العدد 101 -

السنة التاسعة – ربيع الآخر 1416هـ -أيلول 1995م

ماذا تحوي وثيقة مؤتمر بكين

بقلم الأستاذ: أبو الفضل الشعراوي

 كتب الكثيرون عن مؤتمر المرأة في بكين، ولكن قليلون هم الذين تعرضوا للبنود التي حوتها الوثيقة، أما الصراع الحضاري الذي يمثله عقد المؤتمر، فلم يتعرض إليه أحد حتى الآن، فكل الانتقادات انصبت على النظرة السطحية لعلاقة الرجل بالمرأة، ومحاولة المرأة الإفلات من قبضة الرجل، أي أن الانتقادات تركزت على الجانب الأنثوي، والذكوري، وعلى ظلم الرجل للمرأة الأنثى، وامتدت الانتقادات لتشمل الشذوذ الجنسي الذي تدعو له الوثيقة. وقد شارك بعض الكتاب بالعربية في تضليل القراء بعناوين تحصر الموضوع في صراع يشوب علاقة الرجل بالمرأة في عناوين مثل [النساء قادمات والرجال مذعورين]، وهذه نظرة مغرقة في السطحية أو التضليل، وفي صف هذه الهمروجة الإعلامية والكرنفال العالمي في بكين. وبالتدقيق في الوثيقة يمكن الاستنتاج أن المؤتمر هو من صنع أميركا، ولكنه ممهور بخاتم الأمم المتحدة التي تهيمن عليها أميركا هيمنة كاملة، ويعد هذا المؤتمر من ضمن سلسلة المؤتمرات التي تدعو لها أميركا وتنظمها لبرمجة العالم عسكرياً واقتصادياً وسكانياً وأسرياً، وكل ذلك يصب في النهاية في خدمة النظام العالمي الجديد الذي تنادي أميركا بتعميمه، ويبدو أن النظام العالمي الجديد من وجهة النظر الأميركية يعني هيمنة أفكار وأنظمة الغرب الرأسمالي المتجسدة في زعيمة هذا الغرب (أميركا) على جميع الأمم والشعوب بعامة، وعلى العالم الإسلامي بخاصة ومن الخطأ حصر المناداة بالنظام العالمي الجديد في الشؤون العسكرية أو في السياسة الدولية، فالظاهر أن أميركا تريد تعميم وجهة نظرها في الناحية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بل تريد فرضها فرضاً عن طريق الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها، إذن المسألة ليست فقط تفرد أميركا في القرار الدولي، بل تتعداه إلى هيمنة طريقة عيشها على باقي الشعوب، حتى أن اختيار بكين التي كانت حصناً للشيوعية يعد مؤشراً على هذا الغزو الأميركي الرأسمالي.

أما دلائل ذلك الاستنتاج من خلال الوثيقة فقد ورد في البند 503 عبارة تشير إلى هذا المؤتمر [جزء لا يتجزأ من عملية البرمجة الأوسع] التي سيتم تنفيذها من الآن حتى عام 2000، أما في المقدمة فقد وردت عبارات مشابهة مثل [المناخ العالمي] و[التغييرات العالمية، والألفية الجديدة والقرن الجديد].

وتنص الوثيقة على أن ما ورد فيها ملزم لكل من يوقع عليها، وتطالب بالحد من أي تحفظات قد تصدر من المؤتمرات على بنود الوثيقة، وإلى وجوب سحب التحفظات السابقة عن الاتفاقات السابقة، وجاء ذلك في بند 230ح، 230د، 230ج، وتنص الوثيقة على إلزام الحكومات بتنفيذ ما ورد فيها من مطالب مع إخضاعها للرقابة والمساءلة (بند 286)، وتنص على أن هذا البرنامج أو المخطط هو عبارة عن جزء لا يتجزأ من عملية البرمجة الأوسع التي ستقوم منظمات الأمم المتحدة بكل هيئاتها ومؤسساتها بتنفيذها في الفترة بين عام 1995 وعام 2000 (بند 305).

هذا في الخطوط العريضة، أما في التفاصيل فقد تحدثت الوثيقة عن النوع والشذوذ الجنسي والأمن القومي والدين.

أما عن النوع فقد ركزت الوثيقة على حرية الإنسان (ذكراً كان أم أنثى) في تغيير جنسه من الذكورة إلى الأنوثة أو العكس ذلك تسهيلاً للطريق أمام الاعتراف الرسمي بالشاذين من اللواطيين والسحاقيات والمخنثين وإدراج حقهم في الشذوذ ضمن حقوق الإنسان، ويتفرع عن ذلك حق الذكر بالزواج من ذكر والأنثى من أنثى، والاعتراف بكيانهم الشاذ باعتباره أسرة، والاعتراف بالأطفال الذين يُضمون إلى هذه الأسرة الشاذة بواسطة التبني أو التلقيح الاصطناعي للسحاقيات أو نظام (تأجير البطون).

أما عن الشذوذ الجنسي فقد وردت مطالب سبق أن وردت في مؤتمر السكان الذي انعقد في القاهرة، ومن هذه المطالب حق المرأة والفتاة بالتمتع بحياة جنسية آمنة مع من تريد، وفي أي سن كان، وليس من الضروري حصول هذا التمتع داخل إطار الزواج الشرعي أو المتعارف عليه، مع تقديم النصيحة لهن حتى يكون هذا التمتع مأمون العواقب من حيث انتقال عدوى الإيدز أو من حيث تعرضهن للعمل في حال عدم الرغبة في الإنجاب، وتتناثر هذه العبارات الإباحية في طول الوثيقة وعرضها لكنها تبدو واضحة التركيز في الفصل الرابع من بند 91 حتى 106.

وفي البند 232 وردت عبارة تطالب الحكومات [بمنح الأولوية لتعزيز وحماية تمتع المرأة والرجل بالكامل وعلى قدم المساواة بجميع حقوق الإنسان والحريات دون أي نوع من التمييز]، وتحض الحكومات على [الاهتمام بتلبية الحاجات التثقيفية والخدمية للمراهقين والمراهقات ليتمكنوا من معالجة الجانب الجنسي من حياتهم معالجة إيجابية] بند 267، وتطالب الوثيقة بإعطاء الحق للمراهقات الحوامل بمواصلة تعليمهن من دون إدانة أو استنكار لطريقة حصول الحمل عن طريق الزنا (بند 82ز، 85 ق).

وترى الوثيقة أن الزواج المبكر يعوق المرأة (بنود 41، 72، 95، 108) وفي هذا تناقض مع البنود التي تعطي الحق للمراهقات بالمعاشرة الجنسية والحمل بالسفاح ولا يعد هذا مبكراً ولا معيقاً، بينما إذا تزوجن زواجاً شرعياً يعد ذلك مبكراً ومعيقاً؟!

فالوثيقة تطالب برفع سن الزواج وتستنكر الزواج المبكر، وتطالب في الوقت نفسه بالحرية الجنسية للفتاة والمراهقة والمرأة في كل الأعمار.

وحينما ترد كلمة الوالدين في الوثيقة يرد إلى جانبها (أو كل من تقع عليه مسؤولية الأطفال مسؤولية قانونية) بند 79، 85 ب، 107، ط، ل، 108 هـ وفي هذا تسهيل للأزواج الشاذين (ذكرين أو انثيين) للحصول على حق الحضانة للأطفال بواسطة التبني أو التلقيح الصناعي أو ما شابه ذلك مثل الشراء، وتشير الوثيقة إلى حق الرجال الشاذين في الحصول على [إجازة والدية] تماماً كالنساء ليتمكنوا من تربية الأطفال، والوثيقة لا تستخدم كلمة الزوج والزوجة، وتستعيض عنها بكلمة الشريك أو الثنائي، والتي تؤكد الاعتراف بأية علاقة ثنائية تحصل خارج الزواج الشرعي (بند 91 حتى بند 100)، وتطالب الوثيقة بالحق في السرية المطلقة في الحياة الجنسية لكل الأعمار وللجنسين.

أما في تعرض الوثيقة للدين فإنها تربطه بالتطرف، وتعده من العوائق في وجه المرأة (بند 48) وهو ما أطلقت عليه: إعطاء الأولوية لتعزيز وحماية تمتع المرأة والرجل بالكامل وعلى قدم المساواة بكل حقوق الإنسان والحريات الأساسية من دون أي نوع من التمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أما تعرضها لما أسمته بالأمن القومي، فإنها تطالب الحكومات بالعمل على تخفيض النفقات العسكرية وتحويل هذه الموازنات للأغراض الإنمائية لمصلحة المرأة (ربما لتأمين المكياج وحبوب منع الحمل وما شابه ذلك) وجاءت النصوص كما يلي: [التخفيض المناسب في النفقات العسكرية المفرطة بما في ذلك الاتجار بالأسلحة عالمياً وإنتاج الأسلحة وحيازتها وضرورة تسجيل تطوير الأسلحة الهجومية وإنتاجها وتوزيعها وبيعها والقضاء عليها نهائياً وجعل الإبلاغ عنها إلزامياً ويشمل ذلك جميع الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية] بند 145أ، 145ب، 145هـ.

وتطالب الوثيقة بإعطاء صلاحيات واسعة للمنظمات النسائية والمنظمات الحكومية الأخرى ومنظمات السحاقيات (تمثل 10% من المنظمات النسائية في الغرب)، وذلك لتمكينها من التدخل في كل المجالات والعمل على تعديل القوانين والقيام برصد ومتابعة تنفيذ وتقيد الحكومات بهذه القرارات وإبلاغ الأمم المتحدة عما يتم تنفيذه منها (بند 62 ب، 242). وحتى يتحقق الضغط على الحكومات لتنفيذ ما صدر من قرارات فإن الوثيقة تقول: [لا بد من دعوة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى دعم هذه الجهود] البند 350، وذلك إضافة إلى الكثير من المؤسسات المالية الغربية الأخرى.

بعد هذه المقتطفات هل أدرك القارئ أن المسألة ليست مسألة ذكر وأنثى، وليست مسألة تعرض المرأة للضرب ولا هي مسألة حقوق مهضومة. المسألة تدخل ضمن صراع الحضارات، وضمن فرض الحضارة الغربية بواسطة أميركا والأمم المتحدة على كل شعوب الأرض وعلى العالم الإسلامي بصورة خاصة،وذلك ضمن برمجة مسبقة للأسرة والمجتمع والاقتصاد والعسكر، وحتى برمجة العقول، وليس بعيداً عن هذا التوجه ما يخططه اليهود أيضاً لهدم كل القيم وكسر تحكم الدين وتحطيم الأسرة وتخريب المجتمع. وأميركا ذات المجتمع المفكك والأسر المحطمة والتي تسودها كل المفاسد لا تطمئن على مستقبلها وتريد دفع الأمم الأخرى إلى الفساد وفيتساوون معها في الضعف المجتمعي، وتتفوق عليهم في القوة العسكرية. أما نساء العالم الثالث (ومنه العالم الإسلامي) فقد شارك بعضهم في المؤتمر المذكور عن جهل عند البعض، وعن علم عند البعض الآخر، ولكن هذه المشاركة في النواح واللطيم مع نساء الغرب الفاهمات لما تخططه دولهن يعتبر جريمة لأن وجودهن في المؤتمر لا يقدم ولا يؤخر فالقرارات مرسومة سلفاً وموضوعة من قبل العدو الغالب المتحكم الذي يخطط لهن فينفذون، ولا ينفع البكاء على منبر مؤتمر بكين، وإذا سمح لهن بالحضور أو التكلم في المؤتمر فإن ذلك حصل لك يُضفي على المؤتمر الطابع العالمي، ولكن تصبح قراراته ملزمة للجميع، تماماً مثلما حصل في حرب الخليج حينما حشدت أميركا قوات رمزية من 33 دولة ومنها دول عربية.

بقي أن نشير إلى أن الإسلام ليس عند مشكلة في علاقة الرجل بالمرأة، والمجتمع الإسلامي ليس فيه علاقة صراع بين ذكر وأنثى، فالمرأة المسلمة قانعة بما أعطاها الإسلام من حقوق وما رتبه عليها من واجبات، والرجل المسلم قانع بما أعطاه الإسلام من حقوق وما رتبه عليه من واجبات (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

ومن الخطأ النظر إلى المرأة الغربية باعتبارها (الموديل) القدوة، وبالتالي قياس أوضاعنا على أوضاعها ومعرفة الفوارق، فيما يعدّوه هم إيجابية للغربية يعده المسلمون سلبية، وما يعدّوه تقدماً عند الغربية يعدّه المسلمون رجعية حيوانية بهيمية.

ولا ندري ما هي الحلقة التالية في سلسلة المؤتمرات الأميركية: مؤتمر السكان، مؤتمر الأرض، مؤتمر الغاب، مؤتمر المرأة…. الخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *