العدد 118 -

السنة الحادية عشرة – ذو القعدة 1417 هـ – آذار 1997م

نظرة في العقيدة

نظرة في العقيدة

من المعلوم بداهة أنه من غير المتصور على الناس أن يلتزموا بمبدأ تخلو عقيدته من الثواب والعقاب، حتى ولو كان الإسلام نفسه هو ذلك المبدأ، وإن أي مبدأ تخلو عقيدته من الثواب والعقاب لا يمكن أن يعيش ولا حتى أن يولد، لأن التقيد بالمبادئ ثقيل على النفس، وذلك لما تفرضه المبادئ على الإنسان من الالتزام بالأوامر والنواهي التي قد تحرم الإنسان من لذّات الحياة تارة، وتعرضه لبلاياها تارة أخرى. لأجل ذلك كان لا بدّ من اشتمال العقيدة لأي مبدأ على ثواب يحمل الإنسان على ترك لذات الحياة حيث تتعارض مع المبدأ، وعقاب تهون أمامه بلايا الحياة التي قد تدفعه إلى ترك المبدأ.

والعقل يقضي بأنه حتى يكون المبدأ صحيحاً فلا بد أن يفوق الجزاء (الثواب والعقاب) الذي في العقيدة كلَّ مصلحة أو مفسدة دنيوية ممكنة، أو بعبارة أخرى لا يقبل المساومة، لأنه إذا قبل المساومة فإن الالتزام بالمبدأ سيبقى مرهوناً بعدم الزيادة عليه.

والجزاء في المبادئ الوضعية يقبل المساومة لأنه من وضع البشر ويمكن الزيادة عليه، في حين أن الجزاء في الإسلام لا يخضع للمساومة، لأنه لا يمكن الزيادة عليه. فالنار في الإسلام عقاب لا يمكن الزيادة عليها من البشر ولو اجتمعوا، لأن البشر كلهم لا يمكن أن يعذبوا إنساناً واحداً في النار مع بقائه حياً حين يخالف المبدأ، فضلاً عن كل مخالف، قال تعالى:( إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نَضِجَتْ جلودُهم بدّلناهمْ جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن اللـه كان عزيزاً حكيماً) والبشر كلهم ولو اجتمعوا لا يمكن أن يهبوا الخلد في جنات النعيم لملتزم بالمبدأ، فضلاً عن كل ملتزم قال تعالى: (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) وقال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون). وما لم يكن الجزاء فوق المساومة فالمبدأ خطأ مهما بدا جميلاً وجذاباً، لأن التقيد به مرهون بعدم الزيادة على أي من الثواب والعقاب. ولما كان الثواب إنما يوضع للملتزم والعقاب للمخالف كان لا بد من جهة تراقب الملتزم والمخالف على نحو لا يمكن معه أن يفوتها شيء من الالتزام أو المخالفة، لأن ذلك إذا حصل فلن يعاقب المخالف الذي لم تطلع عليه ولن يثاب الملتزم الذي لم تطلع عليه كذلك، وهذا هو الظلم بعينه ومتى حصل ذلك  فالمبدأ خطأ ولا كلام. لذلك فلا يمكن أن تكون الجهة التي تراقب أفعال الناس من البشر لأن البشر يعجزون عن مراقبة فرد واحد منهم في كل الظروف والأوقات فضلاً عن كل فرد.

والمبادئ الوضعية لا يحاسب فيها كل مخالف وإنما الذي قد يحاسب هو الذي يتم ضبطه فقط، في حين أن العقيدة الإسلامية قد بينت بأن كل إنسان في الدنيا يحاسب على كل فعل بل وعلى كل سكنة يؤديها سراً أو علناً، وذلك حين بينت بأن الذي يراقب أفعال الناس هو اللـه تعالى، وبينت بأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، قال تعالى: (اللـه لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم) وقال: (وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء).

ومثل هذه المفاهيم حين يتم إدراكها واعتقادها فإنها تخلق في نفس الإنسان ثقة عظيمة بالمبدأ الذي يحمله سامياً فوق كل مبدأ، ويرى ما سواه تافهاً لا يستحق النظر، وحين يرى الإسلام غائباً عن التطبيق ويرى ما سواه مطبقاً يدرك أنها ساعة باطل ليس غير، ولا يفقد الثّقة بمبدئه الذي يحمل، واعتقاد مثل هذه المفاهيم يخلق في نفسه انضباطاً كذلك لا يعدله في الدنيا انضباط، وذلك حين يعتقد بأن كل سكنة يفعلها مُحصاة عليه، وأنه مهما استخفى ومهما أسر في نفسه فإن اللـه به عليم، وحين يدرك الناس مثل هذه المفاهيم فإنهم سوف يدركون حتماً أن مصلحتهم في اتباع الحكم الشرعي فقط، وأن اتباع ما سواه مفسدة، لأن مصالح الدنيا سوف تحرمهم من المصالح الخالدة في الجنة إن هم تبعوها، فهي إذن مفسدة ولا كلام .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *