العدد 68 -

السنة السادسة، جمادى الآخرة 1413هـ، كانون الأول 1992م

جواب سؤال؟

السؤال:

وردت في السنّة أحاديث كثيرة تتحدث عن عذاب القبر. ووردت في القرآن آيات يُفهَمُ منها أنه لا يوجد عذاب قبل يوم القيامة مثل قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [سورة ابراهيم 42]، وقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [سورة الروم 55]، وقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ @ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) [سورة يس 51 و52].

فكيف نوفّق بين هذه النصوص؟

الجواب:

نعم وردت في السنة أحاديث كثيرة جداً في هذا الموضوع، ووردت آيات قد تشير إليه ولكنها غير قطعية الدلالة فيه، ونذكر من هذه الآيات قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [سورة غافر 46]. وقوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) [سورة إبراهيم 27]. وقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) سورة الأنفال 50].

وهذه الآية الأخيرة من سورة الأنفال قطعية الدلالة على أن الملائكة تعذب الكفار عند قبض أرواحهم. وقد ورد مثل هذه الآية في سورة محمد: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [آية 27]، وفي سورة الأنعام: (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) [الآية 93]. فهذه الآيات لا تدل على عذاب القبر بل على العذاب عند الموت.

وأما الآية 46 من سورة غافر والآية 27 من سورة إبراهيم فهما مكيتان وورد حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد يدل صراحة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعلم بعذاب القبر إلا في المدينة وفي وقت متأخر (بعد كسوف الشمس وموت ابنه إبراهيم)، فقد جاء في صحيح البخاري (ج2/ ص 431 فتح الباري): «عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقال لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُعذّب الناسُ في قبوهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذاً بالله من ذلك». وروى الإمام أحمد بإسناد على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة: «أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة إليها شيئاً من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاكِ اللهُ عذابَ القبر. قالت: فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يومٍ نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق». وروى الإمام مسلم من  طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: «دخلتْ عليّ امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تُفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما يُفتَن يهود. قالت عائشة فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرتِ أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر».

وهنا يظهر الإشكال: فآية (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) مكية وهي تشير إلى عذاب القبر، فقد قال ابن كثير عند تفسيره هذه الآية: [قال البخاري حدثنا… عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ )». ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة كلهم]. وآية (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) قال عنها ابن كثير: [وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور] وقال: [لا شك أن هذه الآية مكية] فكيف تكون هاتان الآيتان نزلتا في مكة قبل الهجرة وتتحدثان عن عذاب القبر، ويكون الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم عن عذاب القبر إلا في المدينة وفي وقت متأخر؟‍!

ابن كثير حاول حل هذا الإشكال كما يلي: [الجواب أن الآية (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا…) دلّت على عرض الأرواح على النار غدواً وعشياً في البرزخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبول إذ قد يكون ذلك مختصاً بالروح، فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنّة] وأضاف: [وقد يقال إن هذه الآية إنما دلّتْ على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب].

وقد حاول ابن حجر العسقلاني (في فتح الباري ج3/ ص183) حل هذا الإشكال كما يلي: [وقد استشكل ذلك بأن الآية المتقدمة مكية وهي قوله تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا…) وكذلك الآية الأخرى المتقدمة وهي قوله تعالى:   (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا…) والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الأخرى في حق آل فرعون وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار. الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين. ثم أُعْلِمَ صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم، فجزم به وحذّر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليماً لأمته وإرشاداً فانتفى التعارض بحمد الله تعالى] انتهى كلام ابن حجر.

والمدقق يرى أن الإشكال لم يستطع حله ابنُ حَجَر ولا ابن كثير بل هما قد نظرا إلى جانب واحد وأغفلا الجانب الأهم. الجانب الأهم هو: هل يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلِّغ بغير علم، وأن يخطئ في تبليغه، وأن يستمر هذا الخطأ أياماً عدة؟.

إن المسألة هنا ليست مثل مسالة تأبير النخل حتى إذا أخطأ فيها صلى الله عليه وسلم قال: «أنتم أدرى بشؤون دنياكم»، المسألة هنا هي من صميم الدين وهي من الغيب الذي لا يمكن معرفته إلا بالوحي من الله. والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن أمر من هذا النوع كان ينتظر الوحي. ولذلك فالإشكال قائم، وندعو أهل العلم للبحث عن حله. والذي يترجح لدينا هو أن حديث عائشة بشأن المرأة اليهودية يُرَدُّ دراية.

وبذلك يتضح قولنا بأن هذه الآيات ليست قطعية الدلالة على عذاب القبر، سواء كان بالروح وحدها أو بالروح والجسد. وقد قال ابن حجر رحمه الله (فتح الباري ج3/ ص180): [لم يتعرض المصنف (أي البخاري) في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده خلافاً لمن نفاه مطلقاً من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقها]. وأضاف ابن حجر (ص182): [وذهب ابن حزم وابن هبيرة إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من عَوْد إلى الجسد وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد… والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يُشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره ولا ضيق في قبره ولا سعة] أ. هـ.

والآية الكريمة (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ليست قطعية الدلالة بأن هذا العرض يحصل قبل يوم القيامة، فهو يحتمل أن يكون في يوم القيامة كما يحتمل أن يكون قبل القيامة، فقد قال تعالى في سورة الكهف: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا @ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا) أما من توهم أن عطف (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) على (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) يحتم أن يكون الغدو والعشي في غير يوم القيامة فهو مخطئ لأن العطف لا يقتضي الغيْرية دائماً، فالله يقول: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) [سورة الزخرف 84]، فلو كانت واو العطف تقتضي دائماً أن المعطوف هو غير المعطوف عليه لكان هذا يعني أن إله الأرض غير إله السماء سبحانه لا إله إلا هو.

وفي هذه الآية (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) يحتمل أن يكون المعنى أنهم يعرضون على النار بعد النفخ في الصور في أول القيامة مدة من الزمن، وهذا بداية العذاب ثم يُدخلون إلى أشد العذاب.

أما الأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر فقد بلغت من الكثرة حداً كبيراً، وقل نقل ابن حجر (فتح الباري ج3/ ص186): [وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث (ذكر ستة أحاديث أوردها البخاري في هذا الباب) منها عن أبي هريرة وابن عباس وأبي أيوب وسيد وزيد بن أرقم وأم خالد في الصحيحين أو أحدهما، وعن جابر وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر وعبد الرحمن بن حسنة وعبد الله بن عمرو عند أبي داود، وابن مسعود عند الطحاوي، وأبي كبرة وأسماء بنت يزيد عند النسائي، وأم مبشر عند ابن أبي شيبة، وعن غيرها] ا. هـ.

وقد اعتبر بعض العلماء أن هذه الأحاديث بلغت حد التواتر. ولولا ورود النصوص المعارضة لكنا قلنا نحن أيضاً بأنها متواترة. ولكن ورود النصوص المعارضة أنزلها عن مرتبة التواتر، لأن التواتر لا يعتمد على العدد وحده بل هناك أمور أخرى لا بد من توفرها ومن أهمها سلامة الخبر من الأمور المعارضة التي تشكك في قطعيته. قال الآمدي (الإحكام في أصول الأحكام ج2/ ص39): [ثم اختلف هؤلاء في اقل عدد يحصل معه العلم، فقال بعضهم: هو خمسة، لأن ما دون ذلك، كالأربعة، بيّنة شرعية يجوز للقاضي عرضها على المزكين بالإجماع لتحصيل غاية الظن. ولو كان العلم حاصلاً بقول الأربعة لما كان كذلك. وقد قطع القاضي أبو بكر بأن الأربعة عدد ناقص، وتشكك في الخمسة. ومنهم من قال: أقل ذلك اثنا عشر… ومنهم من قال: أقله عشرون… ومنهم من قال: أقل ذلك أربعون… ومنهم من قال: أقلهم سبعون… ومنهم من قال: أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر… ومنهم من قال: أقل عدد يحصل به العلم معلوم لله تعالى، غير معلوم لنا، وهذا هو المختار] وأضاف: [وبالجملة فضابط التواتر ما حصل العلمُ عنده من أقوال المخبرين، لا أن العلم مضبوط بعدد مخصوص] وأضاف: [وعلى قولنا بأن ضابط التواتر حصول العلم عنده يمتنع الاستدلال بالتواتر على من لم يحصل له العلم منه، وإنما المرجع فيه إلى الوجدان. هذا ما يرجع إلى الشرائط المعتبرة المتفق عليها] ا. هـ.

الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن عائشة بشأن المرأة اليهودية والذي يصرح أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى وقوع العذاب على الناس في البرزخ قبل يوم القيامة، ثم جاءه الوحي وأخبره أن عذاب القبر حق. هذا الحديث يُلقي شكاً على الموضوع.

والآية الكريمة: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) قد تلقي شكاً أيضاً على الموضوع، فهي تصرح بأن الله يؤخر عقاب الظالمين إلى يوم القيامة لأن اليوم الذي تشخص فيه الأبصار هو يوم القيامة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة النحل 61]. ومثلها أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا) [سورة فاطر 45]. والأجل المسمى هو يوم القيامة.

وهذه الآيات قطعية الدلالة بتأخير الحساب إلى يوم القيامة، ولكن الأحاديث الصحيحة جاءت وخصصت الآيات فبينت أن الله قد يقدم بعض العقوبات فيجعلها في الدنيا ويجعل بعضها في القبر، ويبقي الجانب الأكبر ليوم الحساب: يوم القيامة. وتخصيص القرآن بالسنة أمر متفق عليه ولذلك لا يصح لأحد أن يقول بأن هذه الآيات لا يمكن التوفيق بينها وبين أحاديث عذاب القبر، ولا يصح لأحد بناء على ذلك أن يرد هذه الأحاديث دراية.

والآية الكريمة: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ @ قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) تُلقي شكاً أيضاً على الموضوع، فهي تنص على أنهم كانوا راقدين في قبورهم ولم يكونوا في حالة يقظة وعذاب. والتوفيق بين هذه الآية وأحاديث عذاب القبر أصعب من حالة تخصيص الآيات بالأحاديث الصحيحة التي سبق ذكرها قبل أسطر. ذلك أننا لا نجد هنا أحاديث صحيحة تبيّن أن فترة البرزخ يتخللها العذاب والرقود. ومع ذلك فقد وفق بعض الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم بين الآية وأحاديث عذاب القبر كما نقل ابن كثير: [قال أُبيُّ بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين، فلذلك يقولون: من بعثنا من مرقدنا]. وهذا التوفيق يشكل مخرجاً. ولا تبقى حجة لقائل أن يقول: يوجد تصادم بين الآية والأحاديث ولا يمكن التوفيق بينهما بأي شكل من الأشكال، لا تبقى مثل هذه الحجة، ولذلك لا يصح لأحد أن يقول بأن هذه الأحاديث ترد دراية بناء على مناقضتها لهذه الآية.

والآية الكريمة: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) تُلقي شكاً أيضاً على الموضوع: أين لبثوا هذه الساعة بزعمهم؟ بعض المفسرين قال بأنهم يقصدون لبثهم في قبورهم، وبعضهم قال: يقصدون لبثهم في الحياة الدنيا، وبعضهم قال: يقصدون الرقدة التي رقدوها بين النفختين: النفخة التي تصعق المخلوقات، ونفخة القيامة. ومدتها أربعون سنة حسب بعض الآثار.

الذي يأخذ بالتفسير الأول أي أنهم يُقسمون أن لبثهم في قبورهم منذ ماتوا حتى قيام الساعة ليس أكثر من ساعة، الذي يأخذ هذا التفسير سيقع في إشكال، إذاً سيتصور بناء على ذلك أن هؤلاء المجرمين لم يكونوا في عذاب في قبورهم، لأن الذي يعذب طيلة الوقت في قبره يحس بطول الوقت. وليس هذا القول من قبيل قياس الغائب على الشاهد، أي قياس عذاب القبر على عذاب الحياة، بل لأن هناك نصوصاً ذكرت ذلك.

أما إذا أخذنا التفسير الثاني أو الثالث أي لبثهم في الحياة الدنيا أو رقدتهم بين النفختين فإنه لا إشكال في الأمر.

ولكن القرينة في الآية ترجح لبثهم في قبورهم منذ موتهم حتى بعثهم يوم القيامة، وهذه القرينة موجودة في الآية التي بعدها: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). فجواب أهل العلم والإيمان بأن لبثهم استمر إلى يوم البعث يقطع بأن المقصود ليس لبثهم في الدنيا، وكل المفسرين الذين أخذوا هذا المعنى مخطئون.

وبما أن افتراض الرقدة بين النفختين هو افتراض غير قوي لأنه لا دليل عليه من النصوص بل هو مخرج توفيقي فيكون المعنى الأرجح هو المعنى الذي يسبب الإشكال. ومن أجل أن نخرج من الإشكال نلجأ مرةً أخرى إلى المخرج التوفيقي، وهو أنهم يرقدون بين النفختين وأنهم يقصدون أنهم ما لبثوا غير ساعة في هذه الرقدة.

وخلاصة الجواب أن الأحاديث التي تتكلم عن عذاب القبر هي صحيحة ويمكن التوفيق بينها وبين الآيات التي يظهر أنها تعارض هذه الأحاديث. ولذلك فلا يجوز لمسلم أن ينكر هذه الأحاديث، ومنكرها هو منكر للحديث الصحيح فهو آثم، لأن منكر الحديث الصحيح يترتب عليه تعطيل العمل به c

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *