العدد 118 -

السنة الحادية عشرة – ذو القعدة 1417 هـ – آذار 1997م

دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية (4)

دمج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الغربية   (4)

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

نشرت مجلة «الصراط المستقيم» الصادرة في أميركا في عددها (59) جمادى الأولى 1417هـ. مقالة بعنوان «العمل السياسي في المجتمع الأميركي» بقلم الدكتور صلاح الصاوي مدير الجامعة الإسلامية المفتوحة في ولاية فرجينيا في أميركا. وقد وصفتها المجلة بأنها «رؤية فقهية تأصيلية تنشر لأول مرة». وقالت المجلة بأن هذه المقالة –الدراسة كانت جواباً عن سؤال بعث به الأستاذ نهاد عوض المدير التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية. وهو يسأل عن حكم الشرع الإسلامي في: 1- التسجيل للانتخابات لحَمَلَة الجنسيات الأميركية. 2- التصويت في هذه الانتخابات الأميركية. 3- التبرع بالمال والدعاوة لبعض المرشحين في برامجهم وحملاتهم الانتخابية، وذلك بهدف استمالتهم لدعم قضايا الجاليات الإسلامية. )هذا السؤال والجواب كانا بمناسبة الانتخابات الأميركية(.

وقد جاء في خلاصة إجابة الدكتور الصاوي ما يلي: «ولما كان كل من المصالح المستجلبة والمفاسد المستدفعة -كما يبدو من السؤال- ظاهراً راجحاً فالذي يترجح لدينا هو القول بمشروعية هذه المشاركة في ضوء الضوابط الشرعية المعتبرة في باب المصالح والمفاسد. ولما كانت الذرائع تأخذ حكم المقاصد، والوسائل تأخذ حكم الغايات فإن القيد في الجداول الانتخابية واستخراج البطاقات اللازمة لذلك مما يندرج في إطار هذه المشروعية».

في ردنا هذا لن نهتم كثيراً بالنتيجة والإجابة التي توصل إليها فضيلة الدكتور الصاوي، فهي معروفة من كل الذين تأثروا وانساقوا مع الحضارة الغربية، ومنهم السائل والمسؤول والمشرفون على المجلة ناشرة المقالة. وإنما الذي يهمنا أكثر في هذا الرد هو النهج الذي اتبعه الدكتور الصاوي في استنباط الأحكام والمصادر التي يستنبط منها، لأن غرضنا هو تنبيه المسلمين، ومنهم كاتب المقالة وناشرها، وتحذيرهم من الزلل والانحراف الخطِر، عن الإسلام، الذي يوصل إليه هذا النهج.

أقوال غير دقيقة:

أما قول الكاتب: «فالطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». فلا نعرف: هل يقصد ما قال، أم أنه صدر منه عن سرعة واسترسال. فالقول: (إن الطريق إلى الحرام حرام)، تنقصه دقة التعبير فهو غير صحيح، إذ قد يكون من شأن ذلك الطريق أن يوصل إلى الحرام بأمور إضافية وليس من مجرد الطريق، وقد يكون موصلاً إلى مكروه أو واجب، فالسفر إلى أميركا أو أوروبا والعيش هناك مثلاً قد يكون طريقاً إلى الحرام، فقد يؤدي إلى الانغماس في الفساد والفجور وشرب الخمور، وفيه خطر جديّ بأن يترك الأبناءُ أو الأحفاد أو مَنْ بَعْدَهم دينَهم. وقد يكون طريقاً أيضاً إلى مطلوب عظيم كإسلام الكافر، أو إعانة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً بتثبيتهم على دينهم أو غير ذلك، أو بتنظيم بعض الصفوف لحمل الدعوة. وكل هذه الأمور لا تتحصل من مجرد الطريق وهو السفر والعيش في أمريكا أو أوروبا، وإنما من أمور إضافية. ولذلك تصحيحاً للنص نقول: إن القاعدة تقول: «ما أدى إلى الحرام فهو حرام»، وتقول: «الوسيلة إلى الحرام محرمة». ومن جهة أخرى لماذا لم يطبق الكاتب القاعدة التي وضعها: الطريق إلى الحرام حرام، وتلك التي وضعها في مآلات الأفعال -كما يفهمها هو- على إقامة المسلمين في مجتمع يقوم في عقيدته وكل تفاصيل حياته وعلاقاته وقوانينه وأخلاقه على الكفر والمنكر، بدلاً من أن يجيز الانغماس أكثر ويضع لذلك الأصول والقواعد، ويستبيح فعل المنكرات؟

وأما قوله: «والطريق إلى المباح مباح»، فلا أصل له في الشريعة، وإنّ أدنى تفكير فيه ونظر في معناه وتطبيقاته يحكم ببطلانه. بل إن الطريق إلى الواجب أو المندوب قد يكون حراماً. ألا ترى أن قضاء الشهوة مباح، وليس كل طريق إليه مباحاً، مثل الزنا والعقد بغير شهود. ألا ترى أن إحراز المال مباح وتنميته مباحة، وقد تكون السرقة والقمار طريقاً إلى الإحراز، وقد يكون الربا وإنشاء بيوت الرذيلة ومحلات (الديسكو) طريقاً إلى تنميته.

ما لا يتم الواجب إلا به:

فهذه الأقوال: «الطريق إلى الحرام حرام، والطريق إلى المباح مباح» ليس فيها تَفَقُّه. أما قوله: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فقاعدة صحيحة، ولكنها وردت في سياق من عدم إدراك لواقعها. ولذلك نقول: إن ما لا يتم الواجب إلا به قد يكون واجباً بغير هذه القاعدة، وقد يكون غير واجب إلا بها. الأول كإقامة الخلافة ومبايعة خليفة، فهو واجب بالسنة، وبإجماع الصحابة، وواجب أيضاً بهذه القاعدة من جهة أنه لا يمكن تطبيق الإسلام – وهو واجب – إلا بوجود خليفة، فوجب إيجاده. وأهمية القاعدة هي في حالة عدم وجود الدليل على وجوب ما لا يتم الواجب إلا به، فقد يكون في الأصل مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً، فإن توقف إنجاز الواجب عليه بحيث لا طريق إليه إلا بفعل المندوب أو المكروه أو المباح، صار هذا واجباً. وإن كان الواجب لا يوجد أو لا يتم إلا بطريق واحد محرّم أو بعدة طرق محرمة، فحينئذٍ تلزم الموازنة: أي المحرمات أقل حرمةً؟ وهذا يعرف بالشرع، فإذا تعين، يُنظر: أيهما أشد أو أكثر جزماً، طلب الفعل للواجب أم طلب الترك لأقل المحرمات حرمة، فإن كان الواجب أشد في الطلب، صار الحرام واجباً. وإلا فيظل الحرام حراماً ويُسعى إلى الواجب بطريق آخر، ولا يكلف اللـه نفساً إلا وسعها. ولأجل الموازنات فصّل عز الدين بن عبد السلام في قواعده، فعقد فصولاً لبيان تفاوت رُتَب المصالح فيما بينها، والمفاسد فيما بينها، والمفاسد والمصالح إذا اجتمعت(30). ومن هذا الأخير ورود حُكمي الوجوب والتحريم على محل واحد.

وهكذا يظهر أن لا محل لما سماه القاعدة الثالثة في موضوع البحث، فضلاً عن الأخطاء الكبيرة التي أوردها في سياقها.

هل الأمور بمقاصدها؟:

ثم يقرر الكاتب القاعدة الرابعة، يقول: (القاعدة الرابعة: الأمور بمقاصدها. وفي الباب حديث عمر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»).

قوله: الأمور بمقاصدها، كلام عام، وربما لا يوجد أعم منه، وتصور يا أخي عندما نكون أمام شريعة، تعطي حكماً لكل فعل، ولكل حكم دليل خاص أو عام. شريعة فيها الخاص والعام والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ… إلى ما هنالك، فكيف يغيض كل هذا لتصبح الأمور كلها بمقاصدها. أليس من قيد، وأين هي الضوابط التي حدثنا عنها عندما تحدثَ عن المشاركة السياسية (المنضبطة)، وعن شروط السياسة الشرعية التي ينبغي أن لا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية، وأن لا تصطدم بأصل كلي أو جزئي. لم نره منضبطاً بأي من هذه الضوابط، ولم نعرف كيف يكون عنده الانضباط بالضوابط الشرعية، وكيف يكون عدم مصادمة الشريعة بكلي أو جزئي، طالما أنه يبيح المنكرات وهو يسميها منكرات.

لا يكفي حسن النية:

بعض الصحابة عزموا على صوم النهار وقيام الليل واعتزال النساء بقصد زيادة التقرب من اللـه فنهاهم رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم وقال:«من رغب عن سنتي فليس مني» وبعضهم أراد المواصلة بالصوم، وبعضهم بقي على صيامه يوم فتح مكة رغم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالفطر، وهم كانوا يقصدون بذلك التقرب من اللـه. فهل هذه النية المقصود بها رضوان اللـه، هل تجلب لهم فعلاً رضوان اللـه أو تجلب غضبه؟ إن حسن النية وحسن القصد لا تكفي لتبرئة ذمة المسلم، ولا تكفي لجعله على طريق الهداية. فمع حسن النية يجب أن يكون حسن الالتزام بأحكام الشريعة التي أنزلها اللـه. فحسن النية في التقرب من اللـه بطريقة لم يشرعها اللـه هو من البدعة التي تقود إلى النار. إذاً ليست الأمور بمقاصدها، كما قال الكاتب.

هذه القاعدة بهذا العموم لا تصلح وحدها لاستنباط أحكام شرعية.

أما حديث النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم: «إنما الأعمال بالنيّة» فلا بد من لفت نظر المستدل به بأنه ينطبق على الأفعال المشروعة ولا ينطبق على الأفعال المحرمة. فالغازي في سبيل اللـه ينظر اللـه إلى قلبه ونيته، وكذلك الواقف للصلاة المفروضة أو النافلة، إن كان يفعل ما يفعل لأن اللـه أمر، أو ليُقال عنه. وكذلك من يلتقط اللُّقَطة إن كان التقطها بنية حفظها وتعريفها وتوصيلها إلى صاحبها، أو بنية إخفائها. وكذلك من يعطي الفقراء ويساهم في أعمال الخيرات.

وأكثر العلماء قصروا النية على العبادات لأنها هي التي تفتقر إلى النية، ويلحق بالعبادات في الافتقار إلى النية ما يفعله الإنسان بغية حصول ثواب اللـه وإن كان أصلاً من العادات وليس من العبادات، فالذي يأكل وينوي التقوى على طاعة اللـه، والذي يكسب ماله من طرق الحلال ليتجنب ما حرّم اللـه له ثواب وتكون سائر أعماله التي يراقب اللـه فيها ويتقيد بالحلال والحرام، تكون ملحقة بالعبادات.

أما تارك الفرض أو الواجب فلا ينطبق عليه حديث: «الأعمال بالنيّة» وتارك الواجب أو المندوب لم يقم بعمل. وإن كان في بعض الأحوال يثاب على ترك المحرمات، إلا أن التروك ليست أعمالاً.

وفعل المحرمات كذلك لا ينطبق عليه الحديث، فآخذ الربا مهما كانت نيته فقد فعل ما نهى الشارع عن فعله، وكذلك المقامر والسارق والزاني، فلا تبرر النوايا هذه الأعمال، فهذا الحديث لا ينطبق على الأعمال المحرمة، وإنما فقط على الأعمال المشروعة. واللـه سبحانه وتعالى لا ينظر فقط إلى النوايا، وإنما إلى الأعمال أيضاً، فيجب أن يوافق العبد بعمله أمر اللـه. قال صلى الله عليه وسلم: «إن اللـه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وإن كان الكاتب يقصد حالات الاضطرار، فلا يصح منه هذا، إذ أورده في ما سماه القاعدة الثانية. وقد ناقشناها.

فهذه الرابعة أيضاً لا دخل لها بالموضوع. إذ الموضوع هو حكم شرعي لأفعال معينة، فيعطى حكم الفعل من الشرع بعد فهم واقع الفعل ودليله من الشرع.

ما يلزم من نهج الكاتب:

إن هذا النهج في الاستنباط غير شرعي ويحمل نواقضه بين طياته، فنجد الكاتب يرفض تطبيقه في حالات معينة (من غير بيان السبب)، مع أننا لو حَمَـلْـنا نصوصه وقواعده على ما أراد منها للزم تطبيقها. يقول: «ولعل من نافلة القول أن نؤكد على أن القول بمشروعية المشاركة لا يعني مشروعية التورط في المحرمات المحضة كشرب الخمر والترخيص في المشاركة في مجالس الخنا بدعوى تألّف القوم واستمالة قلوبهم فإن مثل هذا لا يحل بوجه من الوجوه». والسؤال الموجه إليه: لماذا؟ ألم تقرر أنت أن الأمور بمقاصدها، وأن الشريعة مبناها جلب المصالح ودرء المفاسد، والموازنة بين المصالح والمفاسد؟ وماذا، على منهجك، لو زنت النساء وشرب المسلمون الخمور، كي يستميلوا الحكام ويحققوا بعض المكاسب ويرفعوا الظلم عن المسلمين ويؤثّروا في صنع القرار السياسي، ولعل في هذا إنقاذ أرواح كثيرة في بلادنا. ألا يمكن أن تؤثر النساء في أعضاء مجلس الشيوخ وفي الحكام، فيؤثِّرن بعد ذلك في السياسة العالمية! ولو كان للمسلمين مثل هذا التأثير، فلربما أنقذ عشرات ألوف الأرواح في حرب الخليج، أو ربما أوقف مليارات الدولارات التي تعطى لإسرائيل، وأوقف الأسلحة التي تتدفق إليها، فيا لها من مصلحة عظيمة، تنغمر معها مفسدة استحلال بضعة فروج في أمريكا أو أوروبا، ثم إن هذه المفسدة لا تعود بالضرر على مجتمعات المسلمين. وعلى هذا فلنطبق موازناتكم. وياله من فقه. تباً له من فقه. وتعساً لهكذا فقهاء ومجتهدين. فإن زعمتم رفض هذا المنطق الأعوج، وهذا المنهج الفاسد، وهو جارٍ على منطقكم ومنهجكم، فهاتوا أسبابكم، لتَروْا كيف أنها تكرُّ بالنقض على فتاويكم واحدةً واحدةً.

ضعف الجدوى من المشاركة:

ثم يمضي الكاتب في رد شبهات عن فتواه. فيرد الشبهة الأولى وهي: ضعف الجدوى وظنية المصلحة. يردها بقوله: «وهل الفقه إلا تحصيل ظن بحكم شرعي»، وبقوله: «وأما ضعف الجدوى فإن مرد تقديره إلى أهل النظر في جماعة المسلمين…».

ونقول: إن ما يريد قوله بأن الفقه مبناه على غلبة الظن صحيح. وهذا له موضعان، أحدهما غلبة الظن في التحقق من المناط، والثاني غلبة الظن في فهم النصوص ودلالاتها على الحكم. وليس غلبة الظن لأن هذا مصلحة بمعزل عن الأدلة. وفي مسألتنا (موضوع المقالة)، لم نَرَ بحثاً جاداً في المناط ولا أثارة لبحث أو نظر في الأدلة. وليس كل نظر اجتهاداً وليس كل ظن اجتهاداً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المنهج الذي سار فيه الكاتب، حاول فيه اقتفاء أثر الشاطبي، والاعتماد على المصالح والمفاسد في تقرير الأحكام، فخالفه في مراده وآرائه، وخاصة فيما يتعلق بمسألتنا هنا، حيث إن الشاطبي لا يتقرر عنده اعتبار المصلحة أو المآل إلا بعد ثبوته على وجه القطع، وقد سبق بيان هذا الأمر عند حديثنا عن اعتبار المصالح الوارد في القاعدة الثانية. فهذا دليل آخر على عدم فهم الكاتب لهذا المنهج الذي يسير فيه. أما قوله: إن كون هذه المشاركة مجدية أو غير مجدية أمر يعود تقريره إلى أهل النظر، وبعدما قرأناه له، لا نراه يقصد إلا فئة تزعم لنفسها الفقه والاجتهاد بناء على الموازنات، وتخالف النصوص بحجة المصالح والضرورات، ولا نرى عملها يصب إلا في خانة تجاهل السنّة وتأويل القرآن لمجاراة العصر والتطور.

إن أصحاب هذا المنهج وهذا المنطق ليسوا من أهل النظر في جماعة المسلمين.

تصادم المشاركة مع الولاء والبراء:

والشبهة الثانية التي يردها الكاتب هي تعارض هذه المشاركة مع عقيدة الولاء والبراء. يردها بأنها تَصْدُق – بزعمه – على من توجه إلى هذه المشاركة طلباً لجاه أو مال… ولا تَصْدُقُ على الذين يتوجهون إليها دفاعاً عن المسلمين وصيانة لحقوقهم…. فنقول له: إن من ابتغى من وراء فعله مرضاة اللـه بخدمة المسلمين وبخدمة الدين، لا يتحقق له ذلك إلا بالطريق الذي شرعه اللـه، أما من ينتهك حرماته ويتعدّى حدوده ثم يدَّعي صدق النية، فلا يستقيم له هذا بحال. وكيف يُعرف المطيع من العاصي؟ وقد نوقش هذا القول وتهافت بتهافت قواعده.

 

تقويل العز بن عبد السلام ما لم يقل:

أما ما ورد في المقالة في أكثر من موضع من جواز فعل المنكر، واستشهاد الكاتب بقول لابن عبد السلام يجيز فيه إعانة الظالم وارتكاب المعاصي في سبيل المصالح، فهذا غير صحيح، ولم يقل به ابن عبد السلام إلا بناء على الضرورة الشرعية – وقد أوردنا أمثلة منها عند ابن عبد السلام – حيث يتغير واقع المسائل، فلا ينطبق عليها حكم الأصل، وإنما أتت الشريعة لها بحكم آخر هو الرخصة. قال ابن عبد السلام في هذه المسائل التي استشهد بها الكاتب: (ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار)(31). أنظر الأمثلة التي أوردناها عنه سابقاً.

لا يحل الحرام إلا برخصة شرعية:

فقوله (يجوز)، يعني لا يوجد حرمة، ولا يسمى الفعل منكراً، بل يصبح مرخصاً به، وحتى يصح هذا لا بد من دليل شرعي. وإذا حصل أن استعمل فقيه تعبيراً كقوله: إن هذه المعاصي مباحة. فهذا لا يصح بحال إلا أن يحمل على أن الفعل الذي هو معصية في حالة معينة، يصبح مباحاً في حالة أخرى، كالإكراه أو الاضطرار، وفي الحالتين لا بد من الدليل الشرعي على الترخيص. أما ما يقوله بعضهم من جواز القيام ببعض الأعمال مع ما فيها من الإثم، فإن قولاً كهذا لا تقوم له قائمة في الإسلام. ولا ينتطح في هذا عنزان. ولا يقول بهذا إلا مضلِّل أو مضلَّل. فمثل هذا القول ينقض بديهيات فهم الحكم الشرعي. فالإثم شرعاً يترتب على مخالفة أمر الشارع، والمعصية تترتب على مخالفة أمر الشارع، والجواز هو بيان الشارع لمشروعية القيام بالفعل، والحرمة هي نهي الشارع عن القيام بالفعل، فكيف يقال بجواز فعل المعصية، أو بجواز القيام بالفعل مع ما فيه من إثم، فهذا تناقض، ونقض لفكرة الحلال والحرام، أي نقض لشريعة الإسلام.

أنظر قول ابن الشاط في شرحه لفروق القرافي عند الفرق الخامس والثمانين حيث قال القرافي: (وكذلك يستعمل المحرم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف، وتساغ الغُصَّة بشرب الخمر…). يقول بن الشاط: (إذا أكل المضطر الميتة أو شرب الغاصُّ الخمرَ فلم يفعل واحد منهما محرماً بل فعل واجباً، وما هذا الكلام كله إلا كلام من ذَهَبَ وهمه إلى أن: الحكم الشرعي وصف حقيقي(32) فالتحريم لا يفارق الميتة والخمر بحال. وذلك وهم باطل وغلط واضح لا شك فيه). ثم قال: (لا يتعين ترك واجب ولا فعل محرم إلا بمعنى ما كان واجباً في غير هذه الحال ومحرماً كذلك).

لا يحل للخـلـيـفـة مخـالـفـة الشـرع بـحــجــة رعايـــة الشـــؤون:

قال الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه اللـه: (إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم صريح: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». ولهذا لا يحل للإمام أن يحرّم حلالاً، ولا يحل حراماً، ولا أن يلغي حكماً، أو يوقف العمل بحكم، لأن ذلك حرام على الخليفة، كما هو حرام على كل مسلم من المسلمين. ولا يقال إن مصلحة المسلمين اقتضت تحريم كذا وإباحة كذا، لأن اللـه قد عيّن مصلحة المسلمين بأحكام معينة، فإذا جاء الخليفة ورأى المصلحة في غير هذه الأحكام فإنه يكون قد نسخها، وهذا لا يجوز مطلقاً. ولذلك لا يقال إن رعاية شؤون المسلمين قد جعلت له أن يسيرها كما يرى باجتهاده، لأن اللـه جعل له رعاية شؤون المسلمين بالكتاب والسنة، وجعل له الاجتهاد في حدودهما، فهو يجتهد في الأعمال الفرعية التي جاء النص بأصولها عاماً، ولم يأت بها نص، فإنه يجتهد في اختيار ما يراه أصلح وأنفع، أما ما جاء حكم اللـه فيه فلا محل لاجتهاد الخليفة في شأنه، بل هو ملزم بتنفيذ الحكم الشرعي كما هو دون أي تحريف أو تبديل…)(33) ثم قال رحمه اللـه وجزاه عنا خير الجزاء: (وأما ما يقال من أن الرسول قد حرّم مباحاتٍ ومنعها رعايةً لشؤون المسلمين فلا حجة فيه على جواز أن للإمام أن يفعل ذلك رعاية لشؤون المسلمين. وذلك لأن الرسول مشرِّع فإذا حرم حكماً مباحاً، أو أباح حكماً محرماً، فإنه يكون قد نسخه، والنسخ خاص بالكتاب والسنة، أي بالقرآن والحديث، وليس لغير الرسول ذلك مطلقاًً، وأما منعه من أشياء معينة من شيء مباح فإنه يكون إما موصلاً لأذى قد حرمه اللـه أو موصلاً إلى محرَّم حرمه اللـه، وهذا تشريع لنا، وليس من قبيل رعاية الشؤون، فلا يتخذ دليلاً على إعطاء الإمام صلاحية تغيير الأحكام بحجة رعاية الشؤون أو بحجة المصلحة)(33).

كلمة أخيرة:

إن أمثال هذه الفتاوى التي يبثها بعض المتأثرين بحضارة الغرب، المبهورين بما بلغه من تطور مادي وعلمي، والمهزومين داخلياً فلا يؤمنون بإمكانية نهوض الأمة الإسلامية، إنها تزيد الطين بلة، وتعيق نهوض المسلمين، إذ تضللهم وتمنعهم من فهم الإسلام، ومن فهم دورهم في الحياة كعباد للـه وكحَمَلَة أمانة، بل هي تحث المسلمين على التمسك بمفاهيم الحضارة الغربية، حيث الاندماج في مجتمعاتها، وعلى التخلي عن كل ما يتميز به المسلمون كمسلمين. وهكذا يغدو المسلم بلا حضارة، وبلا أثر  لعقيدته في سلوكه، ولا لون له. ومثل هذا الأمر ليس صدفةً محضة، وإنما هو أمر مدروس مقصود، أن يتخلى المسلمون عما لديهم وأن يذوبوا في مجتمعات الآخرين ويتبنوا ما لديهم. وإنه وإن صدر مثل هذا التوجه، تحت عناوين كثيرة، كالضرورة والمصلحة، والتيسير، وإن تذرع له أصحابه بالتجديد والمرونة والتطور واللحاق بالركب، فهو توجُّه واحد، له موجِّه واحد، وهناك من يتلقاه عن إدراك وخبث ويسير فيه بمداورة وخبث. وهناك من يتلقاه ويسير فيه عن جهل وقصور في الإدراك.

وإن من أعظم المحرمات والمفاسد في هذا التوجه وفي هذه الفتاوى أن يجهل المسلمون معنى كونهم مسلمين، ومعنى عبوديتهم للـه، والأمانة التي حمّلهم اللـه إياها ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور. وبدلاً من ذلك يخرجون هم من النور إلى الظلمات.

وليعلم هؤلاء المستسهلون المحللون المتحللون، أننا عندما نفتي بالحرام حراماً، ولو كان إليه حاجة، فنحن نمنع ما منعه اللـه، ونسد طريقاً أمر اللـه بسده، فعلى المسلم حينئذٍ أن يعمل جاهداً لإشباع حاجته بالطريق الذي أحله اللـه، وحينئذٍ يفهم المسلم دينه ويتنبه إلى قضيته. بدل أن يركن إلى المحرمات واحدة بعد واحدة، فلا يلقى نفسه إلا وهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإسلام.

إن هذه القضية يجب أن تكون مركز تنبه لدى المسلمين، لأن هدفها إحباط الأمة في تطلعها إلى الإسلام، وإجهاض محاولتها وتحفزها لإقامة الدولة الإسلامية، والقضاء على الإسلام. ولذلك فمثل هذه الأفكار التي تُبث في الأمة يجب أن تزول، فيجب أن تحارب، والداعي إليها موضع تهمة، والعلاقة معها علاقة صراع لا حوار، وإن مجرد التفكير بحل وسط معها هو وقوف على حافة الانتحار. وكل ما يأتي به هذا المنهج من آراء هو آراء غير إسلامية.

( اللـه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات).

صدق اللـه العظيم.

الهوامش:                                   (انتهى)

30- قواعد الأحكام. ج1، ص48 – 91.

31- قواعد الأحكام. ج1، ص67.

32- وهو قول للمعتزلة وخالفهم الجمهور.

33- الشخصية الإسلامية. ج2، ط3، ص146-148.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *