العدد 113 -

السنة العاشرة – جمادى الثانية 1417هـ – تشرين الثاني 1996م

دروس من منهج الدعوة الانتقال إلى دور التفاعل لا يوجب إظهار الكتلة مباشرة

دروس من منهج الدعوة

الانتقال إلى دور التفاعل

لا يوجب إظهار الكتلة مباشرة

 

آية الصدع وهي قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) نزلت على الراجح مع نزول قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) وذلك في السنة الثالثة للبعثة، وقد مثلت آية الصدع منهجاً جديداً للدعوة إذ منذ نزولها والقرآن الكريم يتعرض لفساد المجتمع المكي وعلاقاته ما أحدث صراعا فكرياً عميق الجذور داخل المجتمع، فقد تعرض القرآن لآلهة الناس وعقائدهم وطريقة عيشهم بتفاصيلها، كما تعرض لعلية القوم وكبرائهم وكان في الوقت نفسه يرد على أقوالهم ومجادلاتهم اليومية لصاحب الرسالة، كما تعرضت السور المكية لجميع الأعراض التي مرت بها كتلة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام وعالجها، فرسمت بذلك منهجاً متكاملاً يرسم الطريق وينير الدرب أمام العاملين لإعادة دولة الإسلام، المقيدين بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته…فآية الصدع هي التي نقلت الدعوة من مرحلة التثقيف والبناء إلى مرحلة التفاعل والصراع.

والرسول صلى الله عليه وسلم بعد نزول هاتين الآيتين جمع عشيرته إلى طعام في بيته ثم جمعهم على الصفا يبلغهم بشكل واضح أمر بعثته، أما الخروج في صفين فلم يحصل إلا في السنة السادسة بعد إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما.

روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم …ما جربنا عليك إلا صدقاً» وفي رواية لمسلم «ما جربنا عليك كذباً، فقال: فإني نذير بين عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم: ألهذا جمعتنا. فنزلت (تبت يدا أبي لهب وتب) ». 

أما القول بخروج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالكتلة في صفين بعد نزول هذه الآيات فغير دقيق لأمور منها أن إيمان عمر بن الخطاب وإيمان حمزة لم يكن إلا في السنة السادسة ومن الثابت في كتب السير والتاريخ أن عمر وحمزة كانا على رأس الصفين، وهذه بعض النقول التي تبين ذلك:

  1) جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص219 (وأسلم – عمر – في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة وهو ابن ست وعشرين سنة).

  2) ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ج2 ص39 أن إسلام عمر كان متأخراً إذ آمن بعد تسع سنين من البعثة قبل أربع سنين من الهجرة.

  3) جاء في السيرة لابن هشام (وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة) ج1 ص294، ومعلوم أن الهجرة إلى الحبشة لم تحصل إلا بعد الإيذاء الشديد إذ هاجر المسلمون يومها فراراً بدينهم بعدما وقع التعذيب والملاحقة من زعماء مكة للرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه فقد نقل ابن كثير عن الواقدي ما يؤيد هذا، يقول ابن كثير في سيرته (وروى الواقدي أن خروجهم إليها – الحبشة – في رجب من سنة خمس من البعثة) ج2 ص3.

  4) جاء في جواب سؤال ما نصه (إن الروايات كلها تثبت أن عمر أسلم بعد السنة الخامسة وبعضها يقول في السنة السادسة وبعضها في السابعة وبعضها في الثامنة ولا توجد ولا رواية أنه في الثالثة، والصحيح فعلاً أن عمر أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة في السنة السادسة…). وبما أن عمر آمن في السنة السادسة، ومن الثابت أنه كان على رأس أحد الصفين، فإن هذا يعني أن الخروج في صفين ليس له علاقة بالانتقال من مرحلة التثقيف إلى مرحلة التفاعل وإنما هو عمل من أعمال التحدي والكفاح والصراع التي كان يقوم بها صلى الله عليه وسلم وصحبه داخل مرحلة التفاعل من مثل المجاهرة بقراءة القرآن والجهر بالصلاة وسب الآلهة وتهديدهم بالوعيد وسوء العاقبة…

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس أفراداً بالسر وليس بالعلن، وإنه استمر على ذلك ثلاث سنوات، وبعدها نزلت آية الصدع، فانتقل من الدعوة السرية إلى الدعوة العلنية، من مخاطبة الأفراد فقط إلى مخاطبة الأفراد والجماعات وبشكل علني، فالإعلان للدعوة كان في السنة الثالثة، وبدء مخاطبة الجماعات كان في السنة الثالثة كذلك، وبعد أن تعرض صلى الله عليه وسلم لآلهة قريش وآبائهم بدأت المقاومة له ولمن أسلم، وجاء في جواب سؤال ما نصه (كان الكفار يعرفون أن له كتلة آمنت به وكان كثير من أفراده معروفين عندهم، ولذلك انقضوا عليهم لتعذيبهم وكان هذا كله قبل أن يخرج فيهم في صفين، وفي السنة السادسة كان إبراز الكتلة وإظهارها بشكل متحدّ) فالخروج في صفين هو إعلان لهذه الكتلة التي صار معروفاً أنها موجودة ككتلة، والتي عُرِف كثير من أفرادها، وبذلك يكون الخروج في صفين، والذي تأخر سنتين أو ثلاثة بعد نزول آية الصدع عندما أسلم عمر، هو عبارة عن إظهار دعائي للكتلة  المعروف وجودها، وإظهار فيه التحدي للكفار المجرمين، فالعلنية كانت قبل الخروج في صفين عند نزول آية الصدع. فالدور السري انتهى بالصدع والإنذار للعشيرة، وبالصدع انتقلت الدعوة إلى الصراع الفكري والكفاح السياسي وتبني المصالح والتثقيف الجماعي بالمناقشات الجماعية وتنزيل الأفكار على الوقائع والحوادث، والسور المكية خير شاهد على ذلك.

ومما يدعم هذا الفهم أن كتب التفسير والسير ذكرت أن الخروج في صفين كان بناءً على اقتراح من عمر وقد رفضه الرسول صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر ولكن بعد إلحاح عمر وافق صلى الله عليه وسلم على طلبه، وهذا يعني أن الخروج بالصفين كان أحد أعمال التحدي التي توضع موضع الدراسة من حيث القيام بها أو عدم القيام. جاء في كتاب السيرة النبوية ج1 ص134 أن عمر قال للرسول صلى الله عليه وسلم (يا رسول الله ألسنا على حق إن متنا وإن حيينا، قال بلى والذي نفسي بيده إنكم على حق إن متم وإن حييتم، قلت ففيما الخفاء يا رسول الله علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل فقال يا عمر إنا قليل وقد رأيت ما لقينا…ثم ما زال عمر يراجع النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج من دار الأرقم إلى المسجد حتى وافقه على ذلك فخرجوا في صفين في أحدهما عمر والآخر حمزة رضي الله عنهما).

أما الروايات التي ذكرت أن إيمان عمر كان بعد إيمان حمزة بثلاثة أيام أو ثلاثة أشهر فإنها تحمل على الروايات التي تقول إن إيمان حمزة كان متأخراً أيضاً مثل إيمان عمر، جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد أن إسلام حمزة كان (بعد دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم في السنة السادسة من النبوة) ج3 ص9.

أما الروايات التي ذكرت أنه بإيمان عمر رضي الله عنه قد اكتمل العدد إلى أربعين فإن المقصود عدد من بقي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة لأن عدد من هاجر وحدهم كان فوق الثمانين.

وعلى ذلك فالمرحلة الثانية لا تعني بالضرورة علنية الكتلة، وإنما ذلك أمر جائز قد تقوم به الكتلة وقد لا تقوم، وتقدير ذلك راجع لتقدير قيادة الحركة بناءً على القوى التي تملكها الكتلة. فدخول مرحلة التفاعل لا يعني إعلان الكتلة بل يعني نقل الدعوة من الدعوة السرية للأفراد إلى الدعوة العلنية للجماعات وذلك بالتعرض لعلاقات المجتمع وأفكاره ومشاعره الخاطئة، وكذلك التعرض لقيادته في كل ما وافقت به الباطل بكل قوة وجرأة تقيداً بنهج الحبيب المصطفى محمد عليه وآله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أكرمنا الله بدولة الإسلام دولة الحق والقرآن دولة الخلافة على منهاج النبوة كما أكرم رسوله الكريم وصحابته الأبرار بنصر كريم عظيم ثبت قلوبهم وطمأن نفوسهم وفتح الدنيا على أيديهم…وإننا سنظل بإذن الله متهللين مستبشرين بقول رب العزة في كتابه الكريم:( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).         

واجد عبد الصمد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *