العدد 123 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الآخر 1418 – آب 1997م

القوات المسلحة الروسية (2)

القوات المسلحة الروسية

(2)

بقلم: أبو نبيل – موسكو

 في 10/03/1997

في ظل هذه الظروف والأجواء فإنه ولا شك قد وجدت الاستخبارات الغربية والأمريكية بشكل خاص الفرصة ملائمة لشراء الأسرار العسكرية الاستراتيجية للجيش الروسي، وقد نالت من الأسرار ما لم تكن تحلم به من قبل سواء ما كان سبب الحصول عليه الأزمة الاقتصادية، أو الهزيمة الفكرية. فقد حصل السفير الأمريكي المفوض ستراوس على مخططات أجهزة التجسس الروسية المنصوبة في السفارة الأمريكية في موسكو، حصل عليها سنة 1993م من يد رئيس الاستخبارات الروسي وقتها باكاتين كبادرة حسن نية روسية. عندما وصل الأمر إلى هذه الحافة صار الجيش الروسي مصدر قلق ورعب للسياسيين في الغرب، فمن يضمن لهم أن أفراد الوحدات النووية التكتيكية لا يبيعون الرؤوس النووية هذه سهلة الحمل والنقل، وهم قد رأوا كيف كان القائد الشيشاني باسايف يهدد الروس بالحقائب المشعة في موسكو نفسها. وللتدليل على جدية تهديده كان يعطي عنوان بعض الحقائب المشعة هذه للصحفيين، فيذهبون إلى موسكو على العنوان الموصوف فإذا بها حقيقة لا كلام. من يزيل رعبهم وقد اكتشفت الشرطة الألمانية مرات عديدة اليورانيوم المشع والمستخدم في الرؤوس النووية مع مسافرين من روسيا إلى ألمانيا، من يضمن للغرب أن منظمات متطرفة لن تلجأ للحصول على الغواصات النووية الروسية، من يضمن لهم ذلك والقضاء في أمريكا يحقق في قضية المستثمر الأمريكي فرايبرينغ والمتهم بشراء غواصة روسية يستخدمها لنقل المخدرات من أمريكا اللاتينية إلى سوق الولايات المتحدة. هل يقبلون بتطمينات الرئيس يلتسين ورئيس وزرائه جيرنا ميردين، وكيف يقبلون بهذه التطمينات وقد شاهدوا يلتسين يعلن بصراحة عن وقف إطلاق النار في الشيشان ومع ذلك تستمر نصف القوات الروسية بالحرب والطائرات بالقصف، بل وكيف يمكن الثقة بهذه التطمينات وهم قد سمعوا وزير الدفاع راديونوف يعلن بتاريخ 7/2/97م أن احتمال فقدان السيطرة على أنظمة الصواريخ النووية العابرة للقارات وارد، فهل استغراب رئيس الوزراء جيرنا ميردين لتصريح وزير دفاعه يطمئن الغرب على أمن هذه القوات النووية وأنها ليست مصدر خطر إطلاقاً. إن هذه الأمور هي أخطار حقيقية ناتجة عن الضعف الاقتصادي والتسيب في الجيش يفهمها الغرب، بل ويتخذ منها وسيلة لفرض رقابة دولية للإشراف على سلامة الأنظمة النووية الروسية.

هذا هو وضع الأحزاب في الجيش الروسي الناتج عن عدم دفع رواتب الجند والإنفاق عليهم وما أنتجه من تسيب، فإن وضع هذا الجيش من ناحية التدريب قد انحط بشكل كبير. ولا شك أن قوة الجيش تقاس، من ضمن ما تقاس به من وحدات، بالاستعداد القتالي، والاستعداد هذا لا يكون إلا باستمرار التدريب. والتدريب يلزمه، ضمن ما يلزم، الوقود لكافة الآليات العسكرية من برية وجوية وبحرية. والآلة العسكرية نفسها تتآكل من التدريب والزمن وتحتاج إلى استمرار تجديد، والجيش الروسي الذي لا يستطيع توفير الغذاء الكافي والمناسب لأفراده لا شك بأنه لا يملك الوقود الكافي للتدريب. وها هم ضباط أسطول المحيط الهادئ وهم حماة الجبهة الصينية واليابانية يعلنون أن قطع الأسطول صارت تستخدم المخزون الاستراتيجي، أي مخزون الحرب الفعلية، من الوقود والمواد الغذائية. وهذا حال الكثير من الوحدات. والصناعات العسكرية تحاول أقصى ما يمكن أن تبيع بضاعتها خارج الحدود لأن الجيش الروسي لا يستطيع تسديد الديون المستحقة لهذه المصانع، ما يحرم الجيش من إمكانية الاستمرار في تجديد معداته. وعموماً فقد انحط الاستعداد القتالي إلى عُشْرِ ما كان عليه.

أما التصنيع العسكري فإنه يعيش الأزمة نفسها، فالصناعات العسكرية التقليدية قد تحول الكثير منها إلى التصنيع المدني، وصاحَبَ هذا التحول دعاية شديدة من بداية التسعينيات تهيب بمصانع الطائرات والدبابات التحول إلى صناعة الطناجر والأفران وباقي الأمور للأغراض المنزلية والمدنية الأخرى، لتحاشي أزمات البطالة وحتى يبقى المصنع على الأقل مشغلاً للأيدي العاملة فيه، وتوقف الكثير من المصانع عن العمل، وصارت البطالة العسكرية عقدة اجتماعية كبرى استدعت المساعدات الإنسانية من الخارج، فمثلاً في مدينة جوكوف الصغيرة قرب موسكو عمل 85% من الأيدي العاملة فيها في مصنع الطائرات الحربية، وعندما فقد المصنع القدرة على دفع الرواتب للموظفين اضطر إلى تخفيض الأيدي العاملة بشكل كبير واستفحل الفقر في هذه المدينة ما دعا النجدة إلى الحضور، فقدمت مؤسستان اجتماعيتان: أمريكية وأخرى كندية للمساعدة في تدريب الناس على استيعاب المهن الجديدة. ويتملّك الحزن مراسل إحدى قنوات التلفزيون الروسي وهو يشرح عن الصعوبة التي تلاقيها هاتان المؤسستان، فيقول: كيف تقنع خبير صناعات جوية عَمِلَ بتخصصه عشرين عاماً بالانتقال إلى تخصص بيع الفستق في حسبة الخضار!

أما الصناعات الاستراتيجية النووية والفضائية فحالها ليس بأحسن، فقد هاجر الكثير من علماء ومهندسي هذه الصناعات إلى أي بلد شرقي أو غربي بحثاً عن عمل مشرّف، ومنعاً لهجرة البقية الباقية إلى بلاد لا ترغب فيها أمريكا والتي لا يستوعب سوقها أكثر مما استوعب، وأملاً في الوصول إلى الصناعات النووية الروسية، فقد عرضت أمريكا مشاريع نووية مشتركة ووافقت روسيا في مساعدتها في تمويل هكذا مشاريع للمحافظة على ما يمكن المحافظة عليه من المخططات النووية للمستقبل. والصناعات الفضائية هي أكثر معاناة من نقص التمويل لارتفاع كلفة مشاريعها، فكثير من المشاريع التي قامت ووصلت نصف الطريق توقفت بانتظار التمويل، وكثيراً ما يتأخر إطلاق المركبات إلى الفضاء لأن الإعداد لم يكتمل بسبب عدم اكتمال التمويل، وغالباً ما صارت روسيا تشرك معها غيرها في مشاريعها الفضائية لتخفيف التكلفة، فهي تتشبث بكونها إحدى دولتين فقط ترتادان الفضاء.

يدرك الروس في مؤسسة التصنيع العسكري أن حياة هذه المؤسسة ومستقبلها يكمن في بيع الأسلحة التقليدية ونصف الاستراتيجية في السوق الخارجية، وقد ذهبوا إلى المعارض العسكرية في دبي وباريس وقد بهروا العالم بما عرضوه من فنون التكنولوجية الحربية، وقد استطاعت شركة «السلاح الروسي» الحكومية سنة 1996م أن تبيع في السوق الخارجية بمبلغ ثلاثة ونصف مليار دولار، وهم يدركون أن سوق السلاح تدر الأموال الطائلة الكفيلة بحل الضائقة الاقتصادية للجيش ومؤسسة التصنيع العسكري، ولكنهم شاهدوا موقف أمريكا الشديد من بيعهم الهند محركات الصواريخ ومن بيعهم إيران المفاعلات النووية للأغراض المدنية تحت حجج منع انتشار الأسلحة الاستراتيجية. وها هم اليوم يشاهدون شدة الموقف التركي من بيعهم لقبرص أنظمة الصواريخ المضادة للطائرات والتي تضاهي باتريوت الأمريكية.

الروس يعرفون هذه السوق ويدركون أنها مخرجهم لا سيما وأن التقنية العالية في صناعاتهم الحربية تؤهلهم لمنافسة الصناعات الغربية، والسؤال هو هل تستطيع قيادتهم السياسية الصمود أمام الضغوط السياسية الأوروبية والأمريكية لمنع روسيا من دخول هذه السوق بقوة؟ فعندما يتقدم حلف الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية فإنه سيفرض عليها تحديث جيوشها بالسلاح الأطلسي وتبعاً لذلك تحرم روسيا عملياً من هذه السوق التقليدية لها.

إذا كان هذا هو واقع القوات المسلحة الروسية اليوم: ضياع في تحديد الجهة الصديقة والجهة العدوة، وضائقة اقتصادية، وتسيّب على مستوى الوحدات الميدانية وكذلك القيادة، فما هو مستقبل هذا الجيش؟

إن الدور العالمي الواسع الذي تمتع به الجيش في روسيا زمن الشيوعية من قدرته على التصدي لجيوش دول حلف الأطلسي ونصب قواعد استراتيجية له فوق دول شرق أوروبا شمالاً وفي فيتنام جنوباً وعلى أراضي كوبا في النصف الآخر للكرة الأرضية قد ولّى ولن يعود، ولم يبق فيه من الناحية العالمية إلا الوجود الجامد للقوات النووية والصواريخ العابرة للقارات والمركبات الفضائية. وهذه الناحية العالمية فيه ستبقى دون جدوى وذلك لأسباب منها الضياع في السياسة الخارجية التي كما تلاحظ عند السياسيين في الحكم تلاحظ عند السياسيين في المعارضة ومن ضمنها المعارضة الشيوعية، ومنها الأزمات الداخلية خاصة الاقتصادية التي لا ترى نهاية لها في المستقبل القريب، وما لهذه الأزمات من آثار مباشرة وغير مباشرة على مؤسسة الجيش. لهذه الأمور كلها فإن هذه الناحية العالمية لن توظف لتركيز التأثير الدولي للسياسة الروسية، بل ستبقى مجرد رموز للعظمة وشعارات جوفاء لا أثر لها على أرض الواقع الحقيقي، وإنه وإن كان هجوم السياسيين في دول حلف الأطلسي والمرعوبين من الأخطار المحتملة للتسيب في الجيش الروسي سيستمر محاولين إقناع روسيا القبول برقابة دولية على أسلحتها النووية، فإن روسيا لن تلجأ إلى إجراءات تفقدها هذا الوضع الاستراتيجي من الشعور بالأبهة والعظمة أمام الشعوب الأوروبية خاصة.

وإنه بسبب جرأة الخطوات الأمريكية في توسيع حلف الأطلسي وانتشاره فوق دول شرق أوروبا مضافاً إلى ما ذُكر من أسباب داخلية روسية، فقد حرمت روسيا عملياً من ممارسة أحلامها القيصرية على الشعوب السلافية، وستبقى سياسة روسيا في أوروبا ضمن الحدود التي يسمح بها الموقف الدولي، وإبراز العسكرية الروسية سيبقى لأمد بعيد أداة أمريكية لتبرير تكريس هيمنتها ووجودها في غرب أوروبا.

إن الناظر في تاريخ روسيا وبروزها في العالم يرى أن الناحية العسكرية هي فقط التي أبرزت روسيا إلى العالم، فقد اعتنوا في كل تاريخهم بالآلة الحربية، فلم يبرزوا يوماً كقوة اقتصادية كوضع ألمانيا واليابان الآن، ولا كحضارة ثقافية كفرنسا في أوروبا، ولا حتى كقوة سياسية، فنادراً ما تلاحظ على قادتهم الحنكة والدهاء السياسيين. وإنه وإن برزوا كقوة مبدئية شيوعية إلا أنهم لم يتحملوا الصبر عليها طويلاً، وكان يقض مضاجعهم عدم حدوث الثورة الاشتراكية في دول غرب أوروبا قبل روسيا، فشعورهم بالنقص أمام الشعوب الأوروبية الغربية يعشعش في صدورهم، وكانوا يتشبثون بألمانية ماركس وإنجلس كعنصر يقوي نظريتهم الشيوعية، فالذي أبرزهم هو الآلة الحربية والانتصارات المتتالية على ولايات المسلمين التي تضعضع اتصالها بالمركز العثماني، وعلى الدولة العثمانية نفسها في أواخر عهدها، فالحروب والقوة العسكرية هي تاريخ عظمة روسيا، وهذه هي مفاهيم العظمة التي عرفها الروس، لذلك فرغم الضعف الاقتصادي الشديد فلا يزال الروس يمولون مشاريع تجريبية للصواريخ المضادة للصواريخ، ويطلقون الأقمار الصناعية للأغراض العسكرية، فروسيا لن تتخلى أبداً عن مصدر عظمتها التاريخية، أي عن الناحية العسكرية، فهم سيبحثون دائماً عن مكان لإبراز روسيا وعظمة الأمة الروسية، والذي يلوح خلف هذه السياسة ليس المساعدات الاقتصادية كأمريكا، ولا الاستعمار الثقافي كفرنسا، بل يكاد يكون المساعدات العسكرية ومعاهدات الحماية والتدخل لفض نزاعات إقليمية، وحماية الحدود، فأبرز ما سيلاحظ على السياسة الروسية في دائرة مصالحها الحيوية هو الناحية الحربية.

إن روسيا التي فقدت دورها العالمي وها هي تفقد دورها الأوروبي لن تنكفئ على نفسها، فإنها تعتبر القفقاز وآسيا الوسطى مستعمرات تاريخية لها، وترى أن نفوذها في هذه المناطق لا يلاقي عقبات من قبل السياسيين المحليين. فإنهم رغم إخفاق روسيا لا يزالون يرونها دولة عظمى ويحترمونها. فمشكلاتهم يقبلون ببحثها في موسكو كما تبحث الآن مشكلة كاراباخ الجبلية بين الأرمن والأذريين، ومشكلة أبخازية بين الأبخاز والجورجيين، ومثل قضية الحرب الأهلية في طاجكستان، فحتى ممثل حزب النهضة الإسلامي يقول عند توقيعه اتفاقية اقتسام السلطة مع حكومة طاجكستان في موسكو يقول: (نطلب ونرجو أن تكون روسيا هي الضامن لتنفيذ هذه المعاهدة)، ورئيس أوزبكستان يتوسل توسلاً كي تتدخل روسيا في طاجكستان حتى تحميه قواتها من عاصفة ما يسميه المد الأفغاني والتطرف.

إن أمريكا التي كانت تتريث في سياستها تجاه مجموعة الدول التي تفسخت عن الاتحاد السوفياتي حتى لا تغضب روسيا، وعلى الرغم من الضعف الذي أصاب سياستها الخارجية بعد مجيء كلينتون إلى الحكم، ترى أن الوقت قد حان لإدخال نفوذها إلى هذه الدول، فهي سابقاً تصرفت بعنجهية مع الاتحاد السوفياتي، وكانت ترى أنه لا عظمة لموسكو إلا في الناحية العسكرية، فلا يصح إشراكه في بحث القضايا الدولية المختلفة، ويكفي معه البحث في نزع التسلح والأمن في أوروبا. وها هي تشاهد الآن تدهوُر روسيا بشكل عام وتردّي وضعها العسكري، فلا ترى ضرورة لزيادة التريث في التصرف في القضايا التي لروسيا علاقة بها، فعزمت على توسيع حلف الأطلسي، وذهبت أبعد من ذلك عندما قام هافير صالونا سكرتير حلف الأطلسي بزيارة مولدافيا وأوكرانيا وأرمينية وجورجيا وأذربيجان. وقد احتجت روسيا ضمناً على هذه الزيارة بقول يسترجمسكي سكرتير يلتسين الصحفي: إن لهذه الزيارة معاني أخرى، يقصد أن أبواب حلف الأطلسي مفتوحة أيضاً لهذه الدول. وعبّر يلتسين نفسه منبهتاً عن الوضع بقوله «إن الغرب قد دخل عميقاً» أي يقترب من عمق روسيا دون اعتبار لها ولجيشها، وفوق ذلك فإن مجيء أولبرايت إلى وزارة الخارجية الأمريكية فهم في موسكو على أنه إعادة تصلب أمريكي تجاه موسكو ومصالحها، فأولبرايت ترى أنه لا يحق لروسيا الإبقاء على جندي واحد خارج حدودها.

وكذلك فإن الدعم المبطن الذي تقدمه أمريكا لجماعة طالبان في أفغانستان ودعم موسكو العلني لدوستم وحتى مسعود ورباني يدل على بداية احتدام صراع النفوذ، في هذه المناطق بين روسيا وأمريكا. فإنه وللأسف الشديد ولأن المسلمين لم ينهضوا بعد فإن السنوات القادمة ستشهد أحداثاً دموية وحروباً يسعّرها الصراع الروسي الأمريكي على القفقاز وآسيا الوسطى، ويكتوي بنارها المسلمون في هذه المناطق. وأفغانستان وإيران وتركيا لن تكون بعيدة عن هذه الأحداث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *