العدد 131 -

السنة الثانية عشرة – ذو الحجة 1418هـ – نيسان 1998م

الخصخصـة

الخصخصـة

بقلم: محمد علان – بيت المقدس

الخصخصة، أو التخاصية كما يسميها البعض، أو تحرير رأس المال هي تحويل المصانع والمؤسسات والمنشآت والمرافق الاقتصادية من ملكية الدولة أو الملكية العامة إلى الملكية الخاصة. وهي فكرة رأسمالية تنص على أن دور الدولة الاقتصادي ينبغي أن يقتصر على الرقابة وضبط النظام، وأنه كلما تحرر القطاع الخاص في العمل والاستثمار والاستخدام كلما زاد النمو الاقتصادي والازدهار. وتعرف هذه الفكرة (بالليبرالية الجديدة) أو النقدية، وقد ظهرت في عقد الثمانينيات وهي من وضع المستشار الاقتصادي للرئيس الأميركي ريغان ميلتون فريدمان والمستشار الاقتصادي لرئيسة الوزراء البريطانية تاتشر فردريك هايك.

وقد انتشرت هذه الفكرة في العالم الرأسمالي، وبخاصة أميركا وأوروبا الغربية، حيث تم تحويل المصانع والمؤسسات والمنشآت الاقتصادية من ملكية الدولة إلى ملكية الأفراد، فغدت ثروات تلك البلاد (واقتصادها) متركزة في أيدي أفراد أو شركات معدودة.

وقد أخذت الدول الرأسمالية تروّج لهذه الفكرة في العالم وبخاصة في ما يسمى بالعالم الثالث، وتسعى لنشرها وتدفع الكثير من الدول المدينة لها لتطبيقها، فوجدت صندوق النقد الدولي أيسر الطرق الى ذلك، إذ جعلها من أبرز بنود برامجه الإصلاحية التي يفرضها على الدول المدينة، ذلك لأن الخصخصة تمهد الطريق وتفتح الأبواب أمام استثمار المال الأجنبي وتسرع في اجتذابه. فعرض المصانع والمؤسسات الاقتصادية التي هي ملكية عامة أو ملكية دولة، للبيع يشكل إغراءً كبيراً للمستثمرين الأجانب وبخاصة إذا ما تعلق الأمر بالمواد الخام أو بمشاريع ومرافق اقتصادية تشكل العمود الفقري في اقتصاد البلاد، كالطاقة والمياه والممرات المائية وغيرها. وهكذا نرى أن الخصخصة كبند من البنود التي تنص عليها برامج الصندوق الإصلاحية قد اقترن ببند آخر من بنوده وهو اجتذاب رأس المال الأجنبي للاستثمار المباشر وغير المباشر، لذا نرى أن تخلي الدول النامية عن القطاع الاقتصادي العام (كما يسمونه) لصالح القطاع الخاص (الملكية الفردية) ليس رغبة في تحقيق مصالح أهل البلاد كما يصورها منظرو الخصخصة ومنفذوها، من أنها محاولة لتحقيق الكفاءة الإنتاجية والاستخدام الأمثل للموارد لتحسين نوع السلع والخدمات بأقل التكاليف، بل هو استجابة محضة لتوجيهات وضغوطات المؤسسات المالية والدولية وبخاصة صندوق النقد الدولي سيء الذكر.

صحيح أنه ربما يكون بعض الأفراد أقدر من الدولة على العمل والاستثمار والاستخدام، وغير ذلك مما يتعلق بالمشاريع الاقتصادية، لأن نظرة الدولة في الغالب ليست كنظرة الفرد، فالدولة قد تتنازعها عدة أهداف من وراء المشروع الاقتصادي، ليس أهمها الأرباح المادية، في حين نجده، أي الربح المادي، على رأس أهداف الفرد التي يسعى لتحقيقها ويعتبرها مقياس نجاحه أو فشله. إلا أن ذلك، أي كون بعض الأفراد أقدر من الدولة، لا يعم الأفراد جميعاً، ففشل الأفراد وانهيار مشاريعهم ومصانعهم أمر حاصل وغني عن التعريف، وأمثلة ذلك تربو على الحصر. ومن ناحية أخرى نجد مرافق ومواردا اقتصادية تقوم عليها مصانع ومنشآت ومؤسسات لا يتصور أن يمتلكها الأفراد، كالأنهار والغابات والممرات المائية والموانئ والمعدن العِدّ التي لا تنقطع وغيرها. أما فشل المشاريع الاقتصادية أو ما يسمى بالانهيار الاقتصادي في معظم دول العالم اليوم فسببه عجز وفشل النظام الاقتصادي المطبق عليها، وخطأ الأساس الذي يقوم عليه هذا النظام، وليس محصوراً في كون هذا المرفق أو المشروع ملكية دولة أو ملكية فرد، فمن أراد أن يعالج فعليه أن يبدأ بالعقيدة التي ينبثق عنها هذا النظام الاقتصادي.

وللخصخصة آثار خطيرة أهمها:-

1- تركز ثروات البلاد الزراعية والصناعية والتجارية في أيدي بعض الأفراد أو الشركات التي تمتلك رؤوس أموال هائلة وتتمتع بخبرات إدارية وفنية وتقنية. وهذا يعني فيما يعني حرمان السواد الأعظم من الناس من هذه الثروات، ويصبح المال دُولةً بين الأغنياء فقط. فتكون الخصخصة بذلك سبباً يضاف إلى أسباب سوء توزيع الثروة، وهذا أمر ظاهر في البلاد الرأسمالية وبخاصة أميركا وأوروبا.

2- اقتران الخصخصة في بلاد المسلمين بفتح الأبواب أمام المستثمرين الأجانب يعني وقوع البلاد تحت نير الاستعمار الاقتصادي، سواء أكان المستثمر فرداً أو شركة، لأن الأفراد الرأسماليين وكذلك الشركات الرأسمالية هي التي تحكم في الدول المستعمرة. ويترتب على ذلك نهب ثروات البلاد، وإحكام السيطرة السياسية على حكام البلاد وأهلها. ولا أظن المستثمر الأجنبي إلا ساعياً وراء تحقيق أعظم الأرباح في أسرع الأوقات، دونما التفات إلى حاجات أهل البلاد من السلع والخدمات، أو إلى النهوض بالصناعة في هذه البلاد. كل ذلك إذا كان المستثمر الأجنبي مشغّلاً لماله في المشاريع الاقتصادية ليعطي ربحاً، أما إذا كان مستثمراً له استثماراً مباشراً أو غير مباشر فتلك مصيبة عظيمة ليس هذا موضع بحثها. وقد حاولت بعض الدول التي خضعت للخصخصة إطلاق اسم (الشريك الاستراتيجي) على هذا المستثمر لتجميل صورته وإخفاء حقيقته.

3- كثيراً ما يؤدي نقل المشاريع، وبخاصة الصناعية والزراعية، من ملكية الدولة أو الملكية العامة الى الملكية الفردية، إلى تقليص عدد العاملين أو تفيض أجورهم لأن المستثمر أو صاحب المشروع أو مديره في النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر تقليص عدد العاملين وتخفيض أجورهم أسهل وأسرع الوسائل في رفع كمية الإنتاج وتخفيض التكلفة. وهذا بدوره يؤدي إلى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل واتساع رقعة الفقر ولا يخفى على أحد ما للبطالة والفقر من أثر على المجتمع وعلى مستوى الإنتاج والنمو الاقتصادي.

4- إن إلغاء الملكية العامة أو ملكية الدولة يعني تخلي الدولة عن واجباتها تجاه رعاياها، فتتنصل من الكثير من مسؤولياتها، لأنها تفتقد لمصادر التمويل، فعلى سبيل المثال لا الحصر لا تستطيع توفير الحاجات الأساسية لمن قصرت بهم السبل وعجزوا عن سد حاجاتهم الأساسية، ولا تتمكن من توفير التطبيب والتعليم لرعاياها، وغير ذلك.

5- تنشط الدولة في البحث عن مصادر تمويل بديلة لتلك المصادر التي باعتها وتخلت عنها، فلا تجد مصدراً غير فرض الضرائب الباهظة على المصانع والمشاريع والمؤسسات الاقتصادية، سواء التي باعتها أو التي هي مملوكة أصلاً للأفراد، فيؤدي ذلك الى ارتفاع الأسعار، وفي المحصلة يجد المستهلك نفسه هو الذي يدفع هذه الضرائب للدولة وليس المستثمر، وآثار ذلك، إذا ما اقترن بالبطالة وتخلي الدولة عن مسؤولياتها الرعوية، تكون وخيمة.

6- الأموال التي تجنيها الدولة من بيعها للمشاريع الاقتصادية لا تستغلها في مشاريع إنتاجية بديلة لتدرّ على البلاد عوائد غير منقطعة، بل تذهب معظم هذه الأموال وكما تريد المؤسسات الدولية: »صندوق النقد وغيره« الى الإنفاق المُبالَغ فيه على ما يسمى بالبنية التحتية وما يسمى بالمحافظة على البيئة وتنميتها وما يسمى بتنمية الموارد البشرية والتي كلها تسهيلات لاجتذاب رأس المال الأجنبي، وفي هذا هدر لثروات البلاد وإنفاقها لمصلحة المستثمر الأجنبي، وحرمان الناس من عوائدها. إلا أن بعض الحكومات تحاول إخفاء هذه الحقيقة بالترويج لفكرة ما يسمى »بصندوق الأجيال«.

7- حرمان عامة الناس من حقهم في الاستفادة من الملكيات العامة من مثل الماء والنفط، والممرات المائية والموانيء وغيرها، وفي ذلك ظلم لهم وإفساد لمعايشهم.

8- خصخصة وسائل الإعلام وبخاصة البثين التلفزيوني والإذاعي يفسح المجال أمام الغزو الفكري الرأسمالي، ما يشكل تهديداً حضارياً للأمة.

هذه هي بعض آثار الخصخصة وهي غيض من فيض.

أما حكم الشرع فيها فأقول وبالله أستعين:

لقد جاء الإسلام وحدد حيازة المال (كل ما يتمول به) بكيفية معينة تتفق مع فطرة الإنسان بحيث تمكنه من إشباع حاجاته الأساسية إشباعاً كاملاً وتمكنه أيضاً من الوصول الى إشباع حاجاته غير الأساسية، فحارب الإسلام إلغاء الملكية وكذلك تحديدها بالكم لتناقضه مع فطرة الإنسان، وفي الوقت ذاته حارب حرية التملك لأنها تؤدي الى فوضى العلاقات بين الناس وتسبب الشر والفساد. فحدد الإسلام الملكية بالكيف لا بالكم فنص على ثلاثة أصناف هي:

أولاً: الملكية الفردية: وهي (حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة، يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العوض عنه). والحق في ملكية العين ليس ناشئاً عن العين نفسها وعن طبيعتها أي عن كونها نافعة أو غير نافعة وإنما هو ناشيء عن إذن الشارع.

ثانياً: الملكية العامة: وهي (إذن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين)، والأعيان التي تتحقق فيها هذه الملكية هي الأعيان التي نـص الشرع على أنها للجماعة مشتركة بينهم ومنع الفرد من حيازتها وحده، وهي ثلاثة أنواع:

1- ما هو من مرافق الجماعة بحيث إذا لم تتوفر لبلدة أو جماعة تفرقوا في طلبها، كالماء والكلأ والنار.

2- المعدن العِدّ أي الكثير، كالبترول.

3- الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها كالموانيء والأنهار وغيرها.

ثالثاً: ملكية الدولة: وهي كل مال كان الحق فيه لعامة المسلمين والتدبير فيه للخليفة يخص بعضهم بشيء من ذلك حسب ما يرى، كالخراج والفيء والجزية وما شابهها.

وقد حرص الإسلام على حماية هذه الملكيات من أي اعتداء من الأفراد أو من الدولة، وبخاصة ملكية الفرد والملكية العامة، ففي الوقت الذي جاء الإسلام بالتشريعات والتوجيهات التي تصون الملكية الفردية، واعتبر التعدي عليها من قبل الدولة مَظْلِمَة يشكو صاحبها الى محكمة المظالم على الحاكم إذا فعلها، لترفع مظلمته، فلا تستطيع الدولة أن تملكه جبراً عن صاحبه مطلقاً إلا إذا رضي صاحبه أن يبيعه لها، كما يبيعه لأي فرد فتشتريه كما يشتريه سائر الأفراد، فحرِّم بذلك التأميم الذي هو تحويل الملكية الفردية الى ملكية دولة. في الوقت نفسه حرص الإسلام أيضاً على حماية الملكية العامة، ومنع الأفراد والدولة من امتلاكها فلا تستطيع الدولة امتلاكها ولا تمليكها للأفراد مهما كانت المصلحة، لأن المصلحة في هذه الأموال قد قدرها الشرع في بيانه ما هي الملكية العامة. وهكذا حرم تحويل الملكية العامة الى ملكية خاصة والتي ينص عليه مفهوم الخصخصة في أحد جوانبه.

أما إعطاء الدولة من ملكيتها للأفراد بيعاً أو صلة فهو أمر مباح، فلها أن تخص بها أفراداً معينين، وتمنعها من آخرين إذا ما رأت في ذلك رعاية لشؤونهم، فملكية الدولة أصلاً هي أعيان تقبل الملك الفردي ولكنـه تعـلق فيها حق لعامة المسلمين فكلفت الدولة بتدبيرها نيابة عن عامة المسلمين، فكان للخليفة أن يصرفها حسب رأيه واجتهاده، وهذا غير الخصخصة التي جاءنا بها النظام الرأسمالي، والتي تنص على إلغاء ملكية الدولة وتحويلها الى ملكية فردية، وتحجيم دورها الاقتصادي، وحصره في الرقابة وحفظ النظام فقط. وهذا الأمر الأخير يخالف الإسلام مخالفة بينة، فالدولة هي راعية شؤون الناس قال عليه وآله الصلاة والسلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته…» الحديث. ورعاية شؤون الرعية المالية أي الاقتصادية هي من أهم جوانب هذه الرعاية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *