العدد 94 -

السنة الثامنة – رمضان 1415هـ -شباط 1995م

رأي

ورد للوعي هذا المقال وهي تنشره كما ورد حيث أن المجلة تعتزم أن تكون المقالات التي تنشر في هذا الباب معبرة عن رأي أصحابها بغض النظر عن مشاركة الوعي لهم في نفس الرأي، وإن كانت تنطلق من أن هذه المقالات تثري وعي المسلمين على قضاياهم.

أفول النجم الأحمر بين إباء الشيشان وشموخ القوقاز

بقلم: على طه

في حوار أجراه خبير الشؤون العسكرية لصحيفة (موسوكفسكي نوفوستي) مع أحد الطيارين المشاركين في تدمير (غروزني) صرح الطيار قائلاً: (يهذي من يزعم أننا استهدفنا مواقع عسكرية، ويدعي رسم أهداف لنا محرمة، كيف يستقيم ذلك مع تعتيمهم الإعلامية لنا بالقول بأن المدينة خاوية إلى من المجرمين والعصابات وأظن أن توجيه الطائرات للمدينة ضرب من البربرية والجنون، ويبدو الآن أنهم يريدون جعل المدينة عاليها سافلها ثم يبررون ذلك للرأي العالمي بالمقاومة الشرسة التي لاقوها) لكن هذه الوحشية في مواجهة بلاد القوقاز لها تقاليد روسية متأصلة، ويذكرنا التاريخ أن القيصر نيقولا أصدر مرسوماً بإحلال السلام بين شعوب الجبل القوقازي أو إبادة المتمردين. ودورة الزمان تعود، فقبل خمسين عاماً حاول قيصر الشيوعية ستالين إبادة الشيشان بقلعهم من جذورهم، يومها نفى نصف مليون نفس إلى قازخستان وسيبريا متذرعاً بتعاونهم مع الجيش النازي، هلك منهم مئتا ألف نفس من جراء القتل والمرض ومحاولات الهروب، وظل بقيتهم مهجرين حتى 1957 يوم سمح المؤتمر العام للحزب الشيوعي بإعادتهم لبلادهم لكن ستالين المتوحش فشل في إصلاح ما أفسد القياصرة أسلافه، وعاد الشيشان المسلمون إلى حصونهم الشامخة، تملأ قلوبهم فرحة العودة والسخط على الروس، لذا حق لهم أن لا يتناسوا ما جناه الروس عليهم وكيف ينسى الروس وتاريخهم بطولات الشيشان، لن ينسى الروس الإمام شاميل –أسد داغستان- الذي أذاق القيصرية الروسية الويلات طيلة خمس وعشرين سنة (1834 – 1859) وقد نجح الإمام شاميل في توحيد شعوب القوقاز ضد الغزاة تحت لواء الجهاد، حتى غدا أسطورة ومثلاً للجهاد في آسيا الوسطى الإسلامية كلها. في شهر تشرين الأول سنة 1991م نجح دوداييف في الانتخابات، وأعلن استقلال الجمهورية بعد ذلك بشهر، ترى هل نسى جوهر دوداييف أهمية القوقاز الإستراتيجية للدول الروسية؟ ظن أن العالم سيضع استقلال دول البلطيق ودول القوقاز في سلة واحدة؟ لا يعتقد ذلك، فالشيشان يعلمون أهمية بلادهم كحاجز استراتيجي للجنوب الروسي، والذاكرة تخبرهم بقول القيصر الروسي الكسندر الثاني (إن بلاد الشيشان الرشة التي أتنفس منها)، ولطالما سعت روسيا عبر التاريخ لتحصيل موضع قدم على المياه الدافئة، لكن الإعلام الروسي يحاول تضليل شعبة والعالم بالمزاعم التي يبثها ليبرر غزوه، من التدخل بقصد إيقاف الحرب الأهلية إلى إعادة الشرعية ومقاومة الإرهاب والتهريب المنظمين، وهو بمزاعمهم لا يخادعون إلا أنفسهم، ها هو ضابط روسي يعبر عن حيرة الجنود وزملائه متسائلاً عن التناقض الشاسع بين سياسة بلده تجاه الشيشان وتلك تجاه البلطيق فيقول: (إن بلاد الشيشان خضعت للسيطرة الروسية مائة عام أو يزيد، بينما رفرفت الأعلام الروسية على دول البلطيق ثلاثة قرون؟) لذا خيمت هذه الازدواجية على الروس، بل وعلى الغرب بأكمله.

إلا أن هناك مجموعة من العوامل الإستراتيجية والجيوسياسية تلقي ظلالها على هذا الغزو في هذا الوقت بالذات.

أولاً: جبهة الصراع الداخلي: تقول الحكمة السياسية (كلما ازداد عدد الحرس الجمهوري الخاص دل ذلك على هشاشة هيبة وأمن الرئيس) فأمام يلتسن هدفان: إما أن يثبت موقفه المستبد وصلاحياته المطلقة وينفذ هيبته التي تدهورت كثيراً فيؤهله ذلك للفوز بالانتخابات المقبلة، أو أن يخلق الظروف الكفيلة بإلغاء الانتخابات. مما يؤكد هذه السياسة ظهور فريق ثلاثي –ويزيد- حول الرئيس (خراتشوف وزير الدفاع، لوبوف رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، كورشاكوف رئيس الحرس الجمهوري الخاص)، ويبدو أن شبه تحالف قد نشأ بينهم وبين يلتسن فحواه قطع كل السبل الاقتصادية والإعلامية على المرشحين المنافسين للرئيس، وليس من قبيل الصدفة قيام فرقة من الحرس الجمهوري باقتحام مجمع بنك “موست” في موسكو مباشرة بعد أول محاولة لاقتحام غروزني أول كانون الأول المنصرم، والذي يعرف أن رئيس المجمع المذكور فلاديمير جوزنيزكيف صاحب إمبراطورية مالية وإعلامية على غرار مثيله برلسكوني الايطالي. يعلم كذلك أن عمدة موسكو يريد دفع فلاديمير كمنافس ليلتسين في الانتخابات المقبلة، يدرك أبعاد الخطة السياسية.

الخلاصة: كتب لوبوف رئيس مجلس الأمن القومي في صحيفة الجيش في ديسمبر الماضي يقول: (لقد اضطرتنا الأحداث في بلاد القوقاز لمراجعة مسألة هيبة الجيش، فيجب توفير كل اللوازم للجيش، وسيصبح الجيش كما كان دوماً أفضل الجيوش في العالم، ذلك لأن روسيا كانت عبر التاريخ وستبقى دولة الجيش).

ثانياً: الدوافع الإستراتيجية: يمثل الهجوم على غروزني نموذجاً للالتزام بالامبريالية الروسية فهو من جهة ضربة معلم تأديبية لكل كيان يفكر بالانفصال عن الاتحاد الروسي، ومن أخرى رسالة موجهة لكل من أميركا والغرب الأوروبي، فبعد تصريح يلتسين إثر مؤتمر التعاون والأمن الأوروبي في بودابست برفضه ضم الدول الشرقية لحلف الناتو، أعلن كذلك أن العالم يواجه اليوم سلاماً بارداً، صحيح أن أميركا تريد أن تبقى روسيا في أوروبا شبحاً يخيفهم، لذلك يسرها أن يحالف الروس الصرب لأجل إظهار عجزهم وحاجتهم للمظلة الأميركية، لكن الصحيح أيضاً أن أميركا تحاول بجهد حثيث كسب مناطق نفوذ في جمهوريات آسيا الوسطى خاصة الإسلامية، ولا يوضح ذلك إلا موازين وقوانين اللعبة الدولية، لعبة المصالح.

خلاصة رسالة روسيا: إذا استمر حلف الناتو في التوسع حتى حدود روسيا فسندق أوتاد راسخة على جبهات القوقاز الإستراتيجية.

ثالثاً الدافع الاقتصادي: أرادت روسيا كذلك من ضرب الشيشان كسب مشروع خط أنابيب نفطي عبر أراضيها، إذ عقد الرئيس الآذري علييف صفقة مع مجمع غربي للنفط، ومن ضمنه شركة أموكو الأميركية خامس شركة نفط في أميركا في الصيف المنصرم، يقضي الاتفاق بمد أنابيب نفط ثلاث من بحر الخزر عبر الأراضي التركية حتى مياهها على البحر الأسود، يومها أحست روسيا بنزعة الشيشان الانفصالية، لكن روسيا تريد الأنابيب عبر أراضيها فالبحر الأسود لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، ونظراً لقابلية الأراضي الجورجية العالية للزلازل يرتقب ترجيح الخيار الشيشاني عبر الأراضي الشيشانية. أما أميركا فقد دعمت موقف استانبول ربيبتها في تلك المنطقة، وقد سبق وزودت وزارة الطاقة الأميركية 000 المشروع البترولي عبر تركيا، حصل ذلك لما حاول نائب وزير الطاقة الأميركي وليام وايت التهويل نتائج وأثار البترول العائم على المياه الروسية في أكتوبر المنصرم، ولا شك أن وزارة الطاقة كانت 000 من قناة شركة أموكو التي تربطها بها علاقة حميمة.

الخلاصة: غزو بلاد الشيشان مناورة في الظل من شمال القوقاز حتى باكو عاصمة أذربيجان، إن من 000 للجميع أن الميزان العسكري في صالح روسيا –ومتى كان أصلاً في صالح المسلمين أو المقهورين؟-، الصراع سيفتح آفاقاً جديدة في تلك المنطقة تصب في طاحونة الصراع الحضاري بين المسلمين والروس وحتى لو أباد الروس بلاد الشيشان فلن يغلبوهم كما صرح بذلك جوهر دوداييف، وانظروا في 000 الشيخ منصور وكاترين الثانية، كذا الإمام شاميل والجنرال جيرمولوف.

ومن المؤكد أن الروس لن يجدوا ببساطة عميلاً لهم ينصبونه على رأس دبابة، فقد ذاع عن الشيشان تماسكهم وصلابة موقفهم، حتى خصوم دوداييف سارعوا لجندته، وقديماً قال الجنرال جيرمولوف (إن ما أحتاجه لإخضاع الشيشان هو رجل عميل واحد)، فهل سيجد يلتسين واحد مقبولاً من الشعب 000 يقودهم أذلة صوب روسيا؟

وأخيراً: هل ستتحمل روسيا المقاومة الشعبية في الجبال الوعرة الشامخة، والطرق المتعرجة، وهل النظام الروسي المترهل النفس الطويل أمام المقاومة مع ما يجره ذلك من دماء وقتلى، مما لا شك فيه روسيا لن تصمد كما صمدت بريطانيا تجاه الجيش الايرلندي، فالأولى مهتزة العروش خائرة القوى، بيد تملك الثانية نظاماً للدولة مستقراً ثابت القواعد.

مع تسارع الأحداث وطبية المقالة وزمنها واستمرا القصف الوحش الأبدي لغروزني، ننتظر بأمل 000 الرجاء أن يوفق الله تلك الشعوب لإثبات حضارتها، ومقاومة مسخها، فإن عجزت عن رد المعتدي فلن 000 عن تشكيل فرق المقاومة الشعبية، لكي تكون بلاد القوقاز أفغانستان ثانية للروس المتوحشين، فهنيئاً للأبطال وتعساً للمتآمرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *