العدد 131 -

السنة الثانية عشرة – ذو الحجة 1418هـ – نيسان 1998م

من فِتَنِ عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)

من فِتَنِ عبد الله بن سبأ (ابن السوداء)

بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، خرجت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة مطالبين بدم عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وخرج علي رضي الله عنه إلى الكوفة.

ذكر الطبري في تاريخه أن علياً “دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة، وقال له: إلق هذين الرجلين يا ابن الحنظليه – وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة… فخرج القعقاع حتى قدم البصرة. فبدأ بعائشة رضي الله عنها. فسلم عليها وقال: أي أُمّه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني إصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير، حتى تسمعي كلامي وكلامهما، فبعثت إليهما فجاءا. فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد فقالت إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان”. وذكر الطبري ما دار بينهم من كلام، وما عرضه ابن الحنظليه وكانت نتيجة المفاوضات ما ذكره الطبري “فقالوا نعم إذن قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر. فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك وأشرف القوم على الصلح…” قال الطبري: “لما جاءت وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم، جمع علي الناس ثم قام على الغرائر فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم … ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن غداً أحد أعان على عثمان بشيء…”.

لما بدت بوادر الصلح اجتمع نفر ممن أعان على عثمان ورأوا أن الصلح لن يكون إلا على دمائهم، وكان فيهم عبد الله بن السوداء، فدار بينهم حوار، وأجمعوا على رأي ابن السوداء الذي نقله الطبري: “وتكلم ابن السوداء فقال: يا قوم، إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون”.

وكان مما قاله الزبير لمن معه: “… إنه قد فارقنا وافدهم على أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا…” وكان مما قاله علي لأقوام من أهل الكوفة: “على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم وقد أجابوني…”.

قال الطبري: “فخرج طلحة والزبير فنـزلا بالناس من الزابوقة، في موضع قرية الأرزاق، فنـزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن جميعاً اسفل منهم وهم لا يشكون في الصلح… وردوا حكيماً ومالكاً إلى عليّ بأنا على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم فخرجا حتى قدما عليه بذلك فارتحل حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج  إلى بعض ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح…” وقال: “… فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وخرج طلحة والزبير فتواقفوا، وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمراً هو أمثل من الصلح، ووضع الحرب حين رأوا الأمر قد أخذ في الانقشاع وأنه لا يدرك، فافترقوا عن موقفهم على ذلك”، ورجع علي إلى عسكره وطلحة والزبير إلى عسكرهما… فباتوا على الصلح، وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه… وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك، خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر، فغدوا مع الغلس، وما يشعر بهم جيرانهم، انسلوا إلى ذلك الأمر انسلالا، وعليهم ظلمة، فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم، فوضعوا فيهم السلاح… والسبئية لا تفتر إنشاباً… وقالت عائشة: “خلّ يا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفاً، وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبلهم كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم، ويأبون إلا إقداماً، فلما دعاهم كعب رشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ورموا عائشة في هودجها…”، (…ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة، نظر إلى بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف وزيادة فقسمها على من شهد معه الوقعة… وقال: لكم إن أظفركم الله عز وجل بالشام مثلها إلى أعطياتكم، وخاض في ذلك السبئية، وطعنوا على علي من وراء وراء… وأعجلت السبئية علياً عن المقام، وارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم، ليقطع عليهم أمراً إن كانوا أرادوه…)

هذا كان دور ابن السوداء والسبئية في الجمل، ومن قبل ما فعلوا بعثمان، ولم أقف على دور لهم في صفين. أما بعدها فإن ابن السوداء نحا منحى جديداً في الفتنة، ليفسد على المسلمين دينهم بتأويلات في علي، منها ما يتعلق بالعقيدة، فقد أورد الإمام عبد القاهر البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق نقلاً عن ا لشعبي ما نصه: “وقد ذكر الشعبي أن عبد الله بن السوداء وكان يعين السبئية على قولها، وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً من أهل الحيرة فأظهر الإسلام، وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً، وأن علياً رضي الله عنه، وصي محمد صلى الله عليه وسلم” ثم قال عبد القاهر: “وقال المحققون من أهل السنة إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام…” ثم رد عبد القاهر على ابن السوداء والسبئية ردوداً ليس هنا مقام تفصيلها فمن أرادها طلبها في مظانها من كتب الفرق. وإنما أوردتها هنا مجملة للتنبيه على هذا الأسلوب الذي اتبعه ابن السوداء في الإفساد وإثارة الفتنة. والله أسأل أن يجمع ما تفرق منا، وأن يلهمنا جميعاً -ولا استثني أحداً- السداد والرشاد، وأن يبصرنا بالحق في عماية الفتن .

عبد الرحمن العقبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *