العدد 143 -

السنة الثالثة عشرة – ذو الحجة 1419 هـ – نيسان 1999م

غـزوة أُحُـد

فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر في شوال، فأقام بالمدينة  سبع ليال، ثم غزا بنفسه يريد بني سُليم، فبلغ ماءً من مياههم، فأقام عليه ثلاث ليال، ولم يلق كيداً ثم رجع إلى المدينة وأقام فيها بقية شوال وذي القعدة. ثم ما كان من خبر أبي سفيان، أنه غزا في جماعة معه ناحية من المدينة، وأقام فيها فقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، وحرقوا النخيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، ولكن أبا سفيان تخفف من أزواد القوم طلباً للنجاة، فطرحوا ما معهم من السويق وفروا هاربين، ففاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسميت هذه الغزوة غزوة السَّويق. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجداً يريد غطفان، فأقام بنجد شهر صفر، ورجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، حتى بلغ بحران، فأقام بها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى ولم يلق كيداً. ثم ما كان من نقض يهود بني قينقاع العهد، باعتدائهم على إحدى المسلمات فانكشفت عورتها، فاستغاثت بالمسلمين، فلبّى النداء أحد المسلمين من ذوي النخوة، فوثب على أحد اليهود فقتله، فاجتمع على المسلم جمع من اليهود فقتلوه، فحاصرهم رسول الله خمس عشرة ليلة، فقام دونهم عبد الله بن أبي بن سلول، حتى وهبهم له. ثم إنّ قريشاً حاولت أن تجد لها طريقاً إلى الشام عبر العراق، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على ماء بنجد فأصاب منهم العير، وما فيها، وأفلت الرجال. ثم كانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث.

كانت غزوة أحد ردّة فعل قرشية على النصر الذي أنعم الله به على رسوله الكريم وصحابته في بدر، حيث قتل من المشركين سبعون، منهم صناديد قريش، فتداعى بعض المفجوعين بآبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم، وكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة، طالبين منهم إعانتهم بمال التجارة الذي نجا من الغنيمة بيد المسلمين، علّهم يثأرون من محمد وصحبه. وفيهم نزل قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون )@ فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرجت بحدّها وجدها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، وخرجت معهم النساء في الهوادج، فأقبلوا حتى نزلوا بجبل مقابل المدينة المنورة. فاستشار الرسول الكريم المسلمين في الخروج لملاقاة المشركين، أو البقاء في المدينة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : «فإن أردتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن كان فاته بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنّا جبُنّا عنهم وضعفنا. وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوٍ لنا قط إلاّ أصاب منا. فلم يزل الناس برسول الله حتى دخل بيته، فلبس لأمته، وقد ندم الناس على إصرارهم على الخروج، وقالوا: استكرهْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك. فلما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى الله عليك؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما ينبغي لنـبـي إذا لبـس لأمـتـه أن يضـعـهـا حـتـى يـقـاتل».

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه حتى نزل بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. ولما انخزل عبد الله بن أبي في ثلث الجيش قال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوّهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال، وفيهم نزل قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان). وقد استأذن الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة فقال لا حاجة لنا فيهم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشِّعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: «لا يقاتلنَّ أحدٌ منكم حتى نأمره بالقتال»، وأمَّر على الرماة عبد الله بن جبير، والرماة خمسون رجلاً فقال: «أنضح الخيل علينا بالنَّبْـل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا. فاثبت مكانك لا نُؤتينّ من قبلك» ولبس الرسول درعاً فوق درع، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير. ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة. أما المشركون فكانوا ثلاثة آلاف رجل، وكان معهم مائتا فرس. وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وكان اللواء مع عثمان بن طلحة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من يأخذ هذا السيف بحقّه؟» فقام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : أن تضرب به العدو حتى ينحني، فأخذه أبو دجانة، واعتصب عصابة حمراء، وجعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنها لمشية يبغضها رسول الله إلاّ في هذا الموطن.»، فجعل أبو دجانة لا يلقى رجلاً إلاّ قتله، وكان في المشركين رجل يجهز على جرحى المسلمين، فالتقاه أبو دجانة، فضربه أبو دجانة فقتله. وقاتل المسلمون قتالاً شرساً، ثم أنزل الله نصره على رسوله وعلى المسلمين، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة لا شك فيها، إلا أن الرماة المسلمين خالفوا أوامر رسول الله، فترك معظمهم الجبل ونزلوا إلى الساح طلباً للغنائم، فانكشف المسلمون، ومال خالد بن الوليد في خيله على الجبل، وأمطروا المسلمين بالنبل وبالسهام، وأصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رباعيته، وشُجّ في رأسه، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن وجهه ويقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى الله» فأنزل الله: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوبَ عليهم أو يعذبَهم فإنهم ظالمون) وتفرق المسلمون عن رسول الله، ودخل بعضهم المدينة، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إليّ عباد الله، إليّ عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، وقاتل من دونه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول: «أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع.» (أي وجبت له الجنة). وقد صوّر القرآن الكريم حال المسلمين أصدق تصوير في قوله تعالى: (ولقد صدقكم اللهُ وعدَه إذ تحُسّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين)@ ذلك أن المسـلمـيـن قتـلـوا صـاحب لواء المشـركين، وسبعة آخرين بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداءً للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة مركزهم طلباً للغنيمة، قالوا: والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو، وإخواننا في عسكر المشركين، فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألاّ يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول، فأوجفت الخيل فيهم قتلاً، فقُتل من المسلمين سبعون رجلاً. روى البخاري عن البراء بن عازب قال: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نَشَز فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تجيبوه» حتى قالها ثلاثاً، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا «تجيبوه»، ثم قال: أفي القوم عمر؟ ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تجيبوه»، ثم التفت (أبو سفيان) إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتلوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال: كذبت يا عدوّ الله! قد أبقى اللهُ لك من يُخزيك به. فقال: أعْلُ هُبل ـ مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أجيبوه»، فقالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا الله أعلى وأجلّ»، قال أبو سفيان: لنا العُزّى ولا عُزّى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أجيبوه»، قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم»، قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني.

وكان ممن قُتل من المسلمين يوم أحد؛ حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الشهداء، قتله وحشيٌّ، وهو غلام لجُبير بن مطعم؛ ومصعب بن عمير حامل لواء المسلمين؛ وحنظلة غسيل الملائكة وقصته مشهورة. وقتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً. قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار. وصدق الله تعالى إذ يقول: (إن يمسسكم قرح فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس).

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم، هو بيننا وبينكم موعد. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب في أثار القوم ينظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا امتطوا الإبل وساقوا الخيل فهم يقصدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، فوجدهم عليّ قد امتطوا الإبل، ووجهتهم مكة.

فلما كان الغد، أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، على أن لا يخرج أحد إلا من حضر أحداً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، يريد إرهاب المشركين، فمرّ به معبد الخزاعي وهو مشرك، فواسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد، ثم سار حتى لقي أبا سفيان ومن معه، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاستئصالهم، فلما رأى أبو سفيان معبداً سأله عما وراءه، قال معبد: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا. فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أرَ مثله قط، فتراجع أبو سفيان ومن معه عن التفكير بالرجعة، وحمّل ركباً رسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن أبا سفيان أجمع السير إليه وإلى أصحابه ليستأصلهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه رسالة أبي سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم : «حسبنا الله ونعم الوكيل. وفي ذلك نزل قوله تعالى: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقَوْا أجرٌ عظيم @ الذين قال لهم الناسُ إنّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشَوْهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )@.

قال ابن إسحق: كان يومُ أحد يومَ بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومَحَنَ به المنافقين، ممن كان يُظهر الإيمان بلسانه، وهو مستخف بالكفر في قلبه، ويوماً أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته. (وليبتليَ اللهُ ما في صدوركم وليمحّصَ ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور) (وليعلمَ اللهُ الذين آمنوا ويتخذَ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين @ وليمحص اللهُ الذين آمنوا ويمحقَ الكافرين )@ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *