العدد 79 -

العدد 79 – السنة السابعة، جمادى الأولى 1414هـ، الموافق تشرين الثاني 1993م

حكاية محاولة اغتيال الملك حسين في جامعة مؤتة

تناقلت الصحف ووكالات الأنباء خبر اكتشاف محاولة لقتل ملك الأردن حسين، وأن حزب التحرير يقف وراء هذه المحاولة، ثم أخذت محكمة أمن الدولة بمحاكمة المتهمين في هذه المحاولة، منهم اثنان من حزب التحرير يحاكمان حضورياً، واثنان آخران من الحزب يحاكمان غيابياً، فما صحة هذا الخبر، وهل هناك علاقة بين هذه المحاولة وبين حزب التحرير؟

إن ما تناقلته وكالات الأنباء والصحف من خبر اكتشاف محاولة لاغتيال الملك حسين في جامعة مؤتة العسكرية في جنوبي الأردن هو ما أعلنه ناطق رسمي أردني، والخبر، أي خبر، يحتمل الصدق كما يحتمل الكذب كما يحتمل التشويه، ونحن حتى نتبيّن صدق هذا الخبر من كذبه لا بد لنا من الوقوف على مجرى المحاكمة والاستماع إلى إفادات المتهمين وشهادات الشهود وسائر البيّنات إن وجدت، ثم عرض هذه المحاولة على أفكار حزب التحرير الأساسية الثابتة، ولا بأس بعد ذلك من الوقوف على سياسة الدول الغربية ودول المنطقة تجاه الإسلام السياسي. وعلى ضوء كل ذلك نستطيع الحكم بصحة هذا الخبر أو كذبه.

لقد تابعنا وقائع محكمة أمن الدولة الأردنية منذ أن عقدت أولى جلساتها وحتى الآن، فاستمعنا من المدعي العام العسكري إلى إفادات المتهمين الخطية، والتي قال المدعي العام عنها أنها أُخذت من المتهمين من قبله برضاهم ووقعوا عليها باختيارهم دون إكراه. وبالاستماع إلى هذه الإفادات الخطية يتبيّن أن المتهمين جميعاً متورطون في محاولة اغتيال الملك حسين، وأن شباب حزب التحرير هم أيضاً مشاركون في المحاولة بدرجات متفاوتة. هذا ما تدل عليه الإفادات الخطية التي قدمها المدعي العام العسكري. وقد تحفّظ المحامون على جميع هذه الإفادات. وكان يمكن لهيئة المحكمة، إن هي أخذت بهذه الإفادات الواضحة الدلالة على محاولة الاغتيال، أن تحكم بتجريم جميع المتهمين حسب نصوص القانون الأردني، وإصدار أحكام بحقهم.

وبعد ذلك أخذت المحكمة بإحضار شهود النيابة، وقد استمعنا إليها كلها، فكانت جميع هذه الشهادات ضعيفة الدلالة على القضية المعروضة أما القضاء، إذ خلت من الوضوح الذي لا بد منه في الشهادات، خاصة في مثل هذه القضية الكبيرة، إضافة إلى شعور المستمع إليها بأنها تكاد تتماثل وكأنها صادرة كلها من شاهد واحد أو عقلٍ واحد، وليس فيها ما يستطيع القاضي العسكري أن يعتمد عليه في التجريم سوى ما جاء على لسان الشاهد الأول المدعو سمير حجازي، فهذا الشاهد جاءت شهادته قوية الدلالة على المحاولة وواضحة لا لَبْس فيها، إلا أن محامي الدفاع طعنوا في هذه الشهادة لكون هذا الشاهد كان معتقلاً في دائرة المخابرات العامة، والمعتقل لا يصلح شاهداً، وثانياً لأنهم استطاعوا لدى مناقشة الشاهد أن يكتشفوا ما يقارب العشرين كذبة وخطأ في شهادته مما جعل الشاهد يخرج عن طوره ويبدأ بالصراخ لتغطية موقفه، وهكذا تمكن المحامون من إيجاد عدة طعون في هذه الشهادة، ولم يستبعدوا أن يكون هذا الشاهد المعتقل قد لقن شهادته من قبل ضباط المخابرات، ولهذا فقد طلبوا من رئيس المحكمة رد شهادته وإصدار أمر باعتقاله، إلا أن رئيس المحكمة رفض هذا الطلب الأخير. وقد استمرّ توتر أعصاب أهالي المتهمين ومن لهم علاقات بهم خشية أن تصدر على هؤلاء المتهمين أحكام قاسية إلى أن بدأت المحكمة بسؤال المتهمين في جلسات لاحقة عن تورطهم في هذه القضية وهل هم مذنبون أم لا، وهنا كانت المفاجأة الكبرى في هذه القضية، إذ نفي جميع المتهمين الثمانية التهم الموجهة إليهم، وأنكروا جميعهم الإفادات التي قدمها المدعي العام العسكري في بداية الجلسات معلنين أنهم تعرضوا إلى تعذيب وحشي رهيب في دائرة المخابرات العامة على مدى شهرين ونصف الشهر، وقالوا أن الإفادات الخطية التي قدمها المدعي العام ليست سوى عملية نسخ من الإفادات التي أخذت منهم في دائرة المخابرات تحت التعذيب البدني والنفسي، وأن المدعي العام لم يقم بالتحقيق معهم مطلقاً خلافاً لما أدّعى آنذاك، وإنما قام باستدعاء المتهمين فرداً فرداً في أحد مكاتب المخابرات العامة نفسها وبحضور المحقق النقيب علي برجاق الذي أشرف على تعذيب هؤلاء وإملاء الإفادات على المتهمين بالقوة. فقام المدعي العام كما يقول المتهمون بنقل الاعترافات الموجودة في إفادات المخابرات العامة ثم طلب منهم التوقيع كل على إفادته دون أن يسأله سؤالاً واحداً ودون أن يقرأ الإفادات عليهم، إلا أسئلة شكلية لا تقدم ولا تؤخر، وعندما حاول أحد المتهمين الامتناع عن التوقيع على إفادته قام النقيب علي برجاق ليضربه أمام المدعي العام، وبدأ هؤلاء المتهمون يكشفون أصناف التعذيب الذي خضعوا له فكان مما قاله أحدهم: «وكنت أُضرب وكان يقول: حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وأنا تحت التعذيب وكانوا يضربونني بواسطة عسكر يرفعون أقدامي للأعلى وكان يوجه لي الشتم والتحقير لي ولعشيرتي (وهم عشائر بني صخر في جنوب الأردن) وكنت أمشي في الساحة مشي البطة واحد يضربني وآخر يركب علي وكنت أضرب بالأحذية وكان يقول: إن صار للكندرة شيء ستموت اليوم، وكان التعذيب مرات يسير في ساحة التعذيب ومرات في المكتب، وكان السؤال يدور حول علاقتي بحزب التحرير وكنت أنفي أي علاقة لي بحزب التحرير» وأضاف هذا المتهم «وبعدها بفترة كانوا يعصبون على عيوني من الصباح وحتى الثانية ظهراً لكي لا يراني الصليب الأحمر، وبعد انتهاء الدوام قاموا لتعصيب عيني وأحضروني، وكان علي برجاق وقال لي ـ بدك توقّع دون أن تسأل وإلا بتعرف شو بيصير فيك ـ فأدخلني على الرائد مهند وصار كلما يسألني الرائد مهند من الخوف لا أستطيع الكلام لأن صوتي لم يكن ظاهراً من التعذيب. وكان النقيب برجاق حاضراً التحقيق ويشرح ويكتبها في المحضر، وبعد أن أكمل الرائد مهند الكتابة وقعت دون أن يقرأها عليّ».

وقال متهم آخر: «أرسلوني إلى سراديب التعذيب وهناك تم تقييد يديّ إلى رجليّ وقام عشرة جنود بضربي وإهانتي لأني ضابط وقالوا لي ألفاظاً نابية ـ يا ابن الشر… يا ابن القحـ… وكان يغلط عليّ وعلى عشرتي (يقصد بني صخر) وكانوا يتناوبون عليّ عشرة أيام بدون نوم وأنا تحت التعذيب ليلاً نهاراً، وكل يوم يحضر الطبيب للكشف علي. واستمر على ذلك عشرة أيام وانتظر حتى تطيب جراحي،وسمحوا لي بالنوم ليلة واحدة وأعطوني حبوباً لا أعرف ما هي، وكنت من شدة التعذيب لا ‘ارف حالي إلا عند الطبيب وكنت أتبول على نفسي بدون إرادتي وحتى هذه اللحظة، واترك بدون نوم».

وقال متهم آخر: «ورفضت وبعدها شاهد جسمي يتحمل الضرب فهددني باللواط ولم أصدق أنه يعملها، وبعدها عدت إلى غرفة يريد أن ينفذ تهديداته، ولما أحسست أنه لا توجد عنده رحمة قلت له أَعملُ ما تريد».

وقال متهم آخر: «وأمرني بالاستلقاء على ظهري ورفع اثنان من الحرس أقدامي إلى الأعلى واثنان قيدوني واثنان انهالا عليّ بالضرب، وعندما كانا يتعبان يطلبان مني القيام بالتمارين الرياضية، وبعد ساعة من الضرب أوقفني علي برجاق وقال: ما بدك تحي؟ فقلت له: ما عندي شيء. فقال للحرس: بدنا انعامله بالإنسانية لأن في الأردن ديمقراطية، وطلب مني الاستلقاء على ظهري، ونفس الجولة السابقة، وصبوا الماء البرد على أقدامي». وأضاف: «فقلت جيبوا حسين الجدي (وهو أحد المتهمين) وبالفعل أحضروه ولكن انصدمت عندما رأيته لأني شاهدت لفافة على عينه اليسرى وشاهدت على إصبعه لفافة أيضاً من اليد اليمنى ـ الإصبع الأوسط ـ وكان وجهه متغيراً وأزرق ووزنه خف كثيراً».

وقال متهم آخر: «وكانت يداي مقيدتين لخلف وظل يضربني ويبصق عليّ، وقد استمر ذلك، واستدعاني برجاق وقال: هل تعرف فلاح العبد اللات؟ فقلت لا، فقال: مين ما بيعرف فلاح باشا الهامل الساقط، ويقول: كلكم هَمَل وسقط وليس لكم أصل».

وقال متهم آخر: «وقلت له ما عندي شيء فصفعني وقال لي بالحرف الواحد… أخت إلي نفضك. وقال: أنت من بني حسن حثالة المجتمع. وأحضر الحرس وأحضروا عصا طولها متر ونصف وعليها حبل قطره حوالي 5 سم وربطوا أقدمي ورفعوها ويداي مقيدتان بالحديد ثم جاء أحد الحرس ووقف بجميع ثقله عليّ ثم أمر برجاق شخصاً آخر من الحرس بضربي على أقدامي بوساطة خيزرانه ووضع أحدهم يده على فمي وصار يضغط على فمي يريد أن يبول في فمي، فلم يستطع فتح فمي واستمر الضرب ساعتين، وكل ربع ساعة انتظار».

وقال متهم آخر: «ووجد المقدّم مازن أنه لا يوجد عندي شيء وأصر على أن أذكر أن المتهميْن الأول والثاني ورائي، ولما لم يجد شيئاً عندي نهائياً وجدت مصطفى العشي مدير المخابرات في مكتب التحقيق كان يرغب بي ويرهب بي وآخر الأمر قال لي: إذا ما حكيت على هلال وأبو أنس لا تلوم إلا نفسك، وبعدها هُددت باللواط، وكان ذلك من قبل برجاق، وبعد هذا التهديد وقَعت على أوراق أحضرها برجاق لا أعرف ما هو مدون فيها».

وقد ذكر المتهمون أصنافاً أخرى من التعذيب البدني والنفسي، مما يجعل إفادات المتهمين في دائرة المخابرات، ومن ثم إفادتهم التي نسخها المدعي العام مطعوناً فيها لأنها أخذت بالقوة والإكراه.

وبذلك نستطيع القول إن خبر محاولة الاغتيال الذي أعلنه الناطق الرسمي الأردني وتناقلته وكالات الأنباء والصحف هو خبر لا نستطيع تصحيحه، ولا نطمئن إلى صدقه وصحته.

أما بخصوص علاقة حزب التحرير بهذه المحاولة فإنّا نقول: أن جميع المتهمين قد نفوا أن تكون لهم أية علاقة بحزب التحرير باستثناء المتهم الأول فإنه أقرّ أنه من حزب التحرير ولكن هذا المتهم قد نفى نفياً قاطعاً أن تكون له أدنى علاقة بالمحاولة المزعومة، كما أن جميع المتهمين لم يذكروا لهذا العضو في الحزب ضلعاً في هذه المحاولة، وأما المتهمان غيابياً فلم يذكرهما أي متهم من هؤلاء المتهمين مطلقاً لا تصريحاً ولا تلميحاً، ونقصد بذلك أثناء الإدلاء بإفادتهم الشفوية الحقيقة.

والنتيجة التي نخرج بها هي أنه لم تكن هناك محاولة لقتل الملك، والأمر ملفق من أصله. وهو لُفّق لإلصاقه بحزب التحرير. وغرض النظام من هذا التلفيق وهذا الإلصاق، حسب فهمنا، هو ضرب حزب التحرير.

ذلك أن قانون العقوبات الذي يطال الأحزاب في الأردن جعل عقوبة الحزب غير المرخص دون ستة أشهر (حبس) إذا كان لا يتعاطى العنف، وتصل هذه العقوبة إلى خمس عشرة سنة إذا كان الحزب يتعاطى العنف. والنظام الأردني يعرف، كما يعرف غيره، أن حزب التحرير سياسي يتعاطى بالفكر ولا يتعاطى بالعنف. ورأى هذا النظام أن عقوبة ستة أشهر غير رادعة وغير كافية لوقف نشاط أعضاء هذا الحزب، خاصة وأن ما يسمونه بالحركة الأصولية الإسلامية قد نمت وتصاعدت في البلاد الإسلامية، وصارت تهدد الأنظمة القائمة، وصارت تشكل خطراً على نفوذ الدول الغربية وعملائها ومصالحها وحضارتها. ومن أجل أن يحمي النظام الأردني نفسه ومن أجل أن يرضي أسياده من دول الغرب قرر أن يضرب حزب التحرير. وبدل أن يسنّ النظام قانوناً خاصاً مشدداً لحزب التحرير تفتق ذهن السلطة عن تلفيق التهمة.

وبعد البحث قرروا (جماعة النظام) أن يجعلوا من جامعة مؤتة مسرحاً لروايتهم. ونسبوا إلى الحزب تدبير محاولة لاغتيال الملك. وهو يحاولون استصدار حكم من المحكمة بأن حزب التحرير هو وراء محاولة عملية اغتيال. وبذلك يستطيع النظام أن يصنف حزب التحرير على أنه حزب إرهابي يتعاطى عمليات العنف والاغتيال، وبذلك يستطيع أن يطبق على أي عضو ينتمي إلى هذا الحزب قوانين العنف والإرهاب وأن يحبسوه مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس عشرة سنة لمجرد انتمائه لهذا الحزب حتى ولو لم يقم بأي عمل.

فهل ينجح النظام الأردني في مكره وتلفيقه؟ وهل ينصاع قضاة المحكمة فيصدرون للنظام ما شاء من أحكام ملفقة مزوّرة؟

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *