العدد 110 -

السنة العاشرة – ربيع الأول 1417هـ – تموز وآب 1996م

الملف السياسي: الفكر السياسي في الإسلام

الملف السياسي:

الفكر السياسي في الإسلام

بقلم. الأستاذ: فتحي عبد الله

  الفكر هو الحكم على واقع ما، كائنا ما كان هذا الواقع. والتفكير هو العمليّة الدماغية التّي يجري بها إصدار الحكم على هذا الواقع أو ذاك مما يقع في متناول الحوّاس الخمس. وما لا يقع تحت هذه الحواس الخمس المعروفة لا يسمّى واقعا وإنّما هو خيال. والفكر أو العقل أو الإدراك بمعنى واحد… فكلمة العقل تعني الربط، يقال عقلت البعير ربطته. وهذا العقل أي الربط في العمليّة الدماغية أي في عملية التفكير هو ربط للواقع المحسوس الذّي نقلته إحدى الحوّاس الخمس إلى الدّماغ بما لدى الإنسان من معلومات سابقة فيجري عندئذ إصدار الحكم على هذا الواقع أي إدراكه… وتكون صحّة هذا الحكم أو بطلانه وقفا على صحّة المعلومات السابقة أو بطلانها. وبناء على هذا الحكم الصادر عن العمليّة الدماغيّة أي عن التفكير أو عمليّة الربط أي العقل يجري اتخاذ الموقف وتبنّي الرأي تجاه هذا الواقع الذّي جرى الإحساس به أي كان واقعا تحت الحسّ العقلي. وعليه يكون تعريف العقل أنّه نقل الواقع الماديّ على الدماغ بواسطة الحوّاس ووجود معلومات سابقة يفسر بها هذا الواقع. ونحن هنا في البحث لا نريد أن نتعرض إلى ما قاله المفكّرون والفلاسفة القدامى والمعاصرون في معنى العقل وتعريفه ولا لمن أخطأ منهم في ذلك أو أصاب… فإنّ مناقشة ذلك تحتاج إلى أسفار ومدوّنات كثيرة تضيق بها المكتبات الخاصة والعامّة… بل نودّ أن نتعرّض لواقع هام جدّا لبني الإنسان في كل زمان ومكان هو واقع التفكير السياسيّ من حيث هو، وواقع الفكر السياسي عند المسلمين بوجه خاص

إنّ التفكير السياسي هو أعلى أنواع التفكير وضروبه على الإطلاق، وأرقى ضروب هذا التفكير السياسي هو ذلك التفكير المتعلق برعاية شؤون الإنسان من زاوية خاصة، أي من وجهة نظر معيّنة في الحياة . وقل أن نتعرّض هنا لواقع الفكر السياسي من حيث هو لابدّ أوّلا وقبل كلّ شيء من معرفة واقع السياسة من حيث هو لابدّ أوّلا وقبل كلّ شيء من معرفة واقع السياسة من حيث هي بغضّ النظر عن وصف هذه السياسة ،إسلامية كانت أم غير إسلامية، ليتسنى لنا بعد ذلك معرفة الفكر السياسي وكيف يجب أن يكون هذا الفكر. فالسياسة هو رعاية الشؤون، يقال في اللغة ساس الأمر دبّره ورعاه وتدبير الأمر، أيّ أمر، ورعايته، يعني الإحاطة به من جميع جوانبه كي يستقيم ويستقر، سواء أكان ذلك من الأمور الداخلية أم الخارجيّة.

والإنسان بطبعه سياسيّ يرعى شؤونه هو نفسه ويقوم على تدبيرها، فهو مفطور على تدبير شؤونه ورعايتها بحكم غريزة البقاء التي أودعها الله تعالى فيه، فهو يرى أوّلا بقاءه ثم بقاء أسرته ثم بقاء عشيرته ثم بقاء قومه ومن ثمّ بقاء أمّته ثم بقاء البشريّة جمعاء عندما تتسع نظرته إلى الحياة وأمورها ويتسّع أفق التفكير لديه حين تصبح نظرته إلى الحياة عالميّة غير محدودة بقوم أو أمّة أو إقليم أو مصر من الأمصار.

ورعاية الإنسان لشؤون نفسه بحكم غريزة البقاء لا يمكن فصلها كذلك عن غريزة النوع وغريزة التديّن لأنّ هذه الغرائز جميعا طاقات حيويّة ضروريّة الإشباع تدفع الإنسان إلى إشباعها. وإشباعها هذا يجب أن يكون إشباعا منظما حتى لا تشبع غريزة على حساب غريزة أخرى مما يحدث القلق والاضطراب، ويترتّب عن ذلك شقاء إنسان… أمّا تنظيم هذا الإشباع فهو تنظيم متفاوت متناقض ومختلف إذا ترك أمره للإنسان وحده ينظّمه… فالعقل متفاوت عن بني البشر ومتناقض ومختلف لتفاوت المقاييس وتناقضها واختلافها عندهم بحكم البيئة أو المحيط الذّي يعيشون فيه حتّى أنّ التفاوت والتناقض والاختلاف موجود عند الشخص الواحد بعينه، فهو قد يرى الشيء أو العمل حسنا اليوم ثمّ يراه قبيحا.. فالأحكام العقلية على وقائع الحياة عنده تكون متناقضة ومتفاوتة ومختلفة من حين إلى آخر ومن مكان إلى مكان آخر وهكذا. ولذلك لا يجوز ترك أمر تنظيم إشباع الغرائز والحاجات العضويّة للإنسان لأن ذلك سينتج النظام المتناقض المتفاوت المختلف المؤدّي إلى شقاء البشريّة وعدم طمأنينتها، وما شقاء العالم اليوم في ظلّ النظم الوضعية إلاّ الدليل على ذلك… فأنت لا يكاد يمضي يوم إلاّ وتسمع أو تقرأ عن تعديل القوانين والدساتير في سائر أنحاء العالم… ومن هنا جاءت حاجة النّاس للرسل ومن هنا كانت هذه الحاجة ومازالت قائمة حتّى يرث الله الأرض ومن عليها. فالإنسان مخلوق لله تعالى وهو الذّي أودع فيه الغرائز والحاجات العضويّة… وهذه كلها طاقات حيويّة منها ما هو مستلزم الإشباع كالحاجات العضويّة مثل الجوع والعطش وقضاء الحاجة،وما إلى ذلك، فإذا لم يشبعها الإنسان يهلك، ومنها ما هو ضروريّ الإشباع إذا لم يشبعها الإنسان يقلق ويضطرب ويتألّم ويشقى فضلا عن فقدان الطمأنينة كغريزة البقاء التّي من مظاهرها حب التملّك وحب السيادة والدفاع عن النفس وغيرها من المظاهر وكغريزة النوع التّي من مظاهرها الميل الجنسي والأبوّة والأمومة والأخوّة وصلة الرحم وكغريزة التديّن ومظهرها التقديس الناجم عن العجز والنقص والاحتياج في الإنسان إلى الخالق المدبّر…

ولمّا كان هذا الإنسان مخلوقا لله تعالى فإن العلاقة قائمة بين المخلوق والخالق قطعا ولا بدّ من تنظيم هذه العلاقة… وبما انّه لا يتأتّى لهذا الإنسان المخلوق إدراك ذات الخالق مع حقيقة إدراكه لوجوده.

فإنّه لا يتأتّى له أن يضع النّظام الذّي ينظّم علاقته بخالقه بل إنّ تنظيم هذه العلاقة آت بداهة من الخالق المدبّر الذّي يدرك مخلوقه ويعرف ما الذّي يسعده وما الذّي يشقيه فيضع له النظام الذّي ينظم إشباع غرائزه وحاجاته العضويّة ويؤدي إلى سعادته وطمأنينته.

وحتى يبلّغ الخالق مخلوقه هذا النظام، اختار الله تعالى من البشر رسلا وأنبياء يبلّغون النّاس دين الله ونظمه وكان آخرهم سيد الخلق سيّدنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، أرسله بالإسلام دين الحق إلى النّاس كافة وهو ختام النبوات والرسالات ولا نبيّ بعده حتّى تقوم السّاعة. أرسله الله تعالى بالإسلام لتنظيم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من النّاس وحياته سائرة ضمن هذه العلاقات الثلاث التي لا رابع لها…

وعليه فالإنسان كما أسلفنا سياسيّ بطبعه ينظم شؤون حياته ويحاول أن يرعاها على أحسن الوجوه…والذّين يقولون إنّ للسياسة رجالها ,أهلها واهمون أو مخطئون وواقع الحال أنّهم مضللون. وقد انبثق هذا القول وشاع في الأرض إثر ظهور العقيدة الرأسمالية في أوروبا بعد ذلك الصراع المرير الذّي دار فيها بين المفكّرين والفلاسفة من جهة والكنيسة ورجالها من جهة أخرى… هذه العقيدة التّي تقرّب بين الحق والباطل وبين النّور والظلمات وبين الجنّة والنّار هي عقيدة الحلّ الوسط عقيدة فصل الدّين عن الحياة والتّي ينشأ عنها ما يسمّونه فصل الدّين عن الدّولة أو عن السياسة ، مخالفين بذلك فطرة النّاس وغير قائمين به على العقل…. فهم يستوي لديهم المنكر لوجود الله والمعترف بوجوده، محاولين بذلك التقريب بين الحقّ والباطل، فقاموا على الحق الوسط وليس على العقل في الوقت الذّي ناقضوا فيه بهذا الحل فطرة الإنسان الذّي يتجلّى منه العجز والنقص والاحتياج أي ناقضوا فطرة التديّن وهي تقديس الإنسان لخالقه في كلّ أعماله حين يقوم بتنظيمها لإشباع الغرائز والحاجات العضويّة وفق أوامر الله ونواهيه… فقالوا إن هذا الخالق في السماء وليس في الأرض… فعلى هذه الأرض نحن المسؤولون ولا علاقة له بتنظيم شؤوننا (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) فخرجوا بذلك عن الفطرة وأشركوا بالله فضلا عن الجريمة الكبرى التي ارتكبوها بحقّ الإنسانية جمعاء في أنهم أشاعوا فلسفتهم الفرديّة الجشعة في مجتمعات الدنيا “هذا الرغيف آكله أنا لا أنت” فأوقعوا النّاس في دوّامة اللهاث وراء المنافع الفرديّة الأنانيّة وجعلوا مقاييس الأعمال عندهم النفعية مما أوجد الجشع والطمع والأحقاد والشحناء والبغضاء بين البشر….

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *