العدد 122 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الأول 1418 – تموز 1997م

المسـلمـون والغـرب (4)

المسـلمـون والغـرب

(4)

بقلم: أحمد المحمود

 

الجمعيات والأحزاب:

نشطت سفارات الدول الأوروبية في بلادنا، منذ أواخر الدولة الإسلامية زمن العثمانيين، بتأسيس الجمعيات والأحزاب، وجعلوها مراكز لضرب الإسـلام والدولة الإسلامية. وقد كانت هذه الجمعيات والأحزاب سماً ناقعاً قتّالاً حوّل الآلاف من أبناء المسلمين إلى كفار، وكان أثرها فظيعاً في ضرب الدولة الإسلامية أثناء اشتباكها مع الكفار في الحرب العالمية الأولى وبعدها.

ففي سنة 1847م تأسست «جمعية الفنون والعلوم» تحت رعاية الإرسالية الأمريكية، وقد تولاّها بطرس البستاني وناصيف اليازجي، وكان يعاونهما ويوجههما كل من الكولونيل الإنكليزي تشرشل وإيلي سميث، والأميركي كورنـيـلـوس فـان ديك. وقد عملت على تـثـقـيـف النـاس بالثـقـافـة الغربية، فلم ينضمّ لها سوى النصارى.

وتأسست جمعية أخرى سنة 1850م باسم «الـجـمـعـية الشرقية» أسسها اليسوعيون برعاية الفرنـسـيـين وكان أعـضـاؤهـا كذلك كلهم من النصارى.

وفي سنة 1875م تأسست «الجمعية السرّية» وعملت على بث فكرة القومية، وإثارة العداء للدولة العثمانية التي كانت تسميها التركية، وعملت على فصل الدين عن الدولة، وتحويل الولاء من الإسـلام إلى القومية العربية، واتهمت تركيا باغتصاب الخلافة من العرب.

وأنشأت «جمعية الاتحاد والترقي»، وقام بتأسيسها شبان أتراك تشبعوا بالأفكار الفرنسية، وكانت تعمل على نقل الحضارة الغربية إلى تركيا وكانت لها فروع في برلين وسالونيك وإستانبول وباريس. وكانت جلساتها تعقد في المحافل الماسونية، وعلى الأخص المحفل الإيطالي الأكبر في سالونيك. وصارت هذه الجمعية، فيما بعد، تتحكم في الدولة كلها، في حاضرها ومستقبلها، ودفعت سياسة الاتحاديين القومية والمقصودة المسلمين من العرب، والألبان، والشركس والأكراد… إلى تأسيس جمعيات يدعو كل منها إلى قوميته الخاصة به…..

إن وجود الجمعيات والأحزاب في الأمة يدل على حيويتها، وعلى إقبالها على الاهتمام بالشأن العام، ومن وظيفتها تقويم اعوجاج الحاكم أو الضغط عليه ليقوم بواجب الحكم إن قصّر..، وهذا ما كان يجب أن يحدث عندما قامت الأحزاب في أواخر أيام الدولة الإسلامية على العثمانيين عندما ظلموا، لا أن يكونوا أدوات بيد الكفار ويحملون سكينهم ليطعنوا بها دولتهم التي أمرهم اللـه بالحفاظ عليها والنصح لحاكمها لا ضربها والقضاء عليها.

فالأحزاب تعمل على أن تشكل بين الناس وسطاً سياسياً مؤثراً، ووسطاً شعبياً فاعلاً تستطيع أن تجعله في مواجهة الحاكم، وتستطيع، لما يصبح لها من شوكة، أن تأمر وتنهى الحاكم في بعض الأحيان بأكثر من اللسان. وأن تحمله على الحق إن قصّر والامتثال له. على خلاف الأفراد فإنهم لا يستطيعون نصح الحاكم بأكثر من اللسـان، والأمر متـروك بعـدها للحـاكم إن شـاء انتصـح وإن شـاء أصـمّ أذنيه وإن شـاء قتل ناصحه.

والإسلام أمر بوجود الأحزاب القائمة على العقيدة الإسلامية لكي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والحكم مشمول بدعوتها وأمْرِها ونهيها. قال تعالى: ]ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون[. وقد جاءت أحاديث كثيرة تطلب من المسلمين، بصيغة الجمع، أمْرَ الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر، وأطْرَه على الحق أَطْراً، وقصره عليه قصراً. قال رسول اللـه (r): «… كلا واللـه لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولتأطُرُنَّهُ على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً» وفي رواية: «أو ليضربن اللـه قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم» [رواه أبو داود]. ولكن هذه الأحزاب يجب أن تقوم على الإسـلام، وأن تعمل على تحقيق أهداف الإسـلام التي قصّر الحاكم المسلم بأدائها، لا أن تكون لعبة بأيدي الكفار، ومطية يمتطونها لتحقيق أهدافهم.

من هنا يعتبر الحاكم نفسه أنه المعنيّ الأول بالنسبة للأحزاب. والحاكم متى قصر، خاف من محاسبة الأمة له عن طريق الجمعيات والأحزاب. لذلك نراه يعمد إلى سنّ القوانين التي تنظم تأليفها، فيحل ويحرّم على هواه، يحل ما يوافقه، ويحرم ما يشكل خطراً عليه، فيبيح مثلاً وجود الأحزاب الوطنية أي الموالية لأساس النظام والمخالفة لبعض فروعه وأحكامه، ويبيح كذلك وجود الجماعات الإسلامية التي لا تشكل خطراً عليه، والتي تعطي وجوده مشروعية دينية، والتي تتعامل مع الحاكم كولي للأمر، والتي تحجّم الإسـلام بحدود البلد الذي تعمل فيه، وتلوّن طروحاتها التي تدعي أنها إسلامية بلون مصالحه، ويحرم وجود الأحزاب المبدئية الإسلامية لأنها تشكل خطراً على بقائه، وبقاء نظامه أصلاً، بدعوى أنها طائفية. ويفسح مجال العمل أمام الجمعيات الخيرية والأخلاقية والاجتماعية… بل يشجعها بتخصيص المساعدات لها، ويضيّق على الأحزاب السياسية، ويصل التضييق عليها إلى حد منعها أو استيعابها والالتفاف عليها وشراء ذمم مسؤوليها، أو ترضيتهم ببعض المناصب التافهة، أو ينشئ الأحزاب الموالية له، ويمكّن لها بين الناس، ويحاول أن يظهر بها بأنه ذو شعبية، ويحمي نفسه بوجودها، وتسمى هذه الأحزاب بحزب الحاكم أو الحزب الحاكم. هذا وقد يسمح بوجود أحزاب صغيرة، لا تعبر إلا عن رأي أفرادها إلى جانب الحزب الحاكم ليعطي صورة عن نفسه بأن بلده ديمقراطي يسمح بوجود الرأي الآخر. وهذه الأحزاب تقوم على شعارات ومقالات وأفكار فارغة كالطبل، محلاة بعسل مليء بإبر النحل تتجرعه الأمة فيضاف إلى تسلط الحاكم عليها تسلط المحازبين. وهذه الأحزاب، في الوقت الذي تخدم فيه الحاكم، تقوم بدور سلبي على الأمة. فهي تعطي بتجاوزاتها، ردة فعل سيئة بجعلها تنفر من الأحزاب وهذا النفور يستفيد منه الحاكم ومَنْ وراءه بالدرجة الأولى، إذ لن يوجد في الأمة من يستطيع التغيير عليه، فتكون بذلك قد حققت أحد أهدافها التي رُسمت لها. فتكون في نفس الوقت عائقاً أمام العمل الصحيح والحزب الصحيح الذي أمر اللـه بوجوده من أجل التغيير الصحيح. وكم هو ممض أن نرى حركات إسلامية تشارك في ذلك.

وكثيراً ما نرى اليوم أن بعضاً من هذه الأحزاب، تقف وراءها سفارات أجنبية أو أنظمة دول عميلة وتابعة لتتدخل بواسطتها في الدول التي تعمل فيها وتجعلها مطية للوصول إلى الحكم عن طريقها في لعبة صراع المصالح بين الدول الغربية.

وكذلك فإننا نرى أن الدول الغربية تدرس واقع الأمة. فإن وجدت أن الأمة مأخوذة بشعارات الاشتراكية أنشأت لها أحزاباً تطالب بالاشتراكية، وإن كانت تبغي الوحدة أنشأت أحزاباً تطرح شعار الوحدة، وإن كانت تبغي الإسـلام أنشأت لها أحزاباً تطرح الإسـلام.

وكذلك فإننا نرى أنها تعمد إلى تأجيج الصراع الفكري بين الأحزاب القوميـة والوطنية والإسلامية لتبقى هي بعيدة فلا يطالها الصراع. المهم أن الغرب، ومعه الأنظمة التابعة له لم يترك الساحة فارغة خوفاً من أن يقودها غيره.

وهكذا فإن الأحزاب والجمعيات استغل الغرب والأنظمة التابعة له دورها. وهي الآن منتشرة في الأمة بمقدار ما تحقق مصالحه، كأسلوب لكسب الأمة أو لتضييعها عن الحق أو لإظهار أن للحاكم شعبية عن طريقها. فهي أدوات مستغلة تنفر الأمة لتعرض عن كل عمل جماعي، مع أن العمل الجماعي مطلوب شرعاً للتغيير.

نعم إن قصة الأمس بالنسبة للجمعيات والأحزاب ما زالت تتلى اليوم. وإن هذا الأسلوب لم يتخلَّ عنه الغرب والأنظمة التابعة له على السواء، بل طوره بما يخدم أهدافه. وهذا ما يدلل بقوة على أن أصابع الغرب الخفية ما زالت تحرك دُماها. وأن أنيابه ما زالت مغروزة في عروقنا يمتص بها دماءنا ليحيا بها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *