العدد 313 -

السنة السابعة والعشرون صفر الخير 1434هـ – كانون الثاني 2013م

فبهداهم اقتده

بسم الله الرحمن الرحيم

فبهداهم اقتده

زيد بن ثابت

 

“فـمن للقوَافـي بعد حســــان وابنه

ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت”

(حسان بن ثابت)

نحن في السنة الثانية للهجرة، ومدينة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يموج بعضها يومئذ في بعض استعداداً لبدر، والنبي الكربم يلقي النظرات الأخيرة على أول جيش يتحرك تحت قيادته للجهاد في سبيل الله وتثبيت كلمته في الأرض، وهنا أقبل على الصفوف غلام صغير لم يتم الثالثة عشرة من عمره، يتوهج ذكاءً وفطنةً، ويتألق نجابةً وحميةً، وفي يده سيف يساويه في الطول أو يزيد عنه قليلاً، ودنا من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وقال: جعلتُ فداك يا رسول الله، ائذن لي أن أكون معك، وأجاهد أعداء الله تحت رايتك.

   فنظر إليه الرسول الكريم نظرة سرور وإعجاب، وربَّت على كتفه برفق وود، وطيَّب خاطره، وصرفه لصغر سنه…

   عاد الغلام الصغير يجرجر سيفه على الأرض أسوانَ (شديد الأسى) حزيناً، لأنه حُرم من شرف صحبة رسول الله في أول غزوة يغزوها. وعادت من ورائه أمه النوار بنت مالك وهي لا تقل عنه أسىً وحزناً، فقد كانت تتمنى أن تكتحل عيناها برؤية غلامها، وهو يمضي مع الرجال مجاهداً تحت راية رسول الله. وكانت تأمل في أن يحتل المكانة التي كان من المنتظر أن يحظى بها أبوه لدى الرسول لو أنه ظلّ على قيد الحياة.

   لكن الغلام الأنصاري حين وجد أنه قد أخفق في أن يحظى بالتقرب إلى رسول الله في هذا المجال لصغر سنّه، تفتّقت فطنته عن مجال آخر- لا علاقة له بالسن- يقرّبه من النبيِّ صلوات الله عليه ويدنيه إليه. ذاك المجال هو مجال العلم والحفظ، فذكر الغلام الفكرة لأمه فهشّت لها وبشّت ونشطت لتحقيقها. حدّثت النّوار رجالاً من قومهم برغبة الغلام، وذكرت لهم فكرته، فمضوا به إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وقالوا: يا نبيّ الله، هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله، ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوقَ ذلك حاذِق يجيدُ الكِتابَةَ والقراءةَ، وهو يريدُ أنْ يَتَقَرَّبَ بذلك إليك وأنْ يَلْزَمَكَ، فاسمع منه إذا شِئْتَ..

سَمِعَ الرسولُ الكريمُ من الغلام زيدِ بنِ ثابتٍ بعضاً مما يَحْفَظُ، فإذا هو مُشْرِق الأداءِ، مُبينُ النُّطقِ، تَتَلألأ كلماتُ القرآن على شفتيه كما تَتَلألأ الكواكبُ على صَفَحَةِ السماء، ثم إن تلاوتَهُ تَنُمّ على تَأثرٍ بما يتلو، وَوَقَفاتُه تَدُلُّ على وَعْي لما يقرأ وحُسْن فهم …

فسُرَّ به الرسولُ الكريمُ إذْ وَجَدَه فوقَ ما وصفوه، وزادَه سروراً به إتقانُه لِلكتابة، فالتَفَتَ إليه النبيُّ الكريمُ وقال: يا زيدُ، تَعَلَّمْ لي كتَابَةَ اليهودِ، فإني لا آمَنُهم على ما أقول. فقال: لبيكَ يا رسولَ اللّهِ.

   وأكبَّ زيد من تَوِّه على العِبرِيَّة حتى حَذَقَها في وقتٍ يَسـير، وجعل يَكْتُبُها لرسولِ اللّهِ صلواتُ اللّهِ عليه إذا أراد أن يكتبَ لليهودِ، ويقرؤها له إذا هُمْ كتبوا إليه، ثم تَعَلَّمَ السُّرْيانِيَّة بأمرٍ منه- عليه الصلاةُ والسلامُ- كما تعلم العبرية.    فأصبح الفَتَى زيدُ بنُ ثابتٍ تَرْجُمانَ رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.

   ولما استوثق النبى صلوات الله عليه من رصانة زيد وأمانته ودقته وفهمه ؛ ائتمنه على رسالة السماء إلى الأرض، فجعله كاتباً لوحي الله، فكان إذا نزل شيء من القرآن على قلبه ، بعث إليه يدعوه وقال: (اكتب يا زيد) ، فيكتب.

فإذا بزيد بن ثابت يتلقى القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، آناً فآناً فينمو مع آياته، ويأخذه رطباً طرياً من فمه  صلى الله عليه وسلم  موصولاً بأسباب نزوله، فتشرق نفسه بأنوار هدايته، ويستنير عقله بأسرار شريعته، وإذا بالفتى المحظوظ يتخصص بالقرآن، ويغدو المرجع الأول فيه لأمة محمد بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فكان رأس من جمعوا كتاب الله فى عهد الصديق، وطليعة من وحَّدوا مصاحفه فى زمن عثمان.

  أفبعد هذه المنزلة منزلة تسمو إليها الهمم؟! وهل فوق هذا المجد مجد تطمح إليه النفوس؟!

  وقد كان من فضل القرآن على زيد بن ثابت أن أنار له سبل الصواب فى المواقف التى يحار فيها أولو الألباب. ففي يوم السقيفة  اختلف المسلمون فيمن يخلف رسول الله صلوات الله عليه، فقال المهاجرون: فينا خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بها أولى، وقال بعض الأنصار: بل تكون الخلافة فينا ونحن بها أجدر .

  وقال بعضهم الآخر: بل تكون الخلافة فينا وفيكم معاً .. فقد كان رسول الله صلوات الله عليه إذا استعمل واحداً منكم على عمل قرن معه واحداً منا.

  وكادت تحدث الفتنة الكبرى، ونبيُّ الله صلى الله عليه وسلم مازال مُسجَّى بين ظهرانيهم لم يدفن بعد.

  وكان لابد من كلمة حاسمة رشيدة مشرقة بهدى القرآن تئد الفتنة في مهدها ، وتنير للحائرين الطريق.

  فانطلقت هذه الكلمة من فم زيد بن ثابت الأنصاري. إذ التفت إلى قومه وقال: يا معشر الأنصار، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فيكون خليفته مهاجراً مثله، وإنا كنا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أنصاراً لخليفته من بعده وأعواناً له على الحق.

  ثم بسط يده إلى أبى بكر الصديق وقال: هذا خليفتكم فبايعوه.

  وقد غدا زيد بن ثابت بفضل القرآن وتفقهه فيه وطول ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم منارة للمسلمين .. يستشيره خلفاؤهم فى المعضلات، ويستفتيه عامتهم فى المشكلات، ويرجعون إليه فى المواريث خاصة؛ إذ لم يكن بين المسلمين – إذ ذاك – من هو أعلم منه لأحكامها وأحدق منه فى قسمتها؛ فقد خطب عمر رضوان الله عليه فى المسلمين يوم “الجابية” فقال: أيها الناس؛ من أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ زيد ين ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأتِ معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأت إلي، الله عز وجل جعلنى عليه والياً، وله قاسماً …

  ولقد عرف طلاَّب العلم من الصحابة والتابعين لزيد بن ثابت قدره ، فأجلُّوه وعظَّموه لما وقر فى صدره من العلم.

  فها هو ذا بحر العلم عبد الله بن عباس يرى زيد بن ثابت قد همَّ بركوب دابته، فيقف بين يديه، ويمسك له بركابه،  ويأخذ بزمام دابته، فقال له زيد بن ثابت: دع عنك با بن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده له، فمال عليه زيد وقبَّلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبيِّنا.

  ولما لحق زيد بن ثابت بجوار ربه، بكى المسلمون بموته العلم الذى ووري معه، فقال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى أن يجعل الله فى ابن عباس خلفاً منه، ورثاه شاعر رسول الله حسان بن ثابت ورثى نفسه معه ؛ فقال:

فمن للقوافي بعد حسان وابنه                                ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *