العدد 369 -

السنة الثانية والثلاثين، شوال 1438هـ، الموافق تموز 2017م

كلمة العدد: الغرباء

الغــرباء

 

أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأمر المسلمين جميعًا في كل أصقاعهم وأعصارهم أن يكونوا على سيرة رسولهم في تطبيق الإسلام ونشره. وقد فهم الرعيل الأول هذه المهمة السامية وقاموا بها خير قيام؛ فكانوا خير القرون بشهادة رسولهم الكريم، وكيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم كان بين ظهرانيهم؟! ثم هو صلى الله عليه وسلم طلب من المسلمين من بعده أن يكونوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الزمان، فكانت الخيرية في هذا التأسي والضمان في هذا الالتزام…

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، أخبر في حديث صحيح أنه تمر على الأمة حقبات من تطبيق الإسلام، ولو استعرضها المسلمون لوجدوا أنها قد انطبقت على واقعهم تمام الانطباق. فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح، والذي روي بصيغ مختلفة تجتمع جميعها على ما ذكر في هذا الحديث: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله…» أخرجه أحمد. فالمسلمون، على مر تاريخهم مروا في كل هذه الحقبات، الواحدة تلو الأخرى: من زمن النبوة إلى زمن الخلافة الراشدة التي كانت على منهاج النبوة، إلى زمن الملك العاض الذي تحول الحكم فيه إلى وراثة وولاية عهد، إلى زمن الحكم الجبري الذي يحكم المسلمين بالقهر والحديد، والذي يعيش المسلمون اليوم تحت وطأته ويكتوون بظلمه، وبقيت الحقبة الأخيرة التي يتطلع المسلمون إلى تحقيقها، وهي زمن الخلافة الراشدة الثانية التي تكون على منهاج النبوة…

وهذه الحقبة الأخيرة (حقبة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة) فإننا نرى إرهاصات تبشر بقرب حلولها، ويعيش المسلمون اليوم حالة مخاضها، ويشهدون مرحلتها الانتقالية؛ لذلك فهي تتطلب من المسلمين حسن التأسي وحسن السير على طريقة رسولهم، والعبُّ من نفس الينابيع التي عبَّ منها الأوائل؛ ليتمكن المسلمون من الخروج من المآزق التي يعيشونها اليوم من جرائم بحقهم ومن فقر وقهر وتنكيل، والتي لا سبيل للمسلمين للخروج منها ومن زمن الحكم الجبري إلّا بعد إقامة الخلافة الراشدة الثانية التي تكون على منهاج النبوة.

وفيما يلي سنستعرض طائفة من الأحاديث التي نراها تنطبق على واقعنا اليوم والتي تشير بوضوح إلى الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسلمون أفرادًا وجماعات أثناء سيرهم باتجاه إقامة الخلافة الراشدة الثانية، موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمل خلاص المسلمين في هذه الفترة:

1- أخرج الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الإسلام بدأ غريبًا، ويرجِع غريبًا، فطوبى للغرباء، الذين يُصْلِحونَ ما أفْسَد الناس بعدي من سُنَّتي».

2- وأخرج أحْمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى للغرباء»، قلنا: وما الغرباء؟ قال: «قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعهم».

3- وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحب شيء إلى الله الغرباء»، قيل: ومن الغرباء؟ قال: «الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى بن مريم عليه السلام يوم القيامة». وفي لفظ آخر: «الفرَّارون بدينهم، يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم».

4- وعن عبد الله بنِ مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء»، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «النُّـزَّاع من القبائل».

5- وروى البيهقي: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ. فطوبى للغرباء»، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يُحيون سنتي، ويعلمونها الناس».

6- وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعًا: «إن لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه». فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله، صفهم لنا، جلِّهم لنا. قال: «قوم من أفناء الناس، من نُزَّاع القبائل، تصادقوا في الله، وتحابُّوا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابرَ من نور، فيجلسهم، يخاف الناس ولا يخافون، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

7- وأخرج ابن أبي شيبة، عن العلاء بن زياد عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «هؤلاء كانوا يتحابُّون في الله على غير أموال تعاطَوها، ولا أرحامٍ كانت بينهم».

يلاحظ أن هذه الأحاديث تخبرنا عن وجود فترتين متشابهتين تمر بهما الأمة الإسلامية، يكون الإسلام فيهما غريبًا، وهي فترةُ الإسلام الأولى التي بدأت مع الرسول صلى الله عليه وسلموذلك من قوله «بدأ الإسلام»، وفترةٌ لاحقةٌ ستمر على الأمة شبيهة بها، وهذه الفترة يظهر أننا نعيش مثلها.

ويلاحظ أن هذه الأحاديث هي لإرشاد المسلمين لما يجب عليهم فعلُه، ولتثبيت من يسير على الدرب نفسِه. فنصوص هذه الأحاديث جاءت إخبارًا يتضمن المدح، فهو يفيد الطلب. ولما كان ما يقوم به هؤلاء الغرباء هو فرض؛ فيكون الطلب مفيدًا للوجوب.

ويلاحظ أنهم قليل في كثير؛ وذلك بقوله: «غرباء» وبقوله: «قومٌ صالحون قليلٌ في ناسِ سوءٍ كثير» فهؤلاء الغرباء لقلتهم في الناس جدًّا سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير صفاتهم.

 ويلاحظ أنها تكون غربة مع الناس بينما هي قربة من الله؛ وذلك لأنهم يقومون بما يقرِّبهم من الله سبحانه وتعالى، لقوله: «الذين يُصْلِحونَ ما أفْسَد الناس بعدي من سُنَّتي» «قوم صالحون» «الفرَّارون بدينهم، يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم». أما قوله: «يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم» فيذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه أبي نُعَيمٍ في الحلية: «ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء مضلون يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، إن أطعتموهم أضلوكم، وإن خالفتموهم قتلوكم»، قالوا فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: «كما فعل أصحاب عيسى، نُشِروا بالمناشير، وصُلِّبوا على الخُشُب، والذي نفس محمد بيده، لموتة في طاعة الله، خير من حياة في معصيته».

فقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «بدأ الإسلام غريبًا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم على ضلالة عامَّة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة، وكان المستجيب له خائفًا في عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الإيذاء، ويُنال منه وهو صابرٌ على ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يُطرَدون ويُشرَّدون، ويفِرُّون بِدِينِهم إلى البِلاد النَّائية، كما هاجروا إلى الحبشة مرَّتَيْنِ فرارًا من الفتنة عن الدين، ثُمَّ هاجروا إلى المدينة لإقامة دولة الإسلام، وكان منهم مَن عُذِّب في الله، ومنهم مَن قُتِلَ، فكان الدَّاخِلون في الإسلام حينئذٍ غُرَباء. وهذا هو تحقيق قوله تعالى: (وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦) فهؤلاء هم أهل الله حقًّا، فلا غربة عليهم من الله ورسوله، وإنما غربتهم بين الأكثرين من الناس. وهؤلاء لم يأوَوا إلى غير الله. ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يدعوا إلى غير ما جاء به.

ويلاحظ أنه أعطى مرتبة للفريقين بقوله: «يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه». وأعطى وصفًا لهم بقوله: «قومٌ من أفناء الناس، من نُـزَّاع القبائل». من أفناء الناس تعني أَخلاط من مختلف البلاد. ونُـزَّاع القبائل هم الذين يخرجون من بين جمع قومهم يتفردون عنهم بهذه الدعوة، كما كان المهاجرون نُزَّاعًا… يتفلتون من ديارهم ومن أقوامهم ومن عشائرهم، ويهاجرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

عندما طرحنا في حزب التحرير ما طرحه السابقون الأوائل، وتأسَّينا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي أُمر المسلمون جميعًا بالتأسي به، ولم يتأسَّ به غيرنا في فهم الإسلام في حمل دعوته؛ وذلك بالسير على نفس طريقته في إقامة الدين؛ وتبنَّينا ما تبناه من طريقة فهمه للإسلام على نفس طريقة الرسول وقرنه «خير القرون قرني»… عندها وجدنا أنفسنا غرباء بما طرحناه، وأصبحت مفاهيمُنا ومقاييسُنا الشرعية وتقييماتُنا للواقع وللحكم عليه على غير ما عند الناس، وشعرنا بالغربة حينما كان الناس لا يقبلون مفاهيم الإسلام الصحيحة… وأصبحنا أفناء في الناس أَخلاطًا من مختلف البلاد، أصبحنا كنزاع القبائل الذين يخرجون من بين جمع قومهم يتفردون عنهم بهذه الدعوة، كما كان المهاجرون الأوائل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

 وعندما أنشأ الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، الحزب، كان المسلمون بعامتهم وعلمائهم وحركاتهم قد شغلهم كفارُ الغرب بمصائبَ كثيرةٍ، منها تقسيمُ بلادهم، وإبعادُ شريعتهم عن الحكم، وتضييعُ الأرض المباركة وتسليمُها لليهود، وإشغالُهم بقضايا القومية والوطنية، ونشرُ فكرة فصل الدين عن الدولة، واللعبُ بمفاهيم الإسلام بشكلٍ يجعلُه يُفهم على الطريقة الغربية، وربطُ حياة المسلمين بطريقة عيشه، وزرعُ فكرة المصالح بينهم… فضاعت طريقة الإسلام الصحيحة في المعالجات، وصار المسلمون، علماءُ وحركات، يلتمسون الشفاء من وصفات الغرب للعلاج، فقاموا بإنشاء حركات قائمة على ردات الفعل، وعلى المشاعر، وعلى تحقيق الأهداف القريبة… لذلك عندما قام الحزبُ وجعل هدفَه استئنافَ الحياة الإسلامية، وجعل طريقتَه لذلك إقامةَ الخلافة الراشدة، بطريقة رسول الله، وهو هدفٌ بعيد، ويتطلبُ التغييرَ الجذري، وتبنى طريقةَ فهم الإسلام الصحيحةَ والوحيدةَ في فهم الدين، وهو ما كان بَعُدَ عنه المسلمون بعلمائهم وحركاتهم، وتبِعَهم عامتُّهم في ذلك، واستعاضوا عنها بالطريقة التي أرادها الغرب لفهم الإسلام… ظهر غريبًا في طرحه، وزاد من غربته أن هؤلاء العلماءَ، بدفعٍ من الغرب، راحوا يهاجمون طريقةَ فهم الإسلام الصحيحة، وينعِتون الحاملين لها بالجمود، وراح هؤلاء العلماء ينعِقون وراءهم بالقول إن الشريعة مرنةٌ ومتطورةٌ، ولا ينكَر في الإسلام تغيرُ الأحكام بتغير الزمان والمكان، وإنه حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله… وهذه العقليةُ الجديدةُ لعلماء ومسؤولي الحركات الإسلامية المتأثرين بالعقلية الغربية راحت تتأثر بالواقع وتستمد حلولهَا منه، وأصبح الواقع مصدر التفكير عند هؤلاء وليس الشرع. وكان من آثار ذلك، قيام دعوات إصلاح الواقع وترقيعه وليس تغييره؛ وذلك من مثل إيجاد الدعوات الأخلاقية والخيرية… هنا بدا البونُ شاسعًا في العمل والنظرة إليه بيننا وبينهم… وظهر الحزبُ غريبًا في فكره، يلتحق به القلة من المؤمنين كنزاع القبائل. فطرحُ الحزب لنفسه على أساس أنه لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ جعله يبدو غريبًا في دعوته، جملة وتفصيلًا:

وعندما طرح الحزب أن الحل لجميع مشاكل المسلمين هي الخلافة كان وحيدًا في طرحه، وللأسف ما زال وحيدًا في طرحه، وفي الطريقة التي فهم بها هذا الطرح، وكان هذا الطرح بعيدًا عن أذهان العاملين في إصلاح أمر المسلمين الذين قامت دعواتهم السياسية على المطالبة بالمشاركة في الأنظمة السياسية القائمة، أو راحت تعتبر الحاكمَ وليَّ أمرٍ تجبُ طاعتُه ويحرم الخروجُ عليه، وهذان شكلان من أشكال فصل الدين عن الدولة… وفوق بُعْدِ هذه الحركات عن الفهم الشرعي الصحيح وتأثرِها بالغرب راحت تهاجمنا لتزيد من غربتنا. وكذلك، فإن مما أكد غربةَ الحزب أنه لم توجد حركةٌ إسلاميةٌ عاملةٌ أخرى تشاركه في همه وفهمه.

وعندما طرح الحزب أنه لا بد لكل عمل من دليل، كان علماء المسلمين وحركاتهم يتفلتون من الدليل بحجج وأفهام ما أنزل الله بها من سلطان، فعندما طرحنا أن الخلافة هي الحل الجذري لكل مشاكل المسلمين، وأن إقامتها تجعل المسلمين على طريقة رسولهم من إقامة الدين ونشره، وتمكنهم من التخلص من استعمار الغرب لهم، وتقضي على كل المشاكل التي يقع فيها المسلمون جراء عدم تطبيق الشرع… كانوا يقولون وهل نسكت على الظلم وننتظر الخلافة، وراحوا يتفلتون بتشريع ما يغضب الله سبحانه ويغير أحكامه على النقيض تمامًا؛ حيث أجازوا التعامل بالربا كونه من العلاقات التي تقوم عليها المعاملات ولا يمكن تجنبها، ووجدت أحكام تجيز للمسلم حتى أن يكون جنديًا في بلاد الغرب، يقاتل في سبيل تحقيق أهداف دولته التي حصل على جنسيتها، حتى ولو تطلبت قتال المسلمين، كما حدث فعلًا في أفغانستان وفي العراق… وحتى أجازت له أن يشارك في انتخاباتهم… وكثيرة هي الأمثلة، ولا يتسع الوقت لتعدادها.

هذه الغربة، صحيحٌ أنها شديدةٌ على النفس من ناحية العلاقة مع المسلمين، ولكنها مطمئنة من ناحية العلاقة مع الله؛ إذ على هذه الدعوة تمامًا تنشأ سيرة الدعوات الصادقة، دعوة الأنبياء. والتغييرُ الذي تسعى إليه هو التغييرُ الذي يرضي الله، التغييرُ الجذريُّ الذي يكون الحكمُ فيه لله وحده، التغييرُ الذي يقيم دولةً مبدئيةً كالدولة التي أنشأها الرسول أول مرة.

وهنا لا بد من لفت النظر أن مثل دعوتنا تختلف حسابات النصر عندها عما عند غيرها كل الاختلاف. وهذا مما لا يدركه أحد غيرنا، فقد نرى نحن أن دعوتنا ناجحة كل النجاح ولا يرى غيرنا ذلك، فيقول لنا أين أنتم؟ ماذا عندكم من مؤسسات؟ أو من نواب؟ أو من وزراء؟… فيحكم علينا بالفشل لأنه يقيس بميزان أفكاره وطريقة تفكيره، وهو ميزان غير شرعي،… بينما نحن نحكم على عملنا من خلال المفاهيم والمقاييس الشرعية المنضبطة. ونحن نحكم على عملنا الآن بأنه ناجح، وأنه قد قطع شوطًا بعيدًا، وأنه نجح حيث فشل الآخرون، فما وضعناه لأنفسنا من أهداف مرحلية قريبة قد تحققت إلى حد بعيد، ولم يبقَ منها إلا النذر اليسير، فقد تحقق لنا، بفضل الله وعونه وتوفيقه، وجود كتلة فاهمة للفكرة هاضمة للطريقة، وتحقق لنا وجود رأي عام كاسح للخلافة، ووجد تململٌ عامٌ لدى أهل القوة من هذه الأوضاع المأساوية التي يمر بها المسلمون؛ لذلك زادت الأنظمة ضغطها ومن وتيرة تخويفها لهم. والأمة تنتظرهم، بل قل تنتظر من ربها أن يأتي أمره، تنتظر تدخلًا ربانيًا ينقذ بهم الأوضاع.

وهناك أمر لا بد من لفت النظر إليه، وهو أن الصحابة مع رسول الله كانوا يقومون بأمر الله من غير أن يعلموا أنهم يسيرون على طريقة كذا، أو هكذا تكون مراحلها وخطواتها، بل كانوا يسيرون كما يسير بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… أما نحن فنعلم، ويجب أن نعلم؛ حتى ننضبط بأحكام الطريقة الشرعية؛ فلا نغير فيها نتيجة الضغوط المادية الشديدة علينا، بل نصبر على أحكامها ونلتزم عدم الحيد عنها قيد أنملة. ونحن من هذه الزاوية نستطيع أن نعلم ماذا حققنا وماذا قطعنا، وماذا بقي لنا، ولكن لن نستطيع أن نعلم متى نصر الله (زمانه) فقد ذكر القرآن الكريم في ذلك: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤)، ولا أين (مكانه)، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقد أُريت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان»؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرفها إلا بعدما أخبره الوحي بمكانها… وعليه فنحن اليوم في حالة انتظار للفرج والنصر على ما نعلم من فقه سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن هنا نقول إنه لم يعد بعيدًا، والأمر كله بيد الله العليم الخبير.

بعد كل هذا الكلام، نصل إلى لب المقصد، وهو أنه يمكننا أن نحكم على هذه الأوضاع الشديدة التي يمر بها المسلمون أن أجواءها أجواء نصر إن شاء الله. فهذه الأوضاع المأساوية التي نعيشها إنما هي بسبب ديننا، ويمكن القول إنها أجواء الشدة والصبر التي تسبق النصر، وأجواء الكرب التي تسبق الفرج،  والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا». وهذه الأوضاع الشديدة مرت بمثلها دعوات الرسل والأنبياء من قبل، وهذا دليلٌ على صدقها، ومَعلَمٌ يدل على قرب حصول النصر، إن شاء الله تعالى، مباشرة من بعدها. فسيدنا موسى عليه السلام ومعه قومه، أتبعهم فرعون بجنوده، وأدركهم وهم على شاطئ البحر؛ حيث أصبحوا بين فكي كماشة، فبالحساب الدنيوي المادي: قضي على موسى ودعوته ومن آمن معه. أما بحساب الدعوات الصادقة؛ فالحساب مختلف كليًا، وقد حدثنا القرآن عن ذلك تعليمًا لنا وتسلية لنصبر على أمره ولا نحيد عنه، فالعاقبة جعلها الله للمتقين، وتلك سنة ماضية لا تتخلف عن المؤمنين على مر الزمان. قال الله تعالى: (فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ٦١ قَالَ كَلَّآۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ ٦٢ فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ ٦٣ وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡأٓخَرِينَ ٦٤ وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ ٦٥ ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ ٦٦ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ ٦٧ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ ٦٨). وكذلك حصل مثل هذا الأمر مع رسولنا الكريم ومن معه من المؤمنين، والذين حاربهم كفار قريش، ولم يتركوا سبيلًا إلا وسلكوه للقضاء على دعوتهم، ثم بلغ بهم العداء، في نهاية المطاف أن يتآمروا لقتله وتوزيع دمه على القبائل. وفي هذا الظرف العصيب كان أمر الله هو الغالب، وتحدثنا السيرة أنه لما علمت قريش بتأييد أهل المدينة لرسول الله، فسرعان ما اتفقوا مع القبائل الأخرى بأن ترسل كل قبيلة أحد فتيانها الأقوياء الأشداء لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم لتتحمل كل القبائل دمه؛ وبذلك يتفرق دم سيدنا محمد على القبائل؛ فلا يطيق بنو هاشم بعدها قتال هذه القبائل، ولما علم رسول الله بذلك الأمر، وضع خطته المحكمة للهجرة؛ فطلب من المسلمين ترك مكة في أقرب وقت إلى المدينة، وطلب من أبى بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، شراء جملين للرحلة، ولما أتى أمر الله بالرحيل ليلًا، أمر ابن عمه علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أن ينام في فراشه وأعطاه عباءته، وفي ذلك الوقت كان فتيان قريش ينتظرون خروج محمد لقتله بضربة سيف واحدة، ولكن قدرة الله تعالى وإرادته بالنصر كانت فوق كل شيء، فخرج الرسول أمام هؤلاء الفتية، وأخذ حفنة من التراب، وألقاها على وجوههم، فأعماهم الله تعالى عنه، (وهذا تدخل ربانيٌّ) ولما علمت قريش بخروجه صلى الله عليه وسلم، ذهلت لفقدها الرسول في مرقده، وأخذت تقتفي أثره حتى وصلت إلى غار ثور الذي فيه الرسول وصاحبه، ولكنهم وجدوا يمامة راقدة على بيضها، وعنكبوتًا قد نسج خيوطه على بابه (وهذا تدخل ربانيٌّ)، وجعل حصان سراقة تغور قدماه في التراب (وهذا تدخل ربانيٌّ)، وبهذه الخطة الماكرة التي مكرت بها قريش للقضاء على الدين، قضى الله أن تكون الهجرة التي أقام بها الدين، وجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بداية للتاريخ الهجري وذلك لأهمية الحدث في إقامة الدين… وهكذا نرى في سيرة الدعوات الصادقة أنها تمر بمثل هذه الأوضاع كنتيجة للالتزام الحق، وهي بشير نصر وليست نذير شؤم ولا مبعث يأس.

وفي مقابل دعوتنا الصادقة المتأسية بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تمر بنفس صعوباتها وظروفها، فإننا نرى دعوات لم تلتزم بالطريقة الشرعية ، وبالتالي لم تستطع أن تصمد أمام العواصف والضغوط، فغيَّرت وبدَّلت أكثر من مرة، وكان آخرها ما سمعناه من قريب من تغيير لحركة النهضة التونسية، والجماعة الإسلامية في لبنان، وحماس في فلسطين… ليس لمناهج عملهم فحسب، بل لأهدافهم التي أصبحت أقرب أكثر لطروحات الغرب في فهم الإسلام، والتي ما أنزل الله بها من سلطان والتي يريدون أن يحصِّلوا من ورائها رضى الغرب، على حساب رضى رب العالمين. 

هذه الأوضاع الأليمة الذي تمر بها الأمة الإسلامية، يطمعنا بالقول إننا في مثل هذا الذي تمر به الدعوات الصادقة مما يسبق النصر، وهذا يتطلب منا شحذ الهمم لكي نقوم بالجهود المضاعفة، فبما أننا وصلنا إلى مرحلة أصبح الغرب يتقصد مشروعنا بالذات، فعلينا أن نكون أول المتصدِّين له، والله سبحانه الذي أوصل مشروعنا إلى أن يكون على رأس الصراع بيننا وبينه؛ فلا نملك إلا أن نكون على رأس المواجهة، وأن نسجل لأنفسنا نشاطًا يذكر لنا عند الله، وأن نري الله والأمة من أنفسنا كل خير، فإن لم نتقدم نحن تقدم غيرنا، وما نقدمه لهذه الدعوة نقدمه لأنفسنا. قال تعالى: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *