العدد 62 -

السنة السادسة، ذو الحجة 1412هـ، حزيران 1992م

معركة ترميم الأقصى وليس معركة تحريره!

في 12/05/92 أعلن مصدر سعودي مسؤول لوكالة الأنباء السعودية تشكيل وفد من الخبراء والمهندسين (سعوديين ومصريين ومن اليونسكو) لمعاينة مسجد الصخرة والمسجد الأقصى ومسجد الخليفة عمر بن الخطاب من أجل ترميمها، واعمار مساكن للائمة والخطباء والمؤذنين والقائمين على خدمتها وصيانتها. وأعلن التزام السعودية كامل النفقات المترتبة على إنفاذ هذا المشروع. وأعلن شكر الحكومة السعودية لحسني مبارك الذي وعد بالمساعدة في المشروع (عن طريق إقناع إسرائيل بتسهيل المهمّة).

وفي 18/05/92 نشرت الصحف الأردنية الثلاث: “الرأي”، “الدستور”، “صوت الشعب” إعلاناً بحجم صفحة كاملة حول تشكيل لجنة شعبية لمساندة المبادرة التي قام بها الملك حسين لإعادة ترميم وإعمار المقدسات الإسلامية والنصرانية في فلسطين وفي مقدمتها المسجد الأقصى وقبة الصخرة.

وسبق ذلك جولة مباحثات حول التنسيق بين الأردن والسعودية ومصر بشأن هذا الترميم والإعمار. ولكن الملك حسيناً فاجأ المراقبين لهذه المباحثات بإعلانه أنه سيقوم بدفع التكاليف من أمواله الخاصة وأنه باع بيته في لندن ليكون ثمنه جزءاً من هذه التكاليف.

وتقول أوساط أردنية مسؤولة بأن مسألة الترميم والإعمار هذه تحولت في الشهور الأخيرة إلى مسألة سياسية، إذ تحركت مصر وأقنعت السعودية بسحب هذه الورقة من يد الأردن وقطع صلاتها بالقدس والضفة. وتقول هذه الأوساط الأردنية المسؤولة: إن مصر دأبت ومنذ فترة على السعي لتسميم العلاقات الأردنية – الفلسطينية، وأن الرئيس المصري حسني مبارك في لقاء (أخير) له مع عرفات هاجم العاهل الأردني شخصياً هجوماً عنيفاً، وأنه (مبارك) خلال هذا اللقاء قام بعمليات ترغيب للوفد الفلسطيني لتشجيعه على إدارة الظهر للحكومة الأردنية.

وتقول هذه الأوساط بأن الذي دفع الملك حسيناً للتقدم بماله الخاص ليس مجرد المنافسة بل خشيته أن تتسلل إسرائيل عبر المحاولة السعودية – المصرية لإلحاق الأماكن المقدسة بوزارة الأديان الإسرائيلية.

إذاً هناك معركة بين مصر والسعودية من جهة الأردن من جهة أخرى ظاهرها على ترميم الأماكن الدينية في القدس. فما هي حقيقة ما يجري؟

كان الملك فهد تلقى في 28/04/92 رسالة من فيديريكو مايور المدير العام لمنظمة اليونسكو وعلى أثرها أعلنت المملكة في 29/04/92 استجابة نداء اليونسكو فوراً. وتلقى الملك فهد رسالة أخرى في 12/05/92 من فيدريكو نفسه يشكر الملك على استجابته، جاء فيها: “مخاوف المجموعة الدولية عليه (الأقصى) ليست بجديدة وتلبيتكم نداءها ليست بجديدة أيضاً إذ أنكم كنتم أول من تبرع لمنظمة اليونسكو بمبلغ من المال مكّن هذه المنظمة من وضع مسح علمي كامل عن حالة المسجد الأقصى وقبة الصخرة وصحتهما. وقد اكتملت الدراسة وحان بدء العمل فررنا النداء إلى العالم فكنتم سبَّاقين إلى تلبية النداء اليوم كما في الأمس” وجاء فيها أيضاً: “ومنظمة اليونسكو (…) تأخذ على نفسها تأمين اسلم طرق الترميم العملية الحديثة لما لها من دراية ومراس في هذا المضمار. والأهم من هذا تأمين سلامة سير الأعمال وهي القادرة لكونها منظمة دولية تابعة لهيئة الأمم المتحدة.

يظهر من هذه الرسالة أن الأمم المتحدة (من خلال اليونسكو) هي التي تضع يدها على مسألة الترميم وأن السعودية ومصر تدعمان إشراف الأمم المتحدة هذا.

وهناك خيار بأن تيدي كوليك رئيس بلدية القدس وجه رسالة قبل أيام إلى الشيخ سعد الدين العلمي مفتي القدس يعرض فيها أن تقوم البلدية بالإشراف على الإعمار والترميم، ولكن الشيخ العلمي رفض هذا العرض. مما دفع السلطات الإسرائيلية (من خلال بلدية القدس وكوليك نفسه) لأن تطلب رسمياً أن يكون الإشراف لها ولمهندسين من قبلها على عملية الإعمار والترميم ولكن الشيخ العلمي ومن معه من المشرفين على الأماكن المقدسة ما زالوا مصرين على الرفض.

وحسب ظننا فإن المشرفين على الأماكن المقدسة في القدس ما زالوا ينسقون مع الأردن ومع منظمة التحرير. وحين قرر الملك حسين الإعلان أنه سيرمم من أمواله اتصل بياسر عرفات في تونس ونسّق معه.

إذاً هناك أطراف ثلاثة تتنازع مسألة الترميم، أولها السعودية ومصر وتريدان إشراف الأمم المتحدة من خلال اليونسكو. وثانيها الأردن الذي يتشبث بإبقاء القدس والمقدسات والضفة الغربية والقضية الفلسطينية ورقة بيده كي لا يصبح معزولاً إذا سحبت منه. وثالثها إسرائيل التي تريد سبحها من الأردن لتصبح في يدها وليس في يد الأمم المتحدة. أما منظمة التحرير فهي حيرى تريد استرضاء السعودية ومصر فتتظاهر بموافقتها، وتريد التنسيق مع الأردن فتتظاهر بموافقته.

ومن المعلوم أن هناك قراراً للأمم المتحدة ينص على تدويل مدينة القدس أي وضعها تحت الإشراف الفعلي للأمم المتحدة. وهذا القرار هو بند من القرار 194 الذي أثيرت حوله زوبعة في أواسط أيار الماضي. ونورد هنا نص هذا البند (البند الثامن من القرار رقم 194 الصادر في 11/12/1948) [البند الثامن: تقرر أنه نظراً إلى ارتباط منطقة القدس بديانات عالمية ثلاث فإن هذه المنطقة بما في ذلك بلدية القدس الحالية يضاف إليها القرى والمراكز المجاورة التي يكون أبعدها شرقاً أبو ديس وأبعدها جنوباً بيت لحم وأبعدها غرباً عين كارم (بما فيها المنطقة المبنية في موتسا) أبعدها شمالاً شعفاط، يجب أن تتمتع بمعاملة خاصة منفصلة عن معاملة مناطق فلسطين الأخرى، ويجب أن توضع مراقبة الأمم المتحدة الفعلية].

فهل يكون ما تسعى إليه مصر والسعودية من إشراف الأمم المتحدة على الترميم هو توجه نوح تدويل القدس؟ لا نظن ذلك لأن هناك مؤشرات أن أميركا قد تراجعت عن ذلك وإن بشكل غير رسمي، وهناك مؤشرات أيضاً أن الفاتيكان تراجعت عن ذلك. وما تطالب به هذه الجهات الآن هو ضمانات لحرية الوصول إلى الأماكن المقدسة وحرية الممارسة للشعائر. (كانت الوعي تطرقت إلى موقف الفاتيكان الأخير من القدس في كلمة المحرر العدد 59).

أما المؤشرات إلى موقف أميركا الأخير فمنها ما قاله رئيس أميركا بوش لرئيس بلدية القدس تيدي كوليك في 27/05/92 بأنه يؤيد “حق اليهود” في العيش في القدس الغربية والقدس الشرقية، وأن سياسة الولايات المتحدة تجاه المدينة لم تتغير وفحواها أن القدس يجب “ألا تعود أبداً” مدينة مقسمة، وأن وضعها النهائي “يجب أن يقرر من خلال المفاوضات” وأصدر البيت الأبيض بعد اجتماع بوش – كوليك بياناً أشاد فيه برئيس البلدية كوليك وبسياسة التسامح واحترام السكان التي يعتمدها.

ومن هذه المؤشرات ما قاله بوش لكوليك في الاجتماع نفسه (في 27/05/92) أنه يتوقع من إسرائيل أن تجدد طلبها الحصول على ضمانات قروض أميركية قيمتها 10 بلايين دولار بعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في 23/06/92 بغض النظر عن الحكومة التي ستفوز فيها.

وهذا يعني أن الإصرار الإسرائيلي على عدم الانسحاب وعلى الاستمرار في مصادرة الأرض والاستيطان لا يزعج أميركا، وإذا كانت إسرائيل لا تتراجع عن أمور قليلة الأهمية، فهل تتراجع عن السيطرة على القدس وتقبل بتدويلها؟ ورغم العناد الإسرائيلي فإن بوش يعود إلى استرضاء إسرائيل ويعرض عليها أن تقدم طلباً للحصول على القروض.

ومن هذه المؤشرات أن أميركا أسقطت ضمنياً من حسابها جميع قرارات الأمم المتحدة التي لا ترضي إسرائيل ولم تبق إلا على قراري 242 و338، وذلك في بيان الخارجية الذي قرأته تاتوايلر في 18/05/92.وبذلك يكون قرار 194 الذي يتكلم عن تدويل القدس في بنده الثامن وعن عودة الفلسطينيين أو التعويض عليهم في بنده الحادي عشر يكون هذا القرار قد أسقط ضمنياً.

وكانت لعبةً ذكية من الصحافيين المؤيدين لإسرائيل حين ظلوا يلاحقون تاتوايلر ويسألونها عن موقف أميركا من هذا القرار وهي تتهرب من الإجابة إلى أن سقطت. (انظر المقال بعنوان “لماذا أثير القرار 194 الآن ثم طوي” في هذا العدد) £

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *