العدد 145 -

السنة الثالثة عشرة – صفر 1420 هـ – حزيران 1999م

دردشـات سـياسـية

أولاً:  توسيع حلف الناتو وتحجيم روسيا

                بعد مفاوضات وتحضيرات استغرقت عدة سنوات، وبعد أخذٍ ورد بين حلف الناتو وأمريكا من جهة وبين روسيا من جهة ثانية صاحبها الوعود والضمانات تمّ ضم كل من بولندا وهنغاريا وتشيكيا بشكل فعلي ورسمي إلى حلف الناتو أو ما يعرف بحلف شمال الأطلسي.

                ومعلوم أن هذه الدول الثلاث كانت جزءاً من حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق، ومعلوم أيضاً أن حلف الناتو الذي أنشئ في عام 1949م كان هدفه الوحيد المعلن هو مواجهة خطر الشيوعية واحتواء الاتحاد السوفياتي السابق، ودول أوروبا الشرقية المتحالفة معه في حلف وارسو. وضم في عضويته دول أوروبا الغربية الرئيسة والولايات المتحدة وكندا، أي دول جانبي المحيط الأطلسي الشمالي.

                وقد فقد الحلف مبرر وجوده تماماً في مطلع التسعينيات مع اندثار الشيوعية وتهاوي الاتحاد السوفياتي البائد وحلّ حلف وارسو. إلا أن أميركا رأت في استمرار وجود الحلف وفي توسيعه مصلحة حيوية كبيرة لها في أوروبا بشطريها الغربي والشرقي. فبقيادتها العسكرية الدائمية للحلف، استطاعت أميركا أن تفرض نفوذها على كل دول القارة الأوروبية، لا سيما الدول الكبرى فيها كبريطانيا وفرنسا وألمانيا؛ وبتزعمها للحلف تستطيع أميركا تهديد روسيا باستمرار، وبالتالي تحجيم دورها العالمي والإقليمي؛ وبهيمنتها على أعمال الحلف العسكرية تتمكن أميركا من التدخل في المناطق المتوترة في أوروبا، وتزيدها اشتعالاً أو يزداد ثقلها فيها، كما هو حاصل الآن في البلقان وفي إقليم كوسوفا تحديداً. فحلف الناتو أصبح مطرقة أميركية تضرب بها من تشاء، وتلوح بها ضد من تشاء من الدول الأوروبية.

                وتوسيع حلف الناتو أعطى لأميركا المزيد من النفوذ في القارة الأوروبية على حساب جميع دول القارة، فبحجة توفير ما يسمى بالمظلة النووية والأمنية لحماية أعضاء الحلف من أي هجوم نووي، أو هجوم عسكري يؤثر على وجود الدول المنضمة للحلف استطاعت أميركا أن تسيطر على شطر كبير واستراتيجي من قوة حلف وارسو السابقة، لأنه، بانضمام بولندا وهنغاريا والتشيكيا، تم تقديم قواعد وأراضي ومنشآت وإمكانيات هذه الدول العسكرية، على طبق من ذهب لخدمة المصالح الغربية عموماً والأميركية على وجه الخصـوص. فمن الناحية العسـكرية يعني انضمام الأعضاء الجدد اقتراب قوات الحلف من الحدود الروسية إلى مسافة 650 ـ 700 كيلومتر، وانضمام 13فرقة برية جديدة إلى القطاعات الموجودة، وستكون قيادة الأطلسي قادرة على استخدام 256 مطاراً في الدول الثلاث، ما يجعل المدن الروسية الكبرى في متناول الطيران التكتيكي الأطلسي.

                ومع أن أميركا كانت قد وعدت روسيا  بأن توسيع الحلف لن يتسبب في إيذاء روسيا وتشكيل خطورة عليها، وتعهدت لها بأن حلف الأطلسي سيمتنع عن وضع ما سمي بـِ “قوات محسوسة” تشكل خطراً على روسيا، إلا أن انضمام هذه الدول بشكل رسمي وفعلي للحلف يعني تراجع أميركا عن وعودها لروسيا، ويعني أن تعهدها بعدم وضع قوات محسوسة على مقربة منها كان مجرد كلام في الهواء احتالت به أميركا على روسيا لتخفيف اعتراضها وامتصاص مشاعر الكبرياء لدى نواب الشعب الروسي، فأمريكا لم تعد تحسب حساباً لا لروسيا ولا للشعب الروسي ولا لنواب هذا الشعب، فقد صرحت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت عشية انضمام الدول الثلاث للحلف: “إن قبول الأعضاء الثلاثة الجدد في الحلف يهدف إلى الحيلولة دون تكرار حالات سابقة فيها كانت دول أوروبية تداس بأرجل ستالين الدموية” وفي ذلك إشارة إلى تدخل الروس السافر في دول أوروبا الشرقية التي تعتبرها دولاً تابعة لها.

                لقد ثبت أن موقف روسيا إزاء توسيع الحلف هو موقف العاجز، فالبساط يسحب من تحت أقدام الروس، تم تحويل وارسو، وهي عاصمة حلف السوفيات السابق، إلى عاصمة ثانوية من عواصم دول حلف الناتو. هذا الموقف الروسي الهزيل إزاء توسيع الحلف بما يحمل من استفزاز صارخ لروسيا يدل على مدى الوهن الذي دبّ في جسم الدولة الروسية، ما يجعلنا نستطيع القول وبلا أدنى تردد بأن روسـيـا قد فـقـدت دورهـا العالمي تماماً وها هي تفقد دورها الإقليمي، خاصة بعد خسارتها الأخيرة لمعظم نفوذها الاقتصادي في الجمهوريات المسلمة السابقة التابعة للاتحاد السـوفياتي السـابق، لصالح النفوذ الأميركي الاقتصادي الكاسح لا سيما في دول منطقة بحر قزوين.

                وكما هو ملاحظ من إشارات، فإن أميركا ستسعى في اجتماعات حلف الناتو القادمة لتوسيع دور الحلف الميداني لتشمل نشاطاته أوسع من أوروبا، ولتعديل ميثاق الحلف وتضمينه بنوداً جديدة، تعطي الشرعية لدور الحلف الجديد، من دون الرجوع إلى أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وذلك لتكريس دورها كسيد بلا منازع لأوروبا وللعالم على حدٍ سواء.

ثانياً:  تطــويـر حـلـف الناتـو

                بعد أن أخفقت أوروبا في إيجاد قوة عسكرية أوروبية بديلة عن قوة حلف الناتو، وبعد اضطرارها للتسليم بضرورة الإبقاء على حلف الناتو كقوة عسكرية ضاربة، حاولت فرنسا أن تشق الحلف وأن تجعل له قيادتين: واحدة أوروبية بقيـادة فرنسـا وألمانيـا تتحـمـل المسـؤولية في الدفاع عن أوروبا، والثانية أميركية تتولى المسؤوليات ذات الطابع غير الأوروبي الأكثر عالمية. ولكن أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية رفضت الفكرة وقالت قبل انعقاد مؤتمر واشـنطـن الأخيـر للدول التسـع عشرة الأعضاء في الحلف: «إن أميركا ستحاول وأد هذا المفهوم في مهده خلال قمة واشنطن» وهذا ما حصل بالفعل فقد تم وأد الفكرة وإلى الأبد، ولم تفلح فرنسا في مسعاها وسكتت على مضض واعترفت بقيادة أميركا الوحيدة للحلف. أما بريطانيا فأبصـرت طريقها منذ البداية، ووقفت إلى جانب أميركا بقوة، وشاركتها في موقفها من تطوير الحلف، وأظـهرت نفسـها وكأنها القوة الثانية فيه.

                لقد كانت حرب البلقان المبرر المناسب لأميركا لتفعيل دور الحلف وتكريس دورها كقائدة شرعية للحلف، فقد قال الرئيس الأميركي كلينتون: «إن الأزمة في كوسوفو أكدت أهمية حلف الأطلسي وأكدت ضرورة تحديث تحالفنا استعداداً لتحديات القرن الحادي والعشرين»، وأضاف: «سوف نتبنى اليوم خطة شاملة لعمل ذلك لكي يمكن للحلف أن يعزز الأمن والحرية 50 عاماً أخرى بدعم قدرتنا على معالجة الصراعات خارج حدودنـا» وهـذا مـا يفسـر طـول نفـس أميركا في التعامل مع أزمة كوسوفا ويفسر تركيزها على استخدام قوة الحلف العسكرية في فرض أي اتفاق سلام في إقليم كوسوفا، فالمهم عند أميركا هو اسـتخـدام قوة الحلف، وليس المهم عندها نوع السلام المراد الوصول إليه، ولعل مقولة تشـرتشـل القديمة: «إن منطقة البلقان تنتج التاريخ أكثر مما تستهلكه»، قد استخدمت الآن في خلق أحداث هامة قد يبنى عليها قواعد دولية جديدة.

                وفي مؤتمر واشنطن لدول الحلف الذي انعقد في الذكرى الخمسين لولادة الحلف، فرضت أميركا رؤيتها السياسية للحلف على المشاركين وكان من أبرز ما خرج به المؤتمر فكرتان خطرتان هما: 1ـ إدارة الأزمات       2 ـ تعزيز المشاركة.

                وبناء على هاتين الفكرتين يستطيع الحلف التدخل في شؤون أية دولة أوروبية حتى ولو كانت من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وقد وضح ذلك خافيير سولانا الأمين العام للحلف حيث قال: إن الجمهوريات المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي السابق هي جزء من المنطقة المشمولة “ب” وهي المنطقة الأوروبية ـ الأطلسية. فبحجة إدارة الأزمات تتمكن أميركا من دسّ أنفها في كل تلك الدول، وبحجة تعزيز الشراكة تستطيع أميركا ربط روسيا وحليفاتها المقربات منها، كروسيا البيضاء وأوكرانيا، ربطاً غير مباشر بحلف الناتو، وذلك عن طريق انتزاع موافقتها على ما تريده أميركا من القيام بأعمال عن طريق الحلف، وعن طريق ترضيتها ببرنامج المشاركة من أجل السلام، الذي تقدم أميركا من خلاله مساعدات وتبرز من خلاله دوراً شرفياً لروسيا.

                وعلى ما يبدو فقد نجحت أميركا في توسيع الحلف وتطويره، وإضفاء الشرعية الدولية عليه، سواء أكان ذلك من حيث الكم أم من حيث المهام. أما من حيث الكم فقد انضمت ثلاث دول أوروبية شرقية كانت أعضاء في حلف وارسو المنحلّ وهي تشيكيا وبولندا والمجر، وها هي تسع دول أوروبية شرقية وسوفييتية سابقة تقف في الطابور تنتظر دورها للانضمام إلى الحلف وهي: رومانيا، وسلوفينيا، وبلغاريا، وسلوفاكيا، ومقدونيا، وألبانيا، وجمهوريات بحر البلطيق الثلاث: استونيا، ولاتفيا، ولتوانيا. وأما من حيث المهام فقد نجحت أميركا في تحويل الحلف من مهمة الدفاع عن أعضائه خلال الخمسين عاماً الماضية إلى مهمة التدخل في شؤون الدول، وخلق الأزمات وإدارتها، وبسط نفوذها على الدول. فقد انتقل الحلف من مفهوم الاهتمام بشكل رئيس بالدفاع الجماعي، وداخل حدود القارة والدول المتحالفة. إلى مفهوم أوسع إذ أصبح «ضامناً للأمن وللقيم الديموقراطية في أوروبا» كما قال أمين عام الحلف سولانا. وتوسعت اهتمامات الحلف من الدفاع عن (الأراضي المشتركة) إلى الدفاع عن (المصالح المشتركة)، ما يسمح للحلف بالتورط في مناطق كثيرة في العالم مثل الشرق الأوسط، وكوريا وإفريقيا بحجة أنها تمس مصالح الحلف.

                إن قيام الحلف بقيادة أميركا بهذا الدور الجديد وسكوت المجتمع الدولي عليه يعتبر نقطة  تحول أساسية في العلاقات الدولية، بل تكريساً حقيقياً لما يسمى بالنظام العالمي الجديد، الذي بشّر به بوش بعد حرب الخليج ولم يتمكن آنذاك من وضع آليات لتنفيذه.

                إن استمرار اشتعال الحرب في البلقان وما يصاحب هذا الاشتعال من مضاعفات وآثار وظلال يساعد أميركا في إرساء دعائم جديدة في العلاقات الدولية ويبرز حلف الناتو كأولى هذه الدعائم. على أن إبراز حلف الناتو بشكل قوي في النظام العالمي وفي العلاقات الدولية لم يحجب بروز دعامة أخرى لذلك النظام ولتلك العلاقات لا تقل أهمية عن حلف الناتو إلا وهي مجموعة دول الثماني ـ وهي الدول الصناعية السبع أميركا، كندا، اليابان، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا وروسيا ـ بوصفها آلية جديدة فاعلة في تصريف الشؤون الدولية. ولقد تأكد دور مجموعة الثماني هذه في اجتماع قمة بون الأخيرة ثم في اجتماع وزراء خارجية الدول الثماني، فقد أعطيت دوراً سياسياً بارزاً في حل مشكلة كوسوفا كما كانت قد أعطيت أدواراً سياسية أخرى من قبل. إلا أن دور روسيا ضمن مجموعة الثماني لا يزيد عن كونه دور شاهد الزور الذي يقبل بما تريده أميركا، ولكن من خلال وضع شرفي يضع روسيا في مصاف الدول الكبرى، بينما النتيجة واحدة وهي أن موافقة روسيا في مؤتمر بون للدول الثماني على إدخال قوات عسكرية إلى كوسوفا، يؤكد أن حلف الناتو بقيادة أميركا أضحى منذ الآن ركيزة من أهم ركائز المجتمع الدولي.

                وببروز حلف الناتو كقوة عسكرية وسياسية جديدة، وببروز مجموعة الدول الثمانية على الساحة الدولية تم إضعاف دور الأمم المتحدة وسلب صلاحيات كبرى منها، إذ برغم أن عمليات الحلف سـتكـون تحت سـلطـة مجـلـس الأمن، إلاّ أنه وضعت استثناءات كما هو حاصل الآن في البلقان. وبات أمر المجتمع الدولي مقبلاً على وضع جديد لم يعهد من قبل.

ثالثاً:  لعبة الانتخابات في الجزائر

                بمجرد الإعلان عن فوز مرشح الجيش عبد العزيز بوتفليقة وهو المرشح الوحيد الذي خاض الانتخابات الرئاسية المزورة في 15/4/99 بدأ بوتفليقة حكمه بمغازلة أميركا فأرسل إشارات ودية إلى واشنطن ودعاها إلى تقوية علاقاتها الاقتصادية والفلاحية مع الجزائر، ولكن الإدارة الأميركية لم تتجاوب مع إشاراته فقد أعرب جيمس روبن الناطق باسم الخارجية الأميركية عن خيبة أمل الإدارة الأميركية من نتائج الانتخابات، وأعلن أن الجزائر قد أهدرت فرصة سانحة لعودة الديمقراطية، وركز روبن في بيانه عن الانتخابات الجزائرية على انسحاب المرشحين وضعف الإقبال على التصويت وعلى عدم وجود مراقبين دوليين وقال بأن مسعى الإدارة وما يعمل عليه سفيرنا في الجزائر يتمثل في تشجيع الديمقراطية وحكم القانون والإصلاح الاقتصادي.

                وهذا الموقف الأميركي يدل على أن أميركا غير راضية من أسلوب الجيش في التحكم في السلطة بالرغم من محاولة بوتفليقة استرضاء واشنطن بعرض بعض المنافع عليها. أما الموقف البريطاني من الانتخابات الجزائرية فهو على النقيض من الموقف الأميركي تماماً، فقد نقلت جريدة الشرق الأوسط في 28/3 عن دريك فاتشيت وزير الدولة للشؤون الخارجية قوله بأنه لم يجد من ضرورة لحضور مراقبين دوليين وقال: “إننا لا ندعو الجزائر للقيام بما لا تقوم به بريطانيا. كما لا أعتقد أنه يجب أن نشترط لإجراء انتخابات حرة ونزيهة حتماً ضرورة حضور مراقبين دوليين في الوقت الذي يستطيع العالم متابعة ما يجري في الجزائر عبر مراسلات الصحافة الدولية”، ثم قال: “إن العالم يعيش اليوم في عولمة، وليس من السهل الإفلات من انتخابات مزورة، وأكد على عهد جديد من العلاقات بين بريطانيا والجزائر، وأعلن بأن بريطانيا ستفتح سفارة جديدة في العاصمة الجزائرية مع حزيران المقبل كإشارة للتعبير في علاقاتنا بهم”.

                إن هذا التناقض الواضح بين الموقف الأميركي الذي أصـيب بخيبـة الأمـل مـن الانتخابات المزورة الخالية من مراقبين دوليين وبين الموقف البريطاني الذي أيد الانتخابات المزورة قبل الشروع بها يدل على اختلاف السياسات والمصالح الأميركية والبريطانية في الجزائر، فأميركا ومنذ بداية التسعينات رسمت خططها في الجزائر على أسـاس الانتخابات، فكانت الانتخابات محور سياساتها وأساس تدخلاتها، بينما بريطانيا كانت تركز على إيصال الجـنـرالات المـؤيديـن لها من زمـرة بومـديـن، أو ما يسمون «جماعة وجدة».

                وأما الموقف الفرنسي فهو وإن بدا أنه متفق مع الموقف الأميركي من حيث انتقاده لأسلوب إجراء الانتخابات، وبالرغم من مهاجمة بوتفليقة للموقف الفرنسي وتحذيره لفرنسا من التدخل في شؤون الجزائر إلا أن ثقل فرنسا اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وعسكرياً في الجزائر يجعلها لا تأبه بالديمقراطية والانتخابات الجزائرية لأن مصالحها تتعرض للأذى الشديد إن فقد الجيش السيطرة على السلطة. فجنرالات الجزائر خدموا في الجيش الفرنسي قبل الاستقلال، وتخرجوا في المعاهد العسكرية الفرنسية، ولهذا لا عجب أن أمدّتهم بالأسلحة في حربهم الاستئصالية ضد المجموعات المسلحة. وأما انتقاداتها للانتخابات المزورة فهي انتقادات شكلية وغير حقيقية.

                إن إجراء الانتخابات في الجزائر، وتزويرها للإتيان ببوتفليقة، وهو من زمرة بومدين، يشير إلى تنسيق العمل السياسي بين بريطانيا وفرنسا لمـواجـهـة النفـوذ الأميـركـي فـي القـارة الإفريقية. وقد خططت وزارتا الخارجية في كل من بريطانيا وفرنسا لتنسيق سياساتهما في إفريقيا، وفي هذا الإطار يندرج ترتيب زيارات مشتركة للديبلوماسيين البريطانيين والفرنسيين في الدول الفرانكفونية وهي المستعمرات الفرنسية السابقة، ودول الكومنولث وهي المستعمرات البريطانية السابقة.

                إن سيطرة العسكر على الحكم في الجزائر مستمرة منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، ومن غير المأمول أن تنجح أية محاولة انتخابية في تخليص الجزائر من حكم العسكر، فكل الرؤساء الذين تبوؤا الحكم في الجزائر قد أفرزتهم المؤسسة العسكرية. فبن بللا أول رئيس للجزائر قد أتى به الجيش للحكم، ولما سار مع عبد الناصر وأميركا خلعه الجيش وأتى بهواري بومدين الذي فهم أصول اللعبة وتعاون مع الجنرالات في الحكم وقربهم منه ومنحهم كل المزايا التفضيلية حتى أنه لم يكترث بإيجاد مجلس للنواب ولو مجلس شكلي. وبعد موت بومدين في أواخر السبعينات اختار الجيش الشاذلي بن جديد باعتباره أحد الجنرالات الأكبر سناً وسار بن جديد على نهج سلفه في البداية، إلا أنه وفي نهاية الثمانينات، وبعد تعرضه لضغوط أميركية شديدة سمح بالانفتاح على أساس التعددية ففازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فتحرك الجيش سريعاً بإسناد فرنسي وقام بعزل بن جديد وإلغاء الانتخابات، واستقدم محمد بوضياف من الخارج ونصّبه رئيساً للبلاد بحجة ما يمتلكه من رصيد (نظيف) في بداية الثورة الجزائرية. ولكن بوضياف لم يقبل بأن يكون مجرد دمية للجيش فحاول اللعب مع الجيش وبدأ بمحاولة محاربة الفساد المعشعش في المؤسسة العسكرية فقتلوه، وأتي بعلي كافي ونُصب رئيساً باعتباره من قدامى المحاربين ورئيساً لـِ (منظمة المجاهدين) وله ماضٍ مقبول على مستوى البلاد إلا أنه لم يتحمل طلبات الجنرالات فانسحب من الرئاسة بهدوء، وأخيراً وقع اختيار الجيش على اليمين زروال وهو عسكري متقاعد فعين رئيساً للبلاد، ولما حاول زروال أن يوجد له نفوذاً في الجيش وفي الشعب معاً وخاض انتخابات مفبركة سنة 1995م وفاز فيها بالطبع، حاول بعد فوزه أن يوسع من سلطاته في الجيش بتعيين ضباط تابعين له ومحاولة إبعاد الضباط المعارضين لسياساته اصطدم برئيس الأركان محمد العماري الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد وبرئيس المخابرات محمد مدين واحتدم الصراع بين الطرفين وغدا ظاهراً للعيان وأسفر هذا الصراع عن إزاحة أبرز جنرالين مواليين لزروال وهما محمد بتشين ومحمد بعبيش فخسر زروال المعركة ما اضطره إلى تقليص مدة ولايته فانسحب من الساحة انسحاباً مشرفاً بدلاً من إقالته وعزله. ووقع اختيار الجيش هذه المرة على بوتفليقة، فقد نقل الصحفي رياض الصيداوي في مقال له نشرته جريدة الأيام في 20/3/99م أن صحيفة لوكانار أنشينيه الصادرة في 16/2/99م ذكرت “أن مكالمة هاتفية تنصتت عليها الاستخبارات الفرنسية جرت بين الجنرال العماري والقائم بالأعمال العسكري في سفارة الجزائر في باريس الجنرال صنهاجي في يوم 4/1/99 مفادها أن العماري طلب من صنهاجي التدخل لدى صديقه سيد أحمد غزالي للتخلي عن ترشحه لمصلحة بوتفليقة”.

                فجنرالات الجيش الجزائري وأبرزهم العماري ومدين ومن وراء الستار الجنرال خالد نزار هم الذين يتحكمون بمقاليد السلطة وهم الحكام الحقيقيون للبلاد وهم وغيرهم من قبلهم الذين أتوا برؤساء الدولة الجزائرية السبعة بدءاً من بن بللا وانتهاء ببوتفليقة، وهذا أمر لم يعد خافياً على المطلعين، ولعل ما جرى في الانتخابات الأخيرة من مهزلة انتخابية لهو الأسوأ في كل ما جرى قبلهـا مـن حيـث التزويـر والتلاعب، فقد تأكد للمواطن الجزائري العادي وقوع التزوير على قدم وساق حتى أن المرشحين الستة الذين هم من الوسط السياسي نفسه الذي أتى منه بوتفليقة، قد اضطروا للانسحاب من الانتخابات ليحفظوا ماء وجوههم أمام منتخبيهم، فقد قال أحمد الإبراهيمي وهو من المرشحين الأوفر حظاً: “إننا نريد من الشعب أن يعين رئيسه وليس من مجموعة أشخاص”. ولذلك لم يكن غريباً أن يقاوم الجيش الجزائري بأركانه وجنرالاته وضباطه النفوذ الأميركي الذي يعني بالنسبة لهم إقصاءهم عن السلطة وإبعادهم عن الامتيازات التي يتـمـتـعـون بها، ولم يكن غريباً أيضاً أن تقف فرنسـا إلى جانب الجيش للدفاع عن مصالحها المتجذرة في الجزائر، وأن تقف معها بريطانيا لمواجهة النفوذ الأميركي الزاحف ليس فقط على الجزائر، بل وعلى كل دول الشمال الإفريقي والقارة الإفريقية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *