العدد 117 -

السنة العاشرة – شوال 1417هـ – شباط 1997م

الفكر السياسي في الإسلام (6) قيمة الأفكار في حياة الأمّة

الفكر السياسي في الإسلام   (6)

قيمة الأفكار في حياة الأمّة

                                                              بقلم: فتحي عبد الله

تعتبر الأفكار بالنسبة إلى الأمم من أعظم الثروات التي تنالها في حياتها إذا كانت الأمة ناشئة وهي في الوقت نفسه أعظم هبة تتسلمها الأجيال من أسلافها إذا كانت هذه الأمة عريقة في الفكر المستنير كالأمة الإسلامية مثلاً. ويقاس رقي الأمة بمدى ارتفاعها الفكري في الحياة وبمدى رقي هذا الفكر وصحته عندها. والأمة الناهضة هي الأمة التي يكون الفكر عندها مرتفعاً وتحمل وجهة نظر في الحياة تحدد لها مقياس أعمالها وغايتها ومعنى السعادة عندها في الوقت الذي تكون فيه قادرة على إعطاء الآخرين ولا تأخذ منهم إلا ما يسمح لها مبدأُها بأخذه.

         أما الثروات المادية والعلمية والمخترعات الصناعية فإن التوصل إليها متوقف على الأفكار، بل إن الاحتفاظ بها متوقف على عملية التفكير لدى الأمة في وقائع حياتها… فهي دون الأفكار بكثير. فالأمة بإمكانها استرداد هذه الثروات المادية والعلمية والمخترعات الصناعية إذا ما دمرت هذه الثروات والمخترعات، شريطة أن تكون هذه الأمة ظلت محتفظة بثروتها الفكرية ولم تفقدها… ولكن تداعي هذه الثروة الفكرية وذهابها وتعطيل عملية التفكير عند الأمة من شأنه أن يؤدي إلى فقدان الأمة لهذه الثروات المادية والعلمية إلى جانب ترديها إلى مهاوي الفقر والجهل، فضلاً عن القعود عن اللحاق بركب الأمم المتقدمة ومجاراتها، لا بل سبقها والإشراف عليها والأخذ بزمام نواصيها وهدايتها إلى الحق. والمراد بالأفكار هنا كما أسلفنا هو وجود عملية التفكير لدى الأمة في وقائع حياتها اليومية الخاصة والعامة.. أي أن يستعمل أفراد الأمة في جملنهم ما لديهم من معلومات  عند الإحساس بهذه الوقائع اليومية لإصدار الحكم عليها لاتخاذ موقف منها وإعطاء رأي فيها.. أي أن يكون لدى هؤلاء الأفراد أفكار تقودهم إلى الإبداع باستعمالها في الحياة، ما ينتج لديهم من جراء ذلك طريقة تفكير منتجة تميزهم عن غيرهم من الأمم والشعوب وتجعل لهم أي للأمة شخصية معينة يشار إليها بالبنان.

         والأمة الإسلامية اليوم ما زالت – رُغْمَ الصحوة التي تهزها – تعتبر فاقدة للأفكار أي لطريقة التفكير المنتجة، وهي تشارف على أبواب القرن الحادي والعشرين… فكان طبيعياً أن نرى الأمة اليوم في حالة فقر مدقع وترزح تحت الديون الباهظة رغم توفر الثروات المادية في بلادها، وأن نراها في حالة فقدان الاكتشافات العلمية والمخترعات الصناعية رغم دراسة هذا الجيل لها نظرياً في الجامعات والمعاهد ورغم سماعه لها ومشاهدته لها… لأنه لا يمكن لهذا الجيل أن يندفع نحوها اندفاعاً منتجاً إلا إذا كان يملك الحوافز الداخلية التي تحفز الأفراد والجماعات والشعوب والأمم إلى الإبداع والرقي والتقدم، أي إلا إذا كانت لديه أفكار يبدع في استعمالها في الحياة، أي طريقة تفكير منتجة تمكنه من إصدار الحكم على وقائع حياته ليحدد تجاهها الموقف ويعين فيها الرأي.

         والأفكار الرأسمالية الديمقراطية التي تلقاها الجيل المسلم الحاضر عن طريق مناهج التعليم وبرامجه المفروضة على الأمة في شتى أقطارها هي أفكار عرضية، والحمد لله أنها لم تأخذ طريقها إلى العراقة في نفوس هذا الجيل لأنه لم يعتقدها، فهو لم يعتنقها، إذ تلقاها تلقياً عرضياً فقط وسرعان ما يمكن إزالتها عنده ومحوها… غير أن الصعوبة في إزالتها آتية من أنها أفكار عرضية لم تُعتقَد حتى يجري اصطدامها بالفكر الذي يراد إعطاؤه له وإيجاده لديه كي يستطيع إدراك هذا الفكر الذي يعطى له فيهتدي جراء هذا الاصطدام إلى الفكر الصحيح.

         هذه الأفكار الرأسمالية تلقاها هذا الجيل تلقياً عرضياً وعشقها من مجرد نجاحها لا من إدراكه لواقعها، وجراء خضوعه لأحكامها وأنظمتها المطبقة عليه لا من إدراكه لانبثاق هذه الأحكام والنظم عن وجهة النظر الرأسمالية في الحياة، فبات خالياً من هذه الأفكار الرأسمالية تفكيرياً رغم أنه يخوض غمرات الحياة على أساسها، وهو خالٍ من الأفكار الإسلامية السياسية عملياً وإن كان يتدين بالإسلام ويدرس أفكاره. وقد تجاوز ميل قسم كبير من مثقفي هذا الجيل إلى الأفكار والمعالجات الرأسمالية الديمقراطية محاولة التوفيق بينها وبين الإسلام، ووصل به هذا الميل إلى حد الشعور بعجز الإسلام(1) عن إيجاد حلول ومعالجات لمشاكل الحياة المتجددة لاسيما وأن الأمة خلت من المجتهدين في هذا العصر وأضحى وجودهم نادراً.

         وإن من أعظم ما افتتن به المسلمون في هذا القرن بعد هدم الخلافة وذهاب دولتهم وأشد ما يعانونه من بلاء في واقع حياتهم اليوم الأفكار المتعلقة بالحكم كالديمقراطية واللبرالية، وما إلى ذلك من أفكار ومفاهيم رأسمالية غربية عن الحكم والسلطان، لاسيما وأن الجيل الحاضر لم يعش الحكم الإسلامي في دولته ولم يفتح عيونه إلا على هذا الحكم الديمقراطي الممسوخ، الذي يفرضه الكفار المستعمرون على الأمة الإسلامية فرضاً بالحديد والنار، على أيدي عملائهم من الحكام: الكافر منهم والظالم والفاسق على حد سواء، خاصة وأن هؤلاء الحكام ومَنْ والاهم لا يرون الحكم مسئولية ورعاية شؤون بل يرونه وظيفة لملء الجيوب ونهب الأموال العامة، ولا يرونه مزاحمة أو تحدياً للدول الكبرى بل مراضاة لها ومسايرتها والإذعان لأوامرها.

         ونحن حين نخاطب الأمة الإسلامية في هذه العجالة بالفكر السياسي الإسلامي إنما نخاطبها به كأفكار انبثقت عن عقيدتها الراسخة في أعماق النفوس، رغم كل ما يحيط بهذه العقيدة من غشاوات وطبقات من الصدأ والتراب، علقت بها عبر القرون جراء الانحطاط الفكري والغزو الثقافي والحضاري الذي تعرضت له في شتى أقطارها من قبل الغرب الكافر… فهي ما تزال كامنة في أعماق النفوس كُمونَ الشرر في حجر الصوان، فلعلها تتحرك للقيام بواجبها وبالتبعات التي ألقاها الله تعالى على عاتقها، كأمة واحدة خاطبها ربها بالأحكام الواردة في الكتاب والسنة، كأوامر ونواهٍ كلفها الله بالالتزام بها. ويأتي في قمة هذا الفكر السياسي أفكارُ الحكم والسلطان، أي الأفكار المتعلقة برعاية شؤونها داخلياً وخارجياً، والتي تنظم علاقتها بالدولة وعلاقة الدولة بها من حيث الحقوق والواجبات. كما تنظم علاقتها بغيرها من الشعوب والأمم فتحدد لها سياستها الخارجية…

         وإن من أوجب ما أوجبه الله عليها في أفكار الحكم والسلطان هو مبايعة خليفة ينوب عنها ويمثلها في رعاية الشؤون داخلياً وخارجياً.. فالخلافة إذن هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع  الإسلامي وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، فبدونها لا يمكن أن تقوم الأحكام الشرعية وتطبق في معترك الحياة ولا يمكن أن تُحمل دعوة الإسلام إلى العالمين.. وبدونها لا يمكن تصور وجود الإسلام حياً في معترك الحياة… فهي أبو الفروض الذي بدونه لن تقام هذه الفروض، وبدونه لن يكون لأوامر الله ونواهيه أي وجود عملي في معترك الحياة الدولي.. وهذه الرئاسة العامة للمسلمين هي عينها الإمامة، فهي والخلافة بمعنى واحد… وقد وردت الأحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد ولم يرد لأي منهما معنى يتناقض مع معنى الأخرى في أي من النصوص الشرعية المتعلقة بهما لا في الكتاب ولا في السنة… فهما وحدهما النصوص الشرعية… والذي يُلْتَزم في ذلك هو مدلول اللفظ لا منطوقه..

         ونصب خليفة أو إمام فرض على كافة  المسلمين.. والقيام به كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله عليهم. وهو أمر لا مندوحة عنه ولا خيار فيه لأي مسلم، ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به أو القعود عن العمل لإقامته معصية كبرى يعذب الله عليها أشد العذاب يوم القيامة، فضلاً عن الخزي في الحياة الدنيا. (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُرَدّونَ إلى أشد العذاب).

         كما يأتي في قمة هذا الفكر السياسي المخاطب به المسلمون محاسبةُ الحكام والوقوف لهم بالمرصاد. محاسبتهم على رعاية الشؤون التي أنابوهم عنهم في رعايتها.. فقد جاء ذلك في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة واضحاً صريحاً كقوله سبحانه وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..) وكقوله تعالى: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر…) ثم إنه جل شأنه وصف المؤمنين بأروع الأوصاف وأعظمها حين لا يرضون بالظلم، أياً كان هذا الظلم: سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً بقوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون).

         أما في السنة فقد ورد حث كثير على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاسبة الحكام، فقد جاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر» وقوله أيضاً عليه الصلاة والسلام: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» وقوله كذلك في محاسبة الحكام: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم» وقوله أيضاً: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم». وجعل الشرع كل من يرضى بتقصير الحاكم في رعاية الشؤون وكل من يسكت عن ظلمه ويقعد عن محاسبته ويتابعه، مسئولاً أمام الله لا يسلم من عقابه وعذابه، فقد روى مسلم عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف فقد برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع. قالوا أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال لا ما صلوا» كناية عن تطبيق الإسلام. وفي رواية أخرى «فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع…» ففي هذا الحديث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنكار على الحاكم وأوجب هذا الإنكار بأي وسيلة مستطاعة باليد، شريطة أن تكون دون القتال بالسيف، وباللسان مطلقاً، أي بأي قول من الأقوال أو بالقلب إذا لم يستطع. ومن لم ينكر فقد اعتُبر شريكاً للحاكم في الإثم والعدوان… غير أن هذا الإنكار إنما يكون إذا أساءوا تطبيق الإسلام وهم يحكمون به، فإذا ما خرجوا عن تطبيق الإسلام وطبقوا أحكام الكفر فإن الشرع لم يكتف بالإنكار باليد واللسان والقلب، بل جعل طريقة التغيير عليهم أو تغييرهم هي السيف والقتال. ففي حديث أم سلمة «قالوا أفلا نقاتلهم قال: لا، ما صلوا» وفي رواية «ألا نقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا، ما صلوْا» وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» فمفهوم هذا الحديث هو منازعة الأمر أهله إذا رأينا الكفر البواح وأن ننابذهم بالسيف ونقاتلهم إذا لم يطبقوا الإسلام. فما دام الحكام يحكمون بالإسلام فلا قتال ولا منابذة ولا منازعة. فإن حكموا بغير الإسلام وجب حينئذٍ قتالهم ومنابذتهم ومنازعتهم وبذلك يكون الإسلام قد ضمن القيام بالمسئوليات العامة ضماناً تاماً حين أوجب نصب الخليفة لرعاية الشؤون بالإسلام وحين أوجب محاسبته على هذه الرعاية .

(1) «الوعي»: هذا الوصف لهذا الجيل كان قبل ربع قرن. أما الآن فهناك صحوة إسلامية تحرك العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وعادت ثقة الجيل إلى إسلامه بنسبة كبيرة، وصار الغرب يحسب للأمة الإسلامية ألف حساب، وصار يصمها بالأصولية والإرهاب، ويرى فيها العدو الخَطِر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *