العدد 101 -

السنة التاسعة – ربيع الآخر 1416هـ -أيلول 1995م

الرأي العام

بقلم: محمد عبد القادر

ما هو المطلوب من مريدي التغيير؟ الانطلاق من الرأي العام ومجاراته، أم صياغته من جديد؟

من المؤكد والمُسلم به أن كل تحول في حياة الناس يسبقه تحول فكري مهد له. فإن الأوضاع التي تسود الآن حياة الناس قد نتجت عن تحولات فكرية غيرت قناعات الناس ومفاهيمهم ومقاييسهم، أي نتجت عن تغير في الرأي العام. يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).

وعلى هذا فإن التغيير لن يكون بمجاراة الواقع ولا بمسايرته ولا باتخاذ الأوضاع الفاسدة مصدراً للتفكير، فذلك يؤدي إلى إقرارها وتحذيرها. أما التغيير الصحيح فيقتضي صياغة الرأي العام صياغة جديدة وذلك بمخالفته ابتداءً وتغييره حتى يتماشى مع ثقافة المبدأ، وذلك ما عبر عنه تقي الدين النبهاني بجعل الواقع موضعاً للتفكير، أي يفكر فيه ليغير وفق معالجات المبدأ.

ونظرة بسيطة للقرآن مع قراءة متمعنة ترينا كيف أنه واجه الرأي العام ولم يجاريه… ألم يتوالى نزول الآيات وفيها نقض لعقيدة الشرك التي كانت طاغية على الرأي العام الجاهلين قال تعالى: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).

وفيها بيان لفساد الأنظمة (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)، (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)، وفيها كشف لزيف زعامات رؤوس الكفر (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)، (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)… والكثير من الأحداث التي وقعت للرسول الكريم ولأصحابه، وصاحبها رأي عام نجد القرآن يواجه ذلك الرأي العام ويبين فساده (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ).

والله تبارك وتعالى حذر رسوله صلى الله عليه وسلم من خشية الرأي العام أو الانسياق خلفه حيث قال: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وقال: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ… ) والقرآن لم يواجه فقط الرأي العام الفاسد بل عمل على صياغته بما يورده من مفاهيم وبما يقدمه من حجج وبراهين. ونهج القرآن الكريم هذا فيه مواجهة وتصد ونقض وبيان فساد وتكذيب ادعاء وكشف المغالطات ومحاولات قلب الحقائق. إن القرآن يبرز هذه الحقيقة قائلاً: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ).

كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم الرأي العام وكيف صاغه؟

تَقَصَد الرسول صلى الله عليه وسلم إيجاد رأي عام، فأثناء صراعه الفكري برزت أفكار الإسلام وظهرت الدعوة في المجتمع وفرضت نفسها، ففي كل بيت يتحدث عن محمد وأصحابه، وكل حي حتى جلسات بيت الندوة وأصبحت كلها تُعْقد للنظر في الدين الجديد وفي طرق مواجهته، ففي أحد هذه الاجتماعات قرر المشركون اغتيال محمد، وفيها قرروا تعذيب الصحابة والمقاطعة، وعلى إثر أحد هذه الاجتماعات أرسلوا وفداً يفاوض أبا طالب ليرد ابن أخيه أو يخلي بينهم وبينه، وعرضوا عليه أن يسلمهم محمداً ليقتلوه ويعطوه أحد أبنائهم عوضه، ومن بيت الندوة أخذوا القرار بإرسال أبي سفيان وعمرو بن العاص لإرجاع المهاجرين من أرض الحبشة، وفي اجتماعاتهم قرروا منع الحجاج من الاستماع إلى محمد وعينوا من يجلس وراءه ليحدثهم ويصرفهم عن الاستماع له… فكل هذه الإجراءات وغيرها ما استطاعوا الإقدام عليها لو لم يكن هناك رأي عام مضاد لمحمد صلى الله عليه وسلم في مكة، فعندما كان يعمل محمد صلى الله عليه وسلم على طلب النصرة عارضاً نفسه على القائل كان الكثير منها يرده رداً فيه استضعاف له واستخفاف به، بل وصل الأمر بثقيف أن أغروا به أطفالهم وسفهاءهم يرمونه بالحجارة، وهذا يدل على أن الدعاية المضادة سبقت الرسول الكريم إلى القبائل وكان لها أثرها فكانت المعاملة الفظة والغليظة وكان الرد الخائب وقد بلغ من تأثير الدعاية المضادة أن جعلت قبائل العرب تنتخب منها فتياناً لقتل محمد فيهدر دمه بين القبائل ولا تقو بني هاشم على محاربة القبائل، لكن الله قدر غير ذلك (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ).

ألم تقبل القبائل مجتمعة ومعها اليهود وأحاطت الجيوش الجرارة بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم وكانت غزوة الأحزاب والتي قرر فيها المشركون والكفار من أهل الكتاب جميعاً القضاء النهائي على محمد وأصحابه ودعوته ودولته. صحيح أن الدين الجديد ذاع صيته وتحدثت القبائل والعالم به، إلا أن الدعاية المضادة كانت أقوى وأبلغ أثراً، ولولا أن الله صرف لمحمد بعضاً من الأنصار آمنوا به وبدعوته وأعطوا المواثيق على نصرته وعلى إيصاله لتحقيق مبتغاه لما كان إسلام ولما وجد مسلمون ولما تحققت دولة. فالعالم كله تصدى له ولدعوته، والأنصار على قلتهم آمنوا به وآزروه وقبلوا أن يذودوا عنه وعن دعوته كما يذودون عن أطفالهم نسائهم، وبخلاف المدينة والتي كانت ميداناً خصباً للدعوة فالكل يعادي الدعوة ويواجهها ويؤلب عليها. ومن أمثلة الرأي العام المضاد الذي صاغه الكفار ضد محمد ودعوته الآتي: في حادثة الإسراء والمعراج جاء أحد المشركين قائلاً لأبي بكر: إن صاحبك يقول إنه قد أسري به إلى بيت المقدس، فرد عليه أبو بكر قائلاً: والله لو يقول إنه أُعْرِجَ به إلى السماء لصدقته.

وحاول الكفار تأليب الرأي العام على الرسول حين قاتلهم في الأشهر الحرم فنزلت الآية (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ).

وحاولوا أن يثيروا الناس على محمد الذي يدنه يسوي بين العبد والسيد ويجعل ميزان التفاضل بين الناس في التقوى، كما حاول الكفار من اليهود والنصارى إثارة أهل الكتاب على محمد الذي حَوَّلَ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

وقد جمع الكفار القبائل وكان رأياً عاماً مقاطعة محمد وبني هاشم في شعاب مكة وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها على باب الكعبة ولم يقطعوها هم ولم يقطعها بني هاشم وإنما أرَضه أرسلها الله أكلت كل ما في الصحيفة ولم تترك إلا باسمك اللهم.

ومن الأفكار التي عبأوا بها الرأي العام وصفهم الرسول الكريم بالساحر وبالمجنون وبأنه جاء بما يفرق به بين المرء وزوجه وبين الأخ وأخيه وبين الأب وابنه، وقالوا بأنه كاهن وصابيء خالف قومه وعاداهم وخالف عقيدة الأجداد والآباء وتقاليدهم، كما وصفوا الصحابة بأنهم غلمان سفهاء معيرين محمداً بكون ما اتبعه إلا أراذلهم.

يتبع العدد القادم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *