كلمة الوعي: دسـتور السـودان 1998م. هـل هـو إسـلامـي؟
2016/09/26م
المقالات, كلمات الأعداد
2,892 زيارة
كانت مجلة (الوعـي) هذه قد كتبت افتتاحية في العدد رقم (85) – أيار 1994م تحت عنوان: (هل دولة السودان الحالية دولة إسلامية؟)، وكانت خلاصة الإجابة، بعد عرض مراسيم الحكم الصادرة آنذاك، وبعد عرض ما يطبقه النظام على أرض الواقع، أن السودان ليست دولة إسلامية وإن زعمت ذلك.
أما الآن، في الدستور المطروح للاستفتاء، فإن الدولة في السودان لا تزعم أنها دولة إسلامية، ولا تزعم أن هذا الدستور هو دستور إسلامي. فتكون الدولة قد تراجعت عمّا كانت تعلنه قبل أربع سنوات، وذلك إرضاءً للكفار الانفصاليين في الجنوب الذين يعملون لتمزيق السودان، ورضوخاً للمطالب الغربية، وخاصة الأميركية، التي تريد إبعاد السودان عن الإسلام، وإبقاءه في حظيرة العلمانية.
ونـود أن نلقي نظـرة عجلى على هذا الدستور لنرى مدى بعده عن الإسـلام، ومدى قصوره عن معالجة الواقع:
1- جاء في مقدمة الدستور: “نحن شعب السودان… قد وضعنا لأنفسنا هذا الدستور”. هذا الكلام غير صحيح. فليس شعب السـودان هو الذي وضـع هذا الدسـتور، بل فُرِضَ عليه. شعب السودان شعب مسلم وهو يريد الإسلام، وحين يضع دستوراً فإنه يضع دستوراً إسلامياً مستَمَدّاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما أرشدا إليه.
2- جاء في المادة (1): “دولة السودان وطن جامع تأتلف فيه الأعراق والثقافات”. ونحن نقول لواضعي هذا الكلام، الأعراق يمكن أن تأتلف، أما الثقافات المختلفة فلا يمكن أن تأتلف، فالإسلام لا يأتلف مع الكفر: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) [المائدة:100].
3- جاء في المادة (2): “السودان جمهورية اتحادية تحكم في سلطانها الأعلى على أساس النظام الاتحادي”. وجـاء في المادة (139) تحت عنوان الثوابت الأساسية: “إن البلاد تحكم وفق نظام اتحادي تقسم فيه السلطات والموارد”.
إن النظام الاتحادي مخالف للإسلام، فنظام الحكم في الإسلام هو نظام وحدة وليس اتحادياً، وهو مركزي. أما الإدارة فتكون غير مركزية. الحكم في الإسلام ليس فيدرالياً ولا كونفيدرالياً. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ على رجل واحدٍ، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه» [رواه مسلم]. وقد رأينا وحدة الدولة أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام صحابته الكرام.
4- جاء في المادة (6): “الوطن توحده روح الولاء تصافياً بين أهله كافة”. الولاء عند المسلم يكون لله ولرسوله وللمؤمنين. والبَراءُ يكون ممن يعادي الله ورسوله والمؤمنين. أي أن الولاء يكون لكتاب الله وسنة رسوله وللمؤمنين الملتزمين بذلك.
5- جاء في المادة (17) تحت عنوان السياسة الخارجية: “السعي لتوطيد السلم والأمن العالمي،… فض المنازعات الدولية بالحسنى،… عدم التدخل… في الشؤون الداخلية للآخرين”.
من هذه النصوص ومن واقع سياسة السودان الخارجية نفهم أن السودان يبني سياسته الخارجية على ميثاق الأمم المتحدة، وعلى نمط العلاقات الدولية الغربية. فهو عضو في الأمم المتحدة ويتعامل مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومحكمة العدل الدولية، وهو عضـو في جامعة الدول العربية الخ. وهذه كلها تقوم على أنظمة كفر. السودان دولة علمانية في علاقاتها الخارجية جميعها، مثل أية دولة علمانية أخرى. أما الإسلام فإنه يجعل السياسة الخارجية قائمة على أساس نشر الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد. والذي يفكر بالجهاد لا يقول بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين.
6- جاء في المادة (21) تحت عنوان التساوي: “(السودانيون)… متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة”. وجاء فيها: “لا يجوز التمييز فقط بسبب… الملة الدينية”. الشرع الإسلامي لا يميز في شأن الوظائف، أما في شأن الولاية العامة، أي الحكم، فإنه يميّز، فلا يجوز أن يكون حاكم المسلمين إلا مسلماً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59] فالآية تنص على أن يكون أولو الأمر مِنّا، أي من المسلمين. ولقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء:141].
7- جاء في المادة (24) تحت عنوان حرية العقيدة: “لكل إنسان الحق في حرية… العقيدة الدينية”. الشرع الإسلامي لا يُـكْرِه غيرَ المسلم على اعتناق الإسلام، ولكنه لا يسمح للمسلم أن يرتد عن الإسلام إلى أي عقيدة أو أي فكر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلمٍ، يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيّبِ الزاني، والنفسِ بالنفس، والتاركِ لدينه المفارقِ للجماعة» [رواه البخاري ومسلم وأحمد]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه» [رواه البخاري وأحمد].
8- جاء في المادة (25) تحت عنوان حرية الفكر: “يكفل… حرية… اعتناق أي مذهب في الرأي والفكر”. من البدهي أن المذهب في الرأي والفكر هو فرع للعقيدة. ولا يحل للمسلم أن يعتنق أي رأي يخالف عقيدته. فالمسلم يلتزم بكل ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله من أفكار وآراء، ولا يخالف ذلك إلى شيء آخر، قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) [الأعراف:3]، وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر:7].
9- جاء في المادة (33): “لا تجوز عقوبة الإعدام قتلاً على جرائم ارتكبها شخص دون الثامنة عشرة”. من المعلوم أن الشرع الإسلامي جعل سن التكليف هو سن البلوغ أي حوالي الخامسة عشرة. فعلى أي أساس جعلت هذه المادة سن التكليف في عقوبة القتل هو الثامنة عشرة؟!
10- جاء في المادة (34): “للمحكمة الدستورية… نقض أي قانون أو أمر مخالف للدستور”. هذه المادة تجعل الدستور هو المقياس، ونحن نرى أن هذا الدستور مملوء بأفكار الكفر والمتناقضات والأخطاء. الصحيح أن يقال: نقض أي قانون أو مادة دستورية تخالف القرآن والسنة.
11- جاء في المادة (37) تحت عنوان شروط الرئاسة: “يشترط لأهلية الترشيح لرئاسة الجمهورية أن يكون المرشح: سودانياً، سليم العقل، بالغاً من العمر أربعين سنة، لم تسبق إدانته منذ سبع سنوات في جريمة تمس الشرف أو الأمانة”. لم تشترط هذه المادة أن يكون الرئيس مسلماً، ولم تشترط أن يكون رجلاً، وهي الشروط الشرعية، بل اشترطت سن الأربعين وهو ليس شرطاً شرعياً. وقد ورد في المادة (56): “يشترط… الوالي ذات شروط… رئاسة الجمهورية”. إذاً فالذي وضع هذه المواد لم يلتفت عند وضعها إلى الشرع الإسلامي، بل هو ينقل من دساتير بلاد الكفر.
12- جاء في المادة (65) تحت عنوان مصادر التشريع: “الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاءً ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع”. وجاء في المادة (139) تحت عنوان الثوابت الأساسية: “إجماع الشعب تشريعاً باستفتائه أو دستوره أو عرفاً هي مصادر التشريع”. وجاء في المادة (35): “واجبات المواطن التزام عام… وهي مصدر للسياسات وللتشريعات”.
من بدهيات الإسلام أن مصادر التشريع الإسلامي هي الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس المبني على علّة جاء بها الشرع. أما في هذه المواد فاعتبر إجماع الأمة (65) وإجماع الشعب (139)، وهو لم يقصد الأمة الإسلامية ولم يقصد الشعب المسلم، بل قصد الشعب السوداني مسلمين وغير مسلمين، وأشار إلى قصـده هذا بعبارة: وإجماع الأمة اسـتفتاءً ودسـتوراً (65) وبعبارة: إجماع الشعب تشـريعاً باستفتائه (139). فهو يتكلم عن الشعب الذي يستفتيه، وعن الأمة التي يستفتيها، أي عن الشعب السوداني بكل عقائده وطوائفه.
واستعمال كلمة (إجماع) هو استعمال للتضليل. إذ متى يحصل إجماع في استفتاء على دستور أو تشريع بين فئات متحاربة؟! ويدّعي واضع الدستور أن الدستور يصبح مصدراً للتشريع بمجرد فرضه على الناس عن طريق استفتاء مزوّر. وأي غموض أشد من القول: “واجبات المواطن مصدر للتشريعات”؟! إنه كلام تُرِكَ مبهَماً عن قصد كي يفسره المشرِّع كما يحلو له. ثم جعل العرف مصدراً للتشريع! ونسأله: عُرْف من؟ عرف المسلمين أم عرف الكفار؟ وإذا قال: عرف المسلمين. نسأله: العرف المأخوذ من الكتاب والسنة، أم العرف الفاسد؟
13- جاء في المادة (66) تحت عنوان الاستفتاء: “ويصبح الموضوع… حائزاً على ثقة الشعب إذا نال أكثر من نصف المقترعين… كل قرار نال ثقة الشعب بالاستفتاء يصبح حجة فوق القانون”.
في هذه المادة نقطتان: الأولى الحصول على أكثر من نصف المقترعين. وهنا يمكن أن يرفض الشعب ذلك الموضوع ويقاطع الاستفتاء، ولا يذهب إلى الاقتراع إلا حفنة قليلة ممن لهم مصلحة في ذلك الموضوع. وهنا يدعي صاحب الاستفتاء أنه نال أكثرية المقترعين، بل قد يأخذ جميع أصوات المقترعين، ويدعي أنه حصل على الإجماع، بينما لا يكون أخذ أكثر من عشرة بالمائة. والنقطة الثانية هي أن هذا الاستفتاء يصبح حجة فوق القانون ولو كان قانوناً شرعياً. مثل هذه المادة توفر للحاكم أداة لتعطيل أي قانون وتمرير أي غرض يريده.
14- جاء في المادة (67) تحت عنوان السلطة التشريعية: “يقوم مجلس وطني منتخَب يتولى سلطة التشريع”. وجاء في المادة (73): “يمثل المجلس الإرادة الشعبية في التشريع”. وجاء في المادة (97): “يقوم في كل ولاية مجلس للولاية منتخَب يتولى سلطة التشريع”.
سبق أن ذكرنا في البند (12) أن مصادر التشريع في الإسلام هي القرآن والسنة وما أرشدا إليه. والتشريع يكون عن طريق الاجتهاد الصحيح لاستنباط الأحكام من هذه المصادر. ومن هذه الأحكام المستنبطة يتبنّى رئيس الدولة (الخليفة) ما يلزم لوضع الدستور والقوانين ومعالجة ما يجد من مشاكل. هذه هي طريقة التشريع في الإسلام، وليس عن طريق مجلس من المسلمين والكفار والعلماء والجهلاء. وليس عن طريق مجلس ولاية غالبية أعضائه من الكفار.
15- جاء في المادة (68) تحت عنوان شروط عضوية المجلس الوطني: “أن يكون المرشح بالغاً إحدى وعشرين سنة”. إن سن التكليف في الشرع هو سن البلوغ. هذه المادة اشترطت بلوغ الحادية والعشرين. والمادة (37) اشترطت بلوغ المرشح للرئاسة الأربعين. والمادة (33) اشترطت بلوغ من تقام عليه عقوبة الإعدام الثامنة عشرة. هذه الأرقام منقولة من دساتير الكفار، وليست مستندة إلى نصوص شرعية.
16- جاء في المادة (40) تحت عنوان قَسَم تولي رئاسة الجمهورية: “وأقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون وإجماع الرأي العام”. وورد في المادة (58) تحت عنوان قَسَم تولي منصب الوالي: “ذات نص قسم تولي رئاسة الجمهورية”. وجاء في المادة (71) تحت عنوان قَسَم أعضاء المجلس الوطني: “أقسم بالله العظيم… محترماً للدستور والقانون والمعروف”.
هنا نقطتان: الأولى القسم على احترام الدستور والقانون وإجماع الرأي العام أو المعروف. على فرض أن الذي يؤدي القسم وجد أن الدستور أو القانون أو المعروف أو الرأي العام هو خاطئ ومخالف لكتاب الله
وسنة رسوله، كيف يقسم على احترامه؟ إنه يصبح منكَراً في حقّه في هذه الحالة تجب إزالته. والنقطة الثانية أن القَسَم لا توجد فيه أية عبارة للمحافظة على الإسلام، وهذا لإرضاء الملل الأخرى، مع علمنا أنها لن ترضى، إذ أخبرنا الله تعالى بقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120].
17- جاء في المادة (74) تحت عنوان حصانة أعضاء المجلس الوطني: “لا يجوز في غير حالات التلبّس اتخاذ إجراءات بالجناية ضد عضو المجلس الوطني”. وجاء في المادة (82): “لا تتخذ ضده (العضو) أية إجراءات قانونية بسبب ما يبديه من أفكار وآراء”. الشرع الإسلامي أعطى الرسل (أي المبعوثين الدبلوماسيين) حصانة، ولم يُعْطِ حصانة لأعضاء المجلس الوطني. والمطلوب هو الالتزام بشرع الإسلام وليس تجميع القوانين من هنا وهناك.
18- جاء في المادة (89) تحت عنوان نفاذ القانون “إذا أعاد رئيس الجمهورية مشروع القانون للمراجعة، ثم أُجيز المشروع في المجلس ثانية بذات أحكامه بأغلبية ثلثي الأعضاء يصبح بعدها قانوناً نافذاً”. وهذا يبين أن المجلس يشرّع القوانين في بعض الحالات رغماً عن رئيس الجمهورية. في الإسلام الخليفة هو صاحب الصلاحية في سن القوانين ووضع الدستور، ومجلس الأمة له صفة استشارية فقط في نطاق التشريع.
19- المادة (90) في بنـد منها أعطت رئيس الجمهورية صلاحية إصدار مراسيم موقتة لها قوة القانون في حال غياب المجلس. وفي بند آخر استثنت موضوعات معينة من هذه المراسيم ومنها الشؤون المالية. ثم جاءت المادة (93) لتعود وتلغي الاستثناء عن بعض الموضوعات ومنها الشؤون المالية. وهذا ارتباك وتضارب من واضعي هذا الدستور. وقد أعطت المادة مدة شهر فقط لسريان هذه المراسيم إذا لم يقرها المجلس. ويأتي التساؤل لماذا يكون المجلس غائباً؟ إذا كان محلولاً فإن فترة الشهر لا تكفي، وإذا كانت هناك موانع قاهرة من اجتماعه فقد تستمر أكثر من شهر، فأي حكمة استدعت تحديد المدة بشهر. الدساتير التي نقل عنها هذا الدستور تضع مدة تنسجم مع الظرف المانع. ولكن واضعي هذا الدستور يتخبطون حتى في النقل.
20- جاء في المادة (96) تحت عنوان حجية أعمال المجلس الوطني: “لا يجـوز لأية محكمة، أو سلطة أخرى،… أن تعقب على أي قانون أو قرار أجازه… وتثبت حجية أعمال المجلس بصدور شهادة تحمل توقيع رئيسه”.
سبق أن بيّنا في البند (13) أن الاستفتاء بموجب المادة (66) يترك مجالاً للحاكم أن يتلاعب في إصدار ما يريـد. وهذه المادة تترك أيضاً مجالاً للتلاعب والتضليل، فهي تقرر أنه بمجرد أن يصدر رئيس المجلس شهادة عليها توقيعه تثبت حجية ما شهد عليه. ولم تضع المادة أية ضوابط لمنع رئيس المجلس من إصدار شهادة زور مثلاً.
وفوق ذلك فإن أعمال المجلس قابلة للصحة وقابلة للخطأ، فإن خالفت الشرع الإسلامي فهي خطأ ولا يجوز أن تكون لها أية حجية، ويجب أن تخضع لقرارات محكمة المظالم. وهذا يدل على مدى استخفاف واضعي هذا الدستور بالشرع الإسلامي، ومدى بعدهم عن الإسلام.
21- جاء في المادة (99) تحت عنوان الهيئة القضائية: “تتولّى سلطة القضاء… وفق الدستور والقانون”.
وورد في المادة (101): “يهتدي القاضي بمبدأ الدستور والقانون”.
كما نرى فإن هذا الدستور بعيد عن الإسلام ويستوحي الدساتير العلمانية، والقانون لم يصدر بعد، وعند صدوره من المتوقع أن يكون أكثر بعداً عن الإسلام، وتأتي هاتان المادتان لتفرضا على القاضي وسلطة القضاء أن يسيروا وفق الدستور والقانون، يعني بعيداً عن الإسلام.
22- جاء في المادة (103) تحت عنوان الهيكل القضائي: “يتكوّن الهيكل القضائي من محكمة عليا ومحاكم استئناف ومحاكم أولية”. القضاء في الإسلام درجة واحدة من حيث البت في الأحكام، فلا محاكم استئناف ولا محاكم تمييز. ويوجد اختصاصات مثل: قضاء المظالم، وقضاء الحسبة والقضاء العادي. وهذه المادة ليست مأخوذة من القضاء الإسلامي بل من القضاء الغربي.
23- جاء في المادة (105) تحت عنوان المحكمة الدستورية: “المحكمة الدستورية حارسة للدستور”. الأصل في هذه المحكمة ليس أن تحرس الدستور بل أن تراقب الدستور وتدقق فيه لتطهره من كل ما يخالف الإسلام، وليس أن تكون حارسة له كما هو في وضعه الحالي.
24- جاء في المادة (111) تحت عنوان السلطات الولائية: “تمارس الأجهزة الولائية… تخطيطاً وتشريعاً وإنفاذاً في الشؤون الآتية… الشؤون التبشيرية والخيرية… الشؤون ذات الخصوصية بالولاية بما في ذلك العرف وتجميعه وتقنينه”. هذه المادة تعطي حقاً دستورياً لغير المسلمين بالتبشير بأديانهم، وتعطي حقاً دستورياً أيضاً لغير المسلمين بتقنين أعرافهم. والمحكمة الدستورية ستكون للتبشير ولتقنين أعراف الكفار.
25- جاء في المادة (113) تحت عنوان الموارد المالية الاتحادية: “الإيرادات الجمركية… ضريبة أرباح الشركات وضريبة الدخل الشخصي… ضرائب العاملين خارج البلاد وضرائب المؤسسات… ضرائب ورسوم أخرى… المنح والقروض والتسهيلات الائتمانية”. وجاء في المادة (114) تحت عنوان الموارد المالية الولائية، وفي المادة (115) تحت عنوان الموارد المالية للمحليات، ضرائب مشابهة وأكثر تنويعاً.
الجمارك والضرائب هي المكوس، ويحرم على الدولة الإسلامية أن تأخذها من رعاياها لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يدخل الجنّة صاحب مَكْس» [رواه أحمد وأبو داود] وقال بشأن المرأة التي زنت وتابت وأقيم عليها الحد: «لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مَكْسٍ لغُفِر له». ويجوز أخذ الجمرك من التجار الأجانب إذا كانت دولتهم تأخذ من تجارنا، من باب المعاملة بالمثل. والضرائب لا يجوز أخذها أيضاً من رعايا الدولة. فالأموال قد حدد الشرع ما يجوز للدولة أن تأخذه من الناس، وكل زيادة هي ظلم. والضرائب هي ظلم إلا في حالة الاضطرار. في حالة الاضطرار تأخذها الدولة ممن يطيقها. أما في هذا الدستور فإن الجمارك والضرائب هي أمر ثابت ودائم، وليست أمراً طارئاً.
وقد ورد في المادة (13) بند نص على “ضرائب ورسوم أخرى”، ومثل هذا النص الغامض يستطيع أن يستخدمه الحاكم لمصادرة أموال الناس بدون مبرر.
هناك أمر لافت للنظر وهو أن الدستور لم يتطرق إلى الربا والتعامل بالربا لا من قريب ولا من بعيد. وهذا مقصود من أجل أن يبقى هذا التعامل سارياً دون لفت النظر. هم قالوا سابقاً بأن الربا ممنوع، ولكنهم يتعاملون به في الداخل تحت أسماء أخرى. أما مع الخارج فإنهم يتعاملون به علناً.
26- جاء في المادة (122) تحت عنوان قوات الشعب المسلحة: “قوات عسكرية قومية التكوين،… حماية الوطن… وحماية مكاسب الشعب… والذود عن النظام الدستوري”. لم نلحظ في هذه المادة التي تبيّن مهمات الجيش، أي ذكر للجهاد. مع أن المهمة الأصلية للجيش هي الجهاد لنشر الإسلام وليس الدفاع فقط.
27- جاء في المادة (127) تحت عنوان ديوان العدالة للعاملين: “قرارات ديوان العدالة للعاملين نهائية لا تنظرها المحاكم”. إن مجرد تسميته ديوان عدالة لا يعني أنه فعلاً ديوان عدالة، فإذا شعر بعض العاملين أنهم مغبونون ولم يوصلهم هذا الديوان إلى حقوقهم، لماذا يُمنعون من الشكوى إلى المحاكم؟
28- جاء في المادة (128) تحت عنوان هيئة الانتخابات العامة: “يراعى فيهم أن يكونوا من ذوي الكفاءة والحياد والاستقامة… إجْراء الانتخابات لرئاسة الجمهورية…” في الدولة الإسلامية الخليفة ينتخبه المسلمون فقط. أما حسب هذه المادة فإن الهيئة تضم من غير المسلمين وهي تنتخب الرئيس وغيره،
وهذا يخالف الحكم الشرعي.
29- جاء في المادة (30) تحت عنوان هيئة المظالم والحسبة العامة: “تقوم هيئة مستقلة تُسمىّ هيئة المظالم والحسبة العامة… من ذوي الكفاءة والاستقامة… دون المساس باختصاصات القضاء… لرفع الظلم”. كيف تعمل لرفع الظلم دون أن تمس بالقضاء؟ إن كثرة المؤسسات التي تقوم بعمل واحد توجد تداخـلاً فـي الصلاحيات، وتؤدي إلى الإربـاك وتعطيل العمل. فقد رأينا في المادة (99) الهيئة القضائية، وفي المادة (103) المحكمة العليا ومحاكم الاستئناف والمحاكم الأولية، وفي المادة (105) المحكمة الدستورية، وفـي المادة (127) ديـوان العدالة للعاملين، وفي هذه المادة (130) هيئة المظالم والحسبة العامة.
30- جاء في المادة (131) تحت عنوان حالة الطوارئ: “لرئيس الجمهورية… أن يعلن حالة الطوارئ… يعرض إعلان حالة الطوارئ على المجلس الوطني خلال خمسة عشر يوماً من صدوره… إذا وافق المجلس… يستمر نفاذ الطوارئ”. هذه المادة تعطي الصلاحية للرئيس أن يتجاوز المجلس لمدة 15 يوماً. وهذا تناقضٌ، فإذا كان يستطيع عرض الأمر على المجلس فوراً لماذا لا يعرضه؟ وإذا كان الرئيس يرى سريان الطوارئ أكثر من 15 يوماً والمجلس يرى إيقافها، فلماذا يتم إيقافها؟ فإما أن تكون الصلاحية للرئيس وإما للمجلس. أما أن تعطى 15 يوماً للرئيس ثم تعطى للمجلس، فهذا تخبّط. ثم جاءت المادة (134) لتقول بأنه إذا سكت المجلس ولم يطلب إيقافها ولم يطلب تمديدها فإن نفاذها ينتهي عند انقضاء ثلاثين يوماً من صدور الإعلان عنها. وهذا زيادة في التخبط.
ولا بد أن نلاحظ أن الشرع أعطى هذه الصلاحيات للخليفة ولم يعطها للمجلس، وقد حدد الشرع حالات الاضطرار وحدد الرخص التي يُعْمَل بها في هذه الحالات، ولم يترك الأمور مائعة. ولكنّ الحكام، وخاصة في بلاد العالم الثالث فإنهم يستخدمون قوانين حالة الطوارئ كي يقووا قبضتهم على رقاب الناس.
31- جاء في المادة (135) تحت عنوان إعلان الحرب: “يعلن رئيس الجمهورية الحرب… ويسري الإعلان قانوناً بموافقة المجلس الوطني”. هذه المادة غامضة بل متناقضة. إذا أعلن الرئيس الحرب ولم يوافق المجلس الوطني تحصل الفوضى. أم أن الإعلان يسري 15 يوماً، أو إلى ثلاثين يوماً ثم يوقفها المجلس كما هو الحال في حالة الطوارئ؟! وإذا لم يوقف العدو الحرب وأراد المجلس إيقافها، ماذا يحصل؟! نعود للقول إن الشرع الإسلامي أناط مسألة إعلان الحرب، وما يتعلق بها من هدنة أو صلح أو غيره، برئيس الدولة، وليس بالمجلس.
32- جاء في المادة (136) تحت عنوان الرواتب والمخصصات: “ينظم القانون الرواتب… لرئيس الجمهورية… والولاة والوزراء…” الشرع الإسلامي فرّق بين الحاكم والموظف، فالموظف هو أجير وعقده هو عقد إجارة ويأخذ أجرته التي يتم التعاقد عليها (أي الراتب). أما الحاكم فإنه ليس أجيراً، فرئيس الدولة عقده مع الأمة هو عقد مراضاة واختيار (عقد الخلافة)، وهذه هي بيعة الانعقاد على الحكم بما أنزل الله من الرئيس والطاعة من الأمة. وهو لا يأخذ أجرة بل تعويضاً بدل تفريغه جميع وقته للقيام بأعباء الحكم. وهو يعيّن بقية الحكام ويأخذون تعويضاً مثل الرئيس وليس أجرةً (راتباً).
33- جاء في المادة (138) تحت عنوان نفاذ الدستور: “يكون الدستور نافذاً بعد موافقة الشعب عليه في الاستفتاء يوم توقيع رئيس الجمهورية عليه”. ذكرنا في البند (18) عن نفاذ القانون كما تتحدث عنه المادة (89)، وهذه المادة تتحدث عن نفاذ الدستور. وقد اشترط لنفاذ الدستور شرطين أولهما موافقة الشعب عليه بالاستفتاء، وثانيهما توقيع رئيس الجمهورية. ولم يشترط أن يكون مأخوذاً من كتاب الله وسنة رسوله. وهذا يشير إلى مدى بعد عقلية واضعي هذا الدستور عن الإسلام.
ليكن معلوماً أن الإسلام لم يُعْطِ للشعب حرية الاختيار بين دستور إسلامي ودستور كفر. الإسلام حتّم على المسلمين أن يأخذوا دستورهم وقوانينهم وأفكارهم وأذواقهم ومشاعرهم من الإسلام. وحين يؤخذ الدستور من الشرع الإسلامي لا يُسأَل الشعب رأيه فيه، بل يجب أن يرضى به عن طيب نفس، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). فالدستور الإسلامي يستمد شرعيته من كونه من عند الله وليس من الاستفتاء الشعبي. وسبق أن ذكرنا في البند (14) أن الخليفة يتبنّى الأحكام والقواعد، التي يستنبطها المجتهدون من الكتاب والسنة وما أرشدا إليه، فيجعل منها الدستور والقوانين. ومحكمة المظالم المؤلفة من كبار المجتهدين، تنظر في مدى مطابقة الدستور والقوانين للكتاب والسنة، ولها حق الإلزام إذا رأت مخالفة للكتاب والسنة.
34- جاء في المادة (139) تحت عنوان تعديل الدستور: “يجيز المجلس الوطني نص التعديل بأغلبية ثلثي الأعضاء، ويصبح التعديل نافذاً”. هذا التعديل يصبح نافذاً رغم إرادة الرئيس. وهناك بند آخر في المادة يتحدث عن تعديل الثوابت الأساسية وأنها تحتاج إلى استفتاء شعبي وتوقيع الرئيس.
إن تعديل الدستور والقوانين هو من صلاحية الرئيس مثله مثل وضع الدستور والقوانين. ولكـن واضعي هذا الدستور ينقلونه عن الدساتير العلمانية، ويحاولون تقليد ديمقراطية الغرب، ولا يأخذونه من الإسلام.
35- وجاء أيضاً في المادة (139) ذِكْرُ الأحكام والثوابت الأساسية. فيذكر مصادر التشريع، وقد ذكرناها في البند (12). ويذكر حرية العقيدة والعبادة والتعبير، وقد ذكرناها في البندين (7) و(8). ويذكر أن النظام هو اتحادي، وقد ذكرنا ذلك في البند (3). ويذكر سلطة التشريع، وقد ذكرناها في البند (14). ويذكر نظام القضاء، وقد ذكرنا ذلك في البنود (21) و(23) و(27) و(29). ويذكر حق تقرير المصير لجنوب السودان: “إن لجنوب السودان نظاماً انتقالياً لأجَلٍ يكون فيه اتحادياً وتنسيقياً للولايات الجنوبية، وينتهي بممارسة حق تقرير المصير”.
وهذا يعني أن النظام في السودان حنى رقبته ورضخ لرغبة الانفصاليين، ورضي بتمزيق السودان. إن مشكلة الأمة الإسلامية تتركز في أمرين: الأول هدم الخلافة وفصل الدين عن الدولة وأخذ ثقافة الغرب ودساتيره وقوانينه، والثاني تمزيق بلاد المسلمين إلى دويلات وكيانات كرتونية يسهل على الأعداء التحكم بها.
وقد جاء واضعو الدستور السوداني هذا وخضعوا لرغبة الدول الاستعمارية الكافرة، بأن وضعوا دستوراً علمانياً مبنياً على الحضارة الغربية، وأمعنوا في التمزيق، بأن أقروا بإضافة تمزيق جديد.
لقد برهن حكام السودان الحاليون عن قصر نظرهم. إنهم يوجدون في البلد سابقة خطرة ستتكرر في المستقبل القريب رغماً عنهم أو عن الذين سيخلفونهم. غداً بعد حصول الجنوب على الاستقلال، ستقوم الدول الغربية بتحريض مناطق أخرى في السودان على المطالبة بحق تقرير المصير أسوة بالجنوب، وستَعِدها بالمساعدات. وستقوم الدول الغربية بتقديم المساعدات للجنوب لتحسين وضعه، من أجل إغراء المناطق الأخرى بالانفصال.
يتوهم حكام السودان أنهم بإعطاء الجنوب حق تقرير المصير يحلّون مشكلة الجنوب، ولم يعلموا أنهم بذلك يفتحون الباب على مصراعيه لتمزيق بقية السودان، وتمزيق مصر وغيرها من بلاد الإسلام.
عودوا عن غِيِّكم يا حكام السودان قبل فوات الأوان. وأنتم يا شعب السودان لا تقفوا مكتوفين، بل مزِّقوا هذه الدساتير قبل أن تمـزق بلادكم وتمزقكم وتحكّم الكفار برقابكم. اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين .
2016-09-26