فإن القيام بالعبادة للفرد يقتضي معرفة كل الفروض العينية القلبية التي ربطها الشارع بذمة الفرد إيمانًا وتصديقًا، ثم معرفة كل الفروض العينية الصفاتية والجوارحية التي ربطها الشارع أيضًا بذمة الفرد اتصافًا وعملًا، ثم معرفة كل الفروض الكفائية التي تتصل بذمة الفرد ويتوجب عليه المساهمة بها.

هذا هو واقع العبادة التي يرتبط بذمة الفرد المسلم أن يقوم بها تبعًا لإعلانه شهادة (لا إله إلا الله). فأن يختار العبد التذلُّل لله في العبادات دون الأخلاق، أو أن يختار التذلُّل لله في المطعومات والملبوسات دون المعاملات… أو أن يختار التذلُّل في العبادات دون العقائد، أو التذلُّل في بعض العقائد دون بعض، وفي بعض العبادات دون بعض… فهذا فيه نقص وتفريط، ويتعارض مع مفهوم شمول العبادة، ولا ينجي المسلم يوم الحساب، ويخرج بالإسلام من دائرة المبدئية الشاملة التي تطال أفكارها وأنظمتها كل شؤون الإنسان في هذه الحياة.

فالمسلم من استسلم قلبه لله وحده في كل ما يجب عليه الإيمان به، والمسلم كذلك من استسلمت جوارحه لله وحده في كل ما يجب عليه القيام به من أفعال وأقوال وتصرفات. أما أن يفهم العبد أنه يكفيه أن يدرك معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) على هذا الوجه الناقص، ويكتفي بالالتزام به وتبليغه وتعليمه على هذه الصورة، فهذا النقص لا يقبل منه، وسيحاسب عليه بمقدار ما يفرط به، وهذا فيه غفلة عن حقيقة رسالة الإسلام، ويؤدي إلى ضياع الدين، وترك المجال لأحكام الكفر أن تحتل مساحة الفراغ الذي أحدثه هذا الفهم الناقص. من هنا فإن ما نراه من التزام عند المسلم بأحكام العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة… والقيام بأحكام القربات من قراءة للقرآن وقيام لليل وتلاوة للأذكار، والقيام بالاستغفار وبفضائل الأعمال ومكارم الأخلاق… ومن ثم يبرز بين الناس على أنه على منهاج النبوة، وأنه مكتمل العبادة، وأنه أسوة… فهذا يعطي صورة غير صحيحة عن العبودية الحقة التي جاء بها الإسلام، وصورة غير صحيحة عن المسلم الحق، فالعبودية الحقة هي التي تعطي تصورًا كليًا عن الكون والإنسان والحياة، وتشمل بأوامرها ونواهيها تنظيم  كل أعمال الإنسان من عبادات وأخلاق ومطعومات وملبوسات ومعاملات بالنسبة للفرد المسلم، ومن أحكام الدولة الإسلامية؛ لأن الدولة في الإسلام هي حكم شرعي واجب مناط به تطبيق الإسلام في الحياة، ومناط به تطبيق أحكام شرعية لا تطبق إلا بوجوده، وإذا فقدت هذه الدولة تعطلت هذه الأحكام، أي تعطل جزء كبير من الإسلام، والدولة مناط بها تبليغ الإسلام ونشره إلى الناس جميعًا، وإظهاره على الدين كله، وهذا لا يكون إلا بوجودها، فهي التي تواجه الدول بالجهاد الذي هدفه نشر الدين، صحيح أن الأفراد واجب عليهم كأفراد أن يقوموا بالدعوة إلى الإسلام، وهم يقومون به، وصحيح أن المسلمين يجوز لهم أن يقوموا بالجهاد، جهاد الدفع، بغياب الدولة، ولكن هناك حكم الدعوة لنشر الإسلام التي لا يمكن أن يقوم به إلا الدولة الإسلامية.، وهناك أحكام في الجهاد لا يمكن لأحد من المسلمين أن يحل محل الدولة الإسلامية فيها. وعليه فإن ما يؤمن به المسلم كفرد، من إيمان بالله وملائكته ورسله… وما يقوم به من أحكام شرعية فردية عينية أو كفائية جماعية ارتبطت بذمته ووجب عليه القيام بها، فإنما يشكل تطبيق الفرد المسلم لها تطبيق جزء من الإسلام، وإذا اعتبرنا أن الحكم الشرعي المتعلق بالعمل لإقامة الدولة الإسلامية وهو فرض كفائي، هو جزء من فروض الكفاية، وأن علينا الالتزام بكل فروض الكفاية…إذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار؛ عندها يكون الفهم صحيحًا والالتزام شاملًا. ومعلوم أن فروض الكفاية هي كفروض العين من حيث وجوب إيجادها، ومن حيث ترتب الإثم على عدم السعي لها وإيجادها بالفعل.

من هنا كانت العبادة في الإسلام لا يقتصر ميدانها على جانب دون آخر، بل هي تشمل ميادين الحياة كلها، وهذا يعني أن حياة المسلم قد ملأتها العبودية من جميع جوانبها، ودخلت في كل ميادين الحياة، وتناولت كليات الشريعة وجزئياتها.

وإزاء ذلك، وجب على كل مسلم أن يراجع نفسه، ويسد نقصه، قبل أن يلاقي ربه. ووجب على حملة الدعوة إلى الله، أن يجعلوا هذا هو منطلقهم في حمل الدعوة، وخاصة الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية؛ فلا يدعون لإقامة الدولة الإسلامية قبل الدعوة إلى الأساس وهو الإيمان بالله الخالق المدبر، وإلى وجوب عبادته في كل أمر، ومن ثم لا تكون هذه العبودية شاملة من غير وجود دولة إسلامية تحققها بما تقوم بتطبيقه من أحكام شرعية منوطة بها حصرًا. هذا هو الطريق الأوحد لتحقيق العبودية الشاملة لله وحده، ومن غريب الأمر أن يكون هذا المعنى غائبًا عن أذهان المسلمين اليوم. وبدون هذا الفهم لا تؤدَّى الدعوة إلى الإسلام بشكلها الصحيح، ثم أليس هكذا كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء االراشدون من بعده، ألم تكن دولة الإسلام هي جزء من دينهم ومن حياتهم على مختلف عصورهم… إلى أن هدمت هذه الدولة عن سابق تصور وتصميم من الغرب، الذي كان وما زال يريد ضرب مفهوم العبودية الشامل الصحيح، والذي أتبعه بفرض مناهج للتعليم تتناقض مع مفهوم العبودية الشاملة، والذي خرَّج علماء اليوم على أساس منها، فأصبحنا نرى العلماء قبل غيرهم هم أول المتأثرين بذلك، بل إن شهاداتهم الشرعية إنما حازوا عليها بحسب هذا المناهج؛ ومن هنا وجب على كل عالم قد تخرج من هذه المعاهد أن يراجع علمه، ويستدرك أوجه النقص فيه، وأن يتحول إلى عالم ربانيٍّ ويقوم بالدعوة إلى الله على الطريقة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم لا التي فرضها الغرب علينا، والذي أوجد بموجبها علماء من جلدتنا؛ ولكن يتكلمون على طريقته في فهم الإسلام.

..يتبع

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *