العدد 57 -

السنة الخامسة – العدد 57 – جمادى الآخرة 1412هـ الموافق كانون الثاني 1992م

نظرة تحليلية للنظام الدولي الجديد

م. ليث فرحان الشبيلات

عضو مجلس النواب ـ عمّان

يخطئ من يظن أن النظام الدولي بشكله الجديد الذي تتربع عليه الولايات المتحدة سيستمر عقداً أو عقدين من الزمان على أقل تقدير فمع أن ظاهر الأمر يدل على أن هذه القوة العسكرية العظمى المخيفة قد انفردت بشؤون العالم ولن تستطيع إلا معجزة تعيير الأمر الواقع فإن حقيقة الأمر تدل على أن المعجزة قد تكون أقرب بكثير مما يتوقع أحد. ففي ظل نظام قائم على المصالح، والمصالح فقط، دون أي اعتبار لأية اخلاقيات تذكر لا توجد صداقات مستمرة وأحلات باقية بل يتغير الأمر بتغير المصالح.. ففي نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي كانت فرنسا وبريطانيا تسيران باتجاه صدام عسكري واضح فيما يخص مصالحهما في أفريقيا وانقلب الحال إلى تحالف بينهما في وجه ألمانيا.

أما الاتحاد السوفياتي فقد دخل حليفاً لبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة مرتين (مرة كروسيا القيصرية ومرة كاتحاد سوفياتي شيوعي) لينقلب بعد الحرب العالمية الثانية إلى العدو الرئيسي لهؤلاء. وبظهور قوة ألمانيا مرة أخرى وبانهيار الشيوعية بالاتحاد السوفياتي قفز هذا الأخير إلى حضن أميركا وبريطانيا تحسباً من القوة الصاعدة لألمانيا الموحدة.

وحتى ندرس الحالة الجديدة للنظام العالمي لا بد لنا من استعراض سريع لحالة نفس النظام منذ نشأته حيث أنه ليس نظاماً جديداً بل أنه نظام استعماري قديم تتجدد الزعامة فيه كلما حسمت المعركة لصالح طرف من أطراف الصراع العالمي..

هذا النظام بدأ بمؤتمر فرساي بعد الحرب الكونية الأولى وأوجد عصبة الأمم كأداة لتطبيقه وفرض شوط المنتصرين على العالم وأصابنا منه في حينه الانتداب واتفاقيات سايكس بيكو المستندة إلى وعد بلفور. وهو نفسه النظام الاستعماري الذي أعاد ترتيبه المنتصرون في الحرب الكونية الثانية وأوجدوا لتنفيذه منظمة الأمم المتحدة، وقد أصابنا منه ما أصابنا ابتداء من اعلان دولة إسرائيل إلى ما نراه اليوم من تصفية للقضية الفلسطينية.

بعد الحرب العالمية الثانية دخلت الولايات المتحدة الأميركية في سباق هائل للتسلح مع الاتحاد السوفياتي كان في لبه حرباً اقتصادية حسمت، كما يبدو الآن، لصالح الولايات المتحدة الأميركية حيث انهار النظام الشيوعي تحت وطأة الضغط الاقتصادي لسباق التسلح (إضافة إلى ما يحمله من بذور الانهيار بسبب عقيدته اللاإنسانية) وكانت ورقة حرب النجوم التي وضعها ريغن لغورباتشوف على مائدة قمة ريكافك هي الورقة التي قصمت ظهر البعير.. ولكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة قد خرجت من هذه الحرب الباردة معافاة، بل إن كل الدلائف تشير إلى أن وضعها الاقتصادي خرج مهزوزاً كما لم يهتز منذ ركون (1939 ـ 1936) اضافة إلى ما تحمله أيضاً حضارتها من بذور الانهيار الاجتماعي.. فلئن كانت مديونية الاتحاد السوفياتي التي تصل إلى 60 مليار دولار أحد أهم أسباب مذلته اليوم فإن مديونية الولايات المتحدة بلغت 3،5 ترليون دولار، منها 1000 بليون ديون خارجية.

ولولا القوة العسكرية، وأن البنوك الأميركية ومؤسسة النقد الدولي والبنك الدولي جميعها تحت سيطرة أميركا بحيث تضمن أميركا عدم مطالبة أميركا بمديونيتها لرأينا الولايات المتحدة اليوم في وضع أذل من الاتحاد السوفياتي بمرات.. وهذا يدخلنا في صلب تحليل النظام الدولي الجديد وسيدته الولايات المتحدة اليوم. حيث يؤكد عديد من الخبراء الاقتصاديين أن سياسات الرئيسين ريغان وبوش تقودان أميركا إلى انهيار اقتصادي مخيف، انهيار لن يؤثر على الولايات المتحدة فحسب بل وسيأخذ العالم برمته معه نحو الفوضى والمجهول..

فمن الذي يسيطر على سياسة الولايات المتحدة؟ وما الذي جرى في العقود الماضية؟ وما الذي يجري اليوم؟

إن الباحث المدقق في تاريخ الولايات المتحدة يجد أن للجزيرة البريطانية الأثر الأكبر على سياساتها، ذلك أن الانجلو ساكسون هم الطبقة الحاكمة المتنفذة في الولايات المتحدة وهم المسيطرون على البنوك الأميركية (وليس اليهود كما يردد الكثيرون حيث أن اليهود يسيطرون على أسواق سمسرة المال). ويذهب عدد من المفكرين في الغرب إلى أن فكرة إنشاء الصهيونية بدأت عند الانجلو ساكسون لاستغلالها من قبلهم في السيطرة على العالم بأسلوبين: الأول بإنشاء دولة في قلب مفترق الطرق التجرية العالمية في فلسطين، تتعاون مع دولة عنصرية أخرى أنشأتها بريطانيا في جنوب أفريقيا تؤمن ما تبقى من طرق المواصلات لفرض السيطرة البريطانية على أفريقيا اضافة إلى الهند والشرق الأوسط وقتئذ. والثاني يعتمد على كون الصهيونية اليهودية والسيطرة عليها من قبل الانجلو ساكسون هي الوسيلة الأنجح لتمكين قبضة سيطرتهم على سياسات أكبر قوة عالمية: الولايات المتحدة حيث تتشكل غالبية المواطنين في أميركا من مسيحيين صهيونيي العقيدة يؤمنون بضرورة تحقيق نبوءة إنشاء دولة إسرائيل.. ويتحركون بمالهم وأصواتهم لكل ما يخدم هذه النبوءة.. والمتتبع بدقة لاقتصاد أميركا يرى أنها بعد عهد الرئيس كندي ابتعدت عن بناء اقتصاد حقيقي (Physical Economy) حيث كان لمشروع كندي غزو الفضاء الأثر الأكبر في تقوية الاقتصاد المادي الحقيقي للولايات المتحدة وجعلها تتربع على عرش التقدم التكنولوجي..

فبعد كندي انزلقت الولايات المتحدة بشكل كبير نحو ما يسمى بالمجتمع ما بعد الصناعي Post Industiral: مجتمع الاتصالات والمعلومات والنظم وما نتج عن ذلك من خلخلة قاعدتها الاقتصادية المادية (Hard Ware) فمالت أكثر نحو اقتصاد أقرب إلى اقتصاد خدمات منه إلى اقتصاد انتاج بالمقارنة مع منافستيها الرئيستين ألمانيا واليابان اللتين وإن كانتا في متقدمتين نفس تقدم الولايات المتدة، إن لم يكن أكثر في نظم الاتصالات والمعلومات والتحكم إلا أنهما أبقتا على بنية تحتية قوية متنامية من الاقتصاد المادي الحقيقي (الصناعي) بحيث أصبحتا متفوقتين بشكل واضح في جميع الصناعات المادية (سيارات، طائرات، مصانع، مولدات الخ..) وأصبحتا دولتين ذواتي اقتصاد مادي حقيقي ثري. ونتج عن ذلك انتقال اعتماد الولايات المتحدة على اقتصاد مادي حقيقي إلى الاعتماد على قوة الدولار: تلك القوة المتهاوية في حقيقتها والتي تعززها القوة العسكرية الأميركية فقط.. ولقد كلفت الحرب الباردة أميركا أيضاً ثمناً باهظاً هي الأخرى.. فبينما انهار الاتحاد السوفياتي لعدم قدرة اقتصاده على تأمين الثروة اللازمة لتحمل هذه الحرب إلا أن اقتصاد الولايات المتحدة استطاع من خلال سيطرتها على ما يسمى بالعالم الحر استقطاب ثروات العالم (سلباً ونهباً في كثير من الحالات وديوناً في حالات أخرى) لانعاش الاقتصاد ولابقائه مستمراً على وتيرته اللازمة لإرضاء الشعب الأميركي ومستوى معيشته حتى أصبحت الولايات المتحدة اليوم أكبر دولة مدينة في العالم حيث بلغ مجموع دينها العام فقط 3،5 ترليون دولار ومجموع مديونيتها الخارجية العامة والخاصة 1000 بليون دولار أي خمسة عشر ضعف الدين الخارجي للاتحاد السوفياتي الذي يسعى صندوق النقد الدولي إلى اذلاله والاجهاز عليه وجعله تابعاً للسيادة الأميركية. ولقد استطاعت الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن أن تنجز من الضغط الذي يجب أن يمارس على من هو في وضعها المالي لكونها هي الخصم والحَكَم في نفس الوقت، وبما أن أميركا لن تضغط على أميركا لسداد دينها ولتعديل قيمة عملتها فإن هذا الاقتصاد الكاذب لا بد وأن ينهار يوماً ما.

وكعادة الامبراطوريات فإن إبقاء الاقتصاد المحلي عائماً ينطلب سلب ونهب خيرات الشعوب الأخرى ويحتاج إلى حروب، وكان هذا أحد أهم اسباب حرب الخليج، اضافة إلى ما تسببه الحروب وانتصاراتها من الهاء للشعب الأميركي عن شكاويه الداخلية الاقتصادية وحشد التأييد وراء الرئيس الذي تتهاوى شعبيته بسبب سواء إدارته الداخلية..

وقد شنت الإدارة الأميركية هذه عدة عمليات عسكرية في جرنادا وبنما وعلى ليبيا قبل حرب الخليج ويتوقع أن تشن عمليات عسكرية قادمة ضد ليبيا وضد البرازيل بقرار من مجلس الأمن لحماية بيئة الأمازون ووضعه تحت الوصاية الدولية (أي السيطرة الأميركية على أحد أكبر مصادر الثروة في العالم..).

ولما كانت بريطانيا وأميركا قد خرجتا بعد الحرب العالمية الثانية بالسيطرة على صندوق النقد الدولي حيث لا يتخذ قرار اليوم في هذا الصندوق دون موافقة واشنطن عليه فقد أقننعت البنوك الأميركية الكبرى المهددة بالإفلاس (والتي يعيش كثير منها حالة افلاس حقيقية لولا الدعم السياسي لها) الرئيس ريغان ياستعمال صندوق النقد الدولي كبوليس اقتصادي لتحصيل ديونها في أميركا اللاتينية.. وبقية العالم فانقلب صندوق النقد هذا إلى آله هي أشد تدميراً لسيادة الدول واقتصاديها من دبابات الجيش الأحمر..

وعلى سبيل المثال فلقد نهبت الولايات المتحدة من جنوب أميركا في عقد الثمانينات ما يزيد عن 500 بليون دولار نهباً متمثلاً بفائض التجارة اضافة لهرب رأس المال. اضافة إلى نهب الربا الفاحش الذي يظهر في التقارير التي تؤكد أن مديونية أميركا اللاتينية كانت 242 بليون دولار في عام 1980 وقد دفعت حتى عام 1990 أكثر من 300 بليون فوائد في الوقت الذي زادت فيه قيمة الديون إلى أكثر من أربعمائة بليون دولار والأمر متشابه فيما يخص بقية أقطار العالم.. قلنا أن اقتصاد أميركا في العقدين الماضيين قد انتقل أكثر إلى الاعتماد على قوة الدولار منه على القوة الحقيقية للاقتصاد..

وإذا أدركنا أن قوة الدولار أصلاً كانت مرتبطة بالذهب حسب اتفاقيات بريتون وودز التي أبرمت بعد الحرب العالمية الثانية..

وأن الولايات المتحدة الأميركية رفضت في النصف الثاني من الستينات طلب ديغول منها (استناداً إلى تلك الاتفاقية) تخفيض قيمة الدولار مقابل قيمة الذهب حسب ظروف الاقتصاد الأميركي الحقيقية.. وأن ديغول أمام ذلك الموقف أعلن عدم ثقته بالدولار وطلب من الولايات المتحدة ذهباً مقابل الدولارات التي تملكها فرنسا وقام باستلام ما يزيد على خمسة بليون دولار من الذهب من فورت نوكس، ونجح في مشروع إعادة بناء الفرنك الفرنسي كعملة قوية.. وأن أميركا بعد ذلك قامت في عام 1971 بفك ارتباط الدولار بالذهب جاعلة من قوة الاقتصاد الأميركي فقط سنداً لقوته (وهو إجراء ساهم بشدة في مخططات أميركا لنهب ثروات العالم بالتلاعب بقيمة العملة دون أن يكون للعملة قيمة حقيقية تماثل القيمة المعلن عنها).. إذا أدركنا كل ذلك وأدركنا أن الاقتصاد الأميركي الذي أسندت الولايات المتحدة قوة دولارها إليه لم يعد قوياً وأن ذلك الاقتصاد بات بدوره مستنداً إلى سمعة الدولار (أصبح الفرع أصلاً وغاب الأصل في واقع الأمر) علمنا الكذبة الكبرى التي تغطي انكشاف أميركا ذلك الانكشاف الذي لا يؤخرة ولا يؤجل ظهوره إلا المغامرات العسكرية المتجددة للادارة الأميركية.. وأدركنا لماذا لا تستطيع الولايات المتحدة بالبقاء متربعة على عرش العالم إلا بالامبريالية الكولونيالية المباشرة حيث تحتاج إلى وضع يدها على أراضي وثروات دول بالكامل لتسند اقتصادها من الانهيار..

فاحتلال الخليج اليوم يجعل ثرواته وأرصدته محسوبة لصالح المحتل الأميركي على ورقة الميزان الاقتصادي والمالي كما أن مخططات الولايات المتحدة لاحتلال الأمازون وخيراته تقع ضمن نفس الأهداف، وذلك من خلال قرار من الأمم المتحدة شبيه بقرارات العراق تحت حجة حماية البيئة وهو أمر وارد في العام القادم الذي تقهر فيه البرازيل بعقد قمة Eco 92 التي تبحث في تدويل مشاكل البيشة وضرورة تنقيص السيادة الوطنية لبلدان العالم Soft Sovereignity أمام المشاكل الدولية بحيث يحق لجيوش الأمم المتحدة التدخل في سيادة كل دولة بحجة البيئة/ الأقليات/ أية أمور مشتركة أخرى تهم ما يسمى الأسرة العالمية.

هذا هو وضع العالم اليوم: تنهب أميركا العالم الثالث وتنهب حتى حلفاءها، وهؤلاء الحلفاء يجارونها على حذر مضطرين بسبب قوتها العسكرية. وفي نفس الوقت يحضّر الاقتصادان العملاقان الألماني والياباني نفسيهما لوراثة مسؤوليات قيادة العالم ونهبه أيضاً حال سقوط أميركا المتوقع في أية لحظة…

ومن الأسباب المعجلة لانهيار الاقتصاد والمجتمع الأميركيين التطرف في تطبيق الليبرالية في السنوات العشر الماضية حيث طبقت سياسة ملتون فريدمان الليبرالية الراديكالية الرافضة لأي تدخل حكومي في وضع أية معايير للسوق وأية ضوابط للشركات (Deregulation ) وكان من جرائها مثلاً تردي صناعة الطيران التي كانت متقدمة تكنولوجيا في السبعينات..

كما كان من جرائها افلاس النظام البنكي الأميركي الذي دمره الانقلاب الكامل في ظل سياسة كاملة من عدم التدخل الحكومي للضغط ولتصحيح المعايير، فعدا عن عشرات بل مئات البنوك الصغيرة التي أفلست فإن حالة أكبر سبعة أو ثمانية بنوك أميركية مزرية.. فأكبر بنك (ستي كورب) يعتبر مفلساً من الناحية الفنية (خسارة 270 مليار= 4 مرات مديونية الاتحاد السوفياتي) ولا يقى قائماً اليوم إلا بسبب الدعم السياسي كما أن البنوك الأخرى اندمج معظمها ببعض اثنين اثنين في محاولة لمعالجة أوضاعها..

والبنوك الأميركية جميعها تعتمد اعتماداً كبيراً على تنظيف مال المخدرات والذي تبلغ قيمة تجارته السنوية 600 مليار دولار (50% أكثر من قيمة مجموع إنتاج البترول العالمي). ولذلك فإن كثيراً من السياسيين الذين يمثلون مصالح البنوك والصناعات الكبرى (مثل جورج شولتز) أصحبوا يطالبون بمعالجة مشكلة المخدرات بالسماح بتداوله وإلغاء القوانين التي تحرمه. كما أن البنوك الآن تحاول تغطية خسائرها بنهب المواطن الأميركي المستهكل حيث بلغت نسبة الفائدة على التسديد المتأخر لحملة بطاقات التسليف حوالي ال 30% مما اضطر الكونغرس إلى التهديد بفرض قانون يمنع هذه الارتفاعات التي سماها ربوية فاحشة إن لم تعمد البنوك إلى تخفيض معدلات فائدتها..

ومحصلة الأمر أن الإدارة الأميركية تصر على أن الاقتصاد الأميركي في بداية إنتعاش بينما يصر اقتصاديون آخرون (منهم من تنبأ في عام 1983 بإنتهاء انهيار الاقتصاد السوفياتي خلال خمس سنوات) على أن اقتصاد الولايات المتحدة يمر في مرحلة أسوأ بكثير من ركود 1929 ـ 1936 وإن الإدارة الأميركية تسير بالشعب الأميركي وبالعالم أجمع إلى إنهيار لا يعلم عواقبه إلا الله.. ونحن نرى أن الرأي الثاني هو الأصح..

أما عن عقيدة المتحكمين في مصير العالم فإنهم مرابون برابرة لا يؤمنون في الحقيقة بأي دين سماوي بل أنهم وثنيون يؤمنون بالطبيعة أو بالأرض كآلهة مقدمة على الإنسان وأن المحافظة على الطبيعة أهم من المحافظة على الانسان..

بل أن الانسان يجب أن يحد من تكاثره ولو من خلال الإبادة الجماعية (من أشد المؤسسات نفوذاً في هذا المجال مؤسسة Gaia Foundation التي يرأسها الأمير فيليب البريطاني والتي تدعو إلى حماية الطبيعة. والهدف الحقيقي للكثير من هذه المؤسسات أنها تريد حماية الثروات من الاستعمال من قبل أصحابها ووضع يد المستعمرين وشركاتهم المتعددة الجنسية عليها) وقد صدرت دراسة من كيسنجر وسكوكروفت عام 1974 تحت إسم National Security Study Memo 200  أقرّت وصدرت كأمر رئاسي من أوامر الأمن القومي تحت اسم ورقم National Security Dicision Memo 314 حددت أن الدول النامية خطر على الأمن القومي الأميركي بسبب تكاثرها السكاني لأن هذا التكاثر يضغط بإتجاه مطالبها بضرورة تقدمها التكنولوجي فتصبح قوى مهدّدة للولايات المتحدة.. كما إنفجار السكان يسبب قلاقل للأنظمة العميلة خصوصاً عندما يكتشف الناس أن خيراتهم تنهبها أميركا بواسطة هذه الحكومات العميلة..

وقد أصبح سلاح الغداء سلاحاً رسمياً منذ ذلك الوقت لدى الولايات المتحدة، كما أن تخفيض الزيادة السكانية العالمية أصبح أيضاً سلاحاً رسمياً للدولة الأميركية وهذه السياسة المالثوزية Malthusian نسبة إلى Malthus والتي يؤمن بها القائمون على سياسة أميركا وما يسمى بنادي روما وأمثال مؤسسة جايا، والتي كان برتراند راسل من أكبر المؤمنين بها، هي سياسة (دعهم يموتوا) Laissez Mourir تجعل الولايات المتحدة الأميركية تتبنى سياسات إبادة إقتصادية ومالية وصحية وعسكرية لتحقيق الإبادة الجماعية في مناطق مختلفة من العالم. فالسياسة المطبقة على العراق هي سياسة إبادة جماعية تعود بها القهقري وتسبب المجاعات تلو المجاعات في الوقت الذي يوجد فيه فائض مستمر من الغذاء يتلف عمداً في الولايات المتحدة، والسياسات المطبقة على أميركا الجنوبية تلحقها بأفريقيا وهكذا في بقية مناطق العالم الثالث (الجنوب)..

كما أن السياسة المطبقة من الولايات المتحدة الأميركية على أوروبا الشرقية المتحررة من الاتحاد السوفياتي وعلى الاتحاد السوفياتي نفسه اليوم ليست سياسات صديقة بل أنها تطبق عليهم أولية المطالبة بالدين وضرورة تطبيق إقتصاد السوق الحر الذي لم يطبق في بلد إلا ودمره وألحقه بالعبودية، فهي تتهرب من إعطاء قروض لأوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي لأسباب متعددة من أهمها الخوف من تنامي أوروبا قوية من ضمنها الاتحاد السوفيات بقيادة ألمانيا. كما أن تنمية أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي تحتاج إلى رساميل معظمها موجود في الولايات المتحدة المفلسة التي استهكلت القروض الكبيرة التي إقترضتها وليس لديهاالقدرة على سدادها.. وفي هذا المجال وفي يناير 1990، قال أحد الاقتصاديين المتنفذين في شارع وول ستريت، ديفيد هيل، محذراً أصدقاؤه في واشنطن من أخطار توحيد ألمانيا والتغيرات في أوروبا الشرقية: ومن الملاحظ إن أحد أهم الظواهر غير الطبيعية للأبحاث الإقتصادية في وول ستريت في فترة الأسابيع الأخيرة هذه، الرضى عن النفس فيما يخص آثار التطورات الاقتصادية المتوقعة في أوروبا الشرقية على التوازن المالي في العالم، ذلك التوازن الذي سمح لأميركا إستدانة ما يزيد عن 1000 بليون دولار من الخارج منذ عام 1980.. عندما سيكتب التاريخ المالي لعقد التسعينات، قد ينظر المحللون إلى سقوط جدار برلين كهزة مالية مماثلة للزلزال الأرضي المخيف الذي توقعه الجيوليوجيون لطوكيو: إنقلاب قد يسبب تحويل مئات البلايين من الرساميل نحو منطقة لم تساهم إلا بالقليل في أسواق الإئتمان المالي العالمي في العقود الستة الماضية..

هذا باختصار حال النظام العالمي الجديد اليوم: بريطانيا ملتصفة بأميركا محركة سياساتها للوقوف في وجه أوروبا القوية بقيادة ألمانيا، والإثنان يدركان أن الأمر لا يمكن أن يستقر لهما إلا بتعزيز إقتصادهما المتداعي وثرواتهما المضمحلّة وإنتاجهما المتخلف باستخدام آخر أوراق السطوة التي تملكها أميركا.. القوة العسكرية في وجه العالم الثالث لنهبه تجنباً لصدام الشمال مع الشمال.. إلى هذا المنطلق يجب أن ننظر إلى قضايانا النضالية كشعوب مستضعفة..□

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *