العدد 145 -

السنة الثالثة عشرة – صفر 1420 هـ – حزيران 1999م

حلقات في الفكر السـياسـي (2)

بعد أن تحدثنا في الحلقة السابقة عن حقيقة الدين وعن الناحية السياسية فيه، سنتحدث في هذه الحلقة ـ إن شاء الله ـ عن المجتمع وعلاقته بالدين. بدايةً نتساءل ما هو المجتمع؟ وهل هو مجرد مجموعة من الأفراد؟ وكيف تتكون المجتمعات؟ وما هي آلية تغيير المجتمعات؟ وهل مجتمعاتنا متماسكة وناهضة أم أنها متميعة منحطة؟ وما أسباب استقرار المجتمعات؟.

المجتمع هو مجموعة من الناس تربطهم علاقات دائمية. فمجموعة الناس بدون علاقات دائمية لا تشكل مجتمعاً ولو كانت آلافاً مؤلفة. أما مجموعة الناس التي تربطهم علاقات دائمية فإنها تشكل مجتمعاً ولو كانت بضع مئات، فالآلاف في سفينة ليست بينهم علاقات لا يشكلون مجتمعاً، والمئات في قرية صغيرة بينهم علاقات يشكلون مجتمعاً.

                فالذي يحدد إذن وجود المجتمع هو وجود العلاقات الدائمية، وهذه العلاقات الدائمية توجد بوجود المصالح بين الناس، ذلك أن الطاقة الحيوية الموجودة عند البشر تدفعهم إلى البحث والتنقيب عن وسائل إشباع جوعات هذه الطاقة، فينشأ عن ذلك مصالح تتطلب من الناس قضاءها باعتبار أن الإنسان منفرداً لا يستطيع إشباع كل حاجاته، ولا تقضى هذه المصالح إلا إذا اتفقت أفكار الناس على تلك المصالح، واتفقت معها مشاعر الفرح والحزن والغضب والرضا، فإذا توافقت تلك الأفكار وتلك المشاعر على المصالح،  وتوحدت الأنظمة التي تعالجها، وجدت العلاقات الدائمية. ولتوضيح ذلك نضرب المثال التالي: إن الطاقة الحيوية المتعلقة بغريزة النوع تدفع الناس لإنشاء علاقات مثل الزواج والبنوة والأبوة والأخوة. فإذا اتفقت أفكار الناس ومشاعرهم على أن الزواج بحسب الشريعة الإسلامية هو الذي يلبي لهم هذه المصلحة فينشأ عن ذلك علاقات دائمية بهذا النوع من الزواج وترضى عنه مشاعرهم، وتغضب إذا حصل الزواج على خلاف الشريعة؛ وهكذا تنشأ بقية العلاقات الدائمية بين أفراد المجتمع.

                فالمجتمع إذن هو العلاقات الدائمية التي تـنشأ بين ناسه، وهذه العلاقات الدائمية لا توجد إلا إذا توحدت عليها الأفكار والمشاعر والأنظمة، وبعبارة أخرى فالمجتمع هو مجموع الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة، وهو عينه الناس وما يربطهم من علاقات دائمية.

                بناءً على ما تقدم لا يمكن القول بأن المجتمع هو مجموعة الأفراد فقط، بل المجتمع هو مجموع الأفراد وما بينهم من علاقات دائمية. ولقد أخطأ الغرب عندما عرف المجتمع بأنه مجموع الأفراد، لأنه لم يرصد أهم ما يربط الأفراد ألا وهو العلاقات الدائمية، ولذلك أخطأ في كيفية تغيير المجتمعات، وكيفية إسعادها وإنهاضها، إذ اعتبر أن إسعاد الأفراد يسعد المجتمع، ولهذا وضع نظام الحريات العامة، فأعطى للفرد حرية التعبير وحرية الاعتقاد وحرية الملك وحرية السلوك. وهكذا كان المبدأ الرأسمالي مبدأ فردياً لأنه يخص الفرد بنظرته. وكان من جراء هذا التعريف الغربي القاصر للمجتمع، ومن جراء التركيز على الناحية الفردية، تحكمت حفنة جشعة نهمة من الأفراد في جمهرة الناس، وترتب على ذلك هيمنة الأفراد وسحق المجموع في المجتمع الواحد، وهيمنة دولة أو دول قليلة على بقية دول العالم، ما أدى إلى الظلم والاستعمار والاستكبار. كل ذلك ما كان ليحدث لولا الخلل الذي بدأ من فهم واقع المجتمع.

                وإذا أدركنا تعريف المجتمع وأنه يتكون من أربعة عناصر وهي الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة فإننا نستطيع أن نفهم آلية تغيير هذه المجتمعات، فلو كان المجتمع مجموعة أفراد فقط لكان التغيير يقتصر على الأفراد ولا يتعداهم إلى الجماعة والعلاقات، ولكن لما كان المجتمع هو هذه العناصر الأربعة، فإن التغيير ينبغي أن يشتمل عليها جميعها، فالتركيز يجب أن ينصب على الأفكار والمشاعر والأنظمة كما ينصب على الناس سواء بسواء. صحيح أن الأفراد هم الذين يحملون الأفكار والمشاعر وهم الذين ينفذون الأنظمة أو يضعونها، وأن المخاطب هو الإنسان، ولكن باعتباره جزءاً من المجتمع، فحين يتغير الفرد يجب أن تتغير معه علاقاته، وبذلك يكون تغيير الناس بما يحملون، أداة في تغيير العلاقات، وبالتالي تغيير المجتمع. وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قام بتغيير المجتمع الجاهلي وتحويله إلى مجتمع إسلامي. فقام ببناء الشخصيات بناءً متجانساً على أساس العقيدة الإسلامية، كما فعل في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فأوجد كتلة الصحابة الذين كانوا أداة لضرب الأفكار الوثنية الجاهلية وإحلال أفكار التوحيد والأفكار الإسلامية محلها، ولعزل المشاعر الجاهلية واستبدال المشاعر الإسلامية بها، وبذلك تغيرت الأفكار والمشاعر. وأخيراً قام بتحويل الأنظمة الجاهلية إلى أنظمة إسلامية في المدينة المنورة وبذلك تم تغيير الأنظمة. وتوج بذلك تحويل المجتمع من مجتمع جاهلي إلى مجتمع إسلامي. فنشأ على إثر ذلك السلطان الإسلامي، ووجد المجتمع الإسلامي المتميز في دار الإسلام، بعد وجود الدولة الإسلامية، والتي تم التمهيد لإيجادها ثلاثة عشر عاماً من الصراع الفكري الذي استهدف تغيير الناس بتغيير الأفكار والمشاعر والأنظمة.

                ولذلك كان أول وأهم ركن في تغيير المجتمع، هو إنشاء كتلة فكرية سياسية، لأن الدولة كيان تـنفيذي، تـنفذ مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي عند الناس، والمجتمع كيان، بما يسيطر عليه من مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات، وهو محل التنفيذ، ولا يستطيع تحويل الكيانين إلا كيان آخر مستقل عنهما، تتمثل الصفة الكيانية فيه في مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات، التي يحملها ويدعو لها، ويجب أن يستمر كياناً فكرياً واحداً بتوحد الأفكار والمشاعر، وبوحدة القيادة صاحبة الصلاحية، وهذا الكيان هو حزب سياسي فكري، يعمل بالطريق الفكري السياسي لصهر كيان الدولة وكيان المجتمع في كيانه، فتصبح الكيانات الثلاثة كياناً واحداً.

                لقد كانت الآلية التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تغيير المجتمعات آلية فعالة مؤثرة، أحدثت أعظم تحويل طرأ على البشرية في حياتها. فلقد أحال البشرية الغارقة في ظلمات الجهل والظلم والشرك والتخلف إلى بشرية يشع منها النور والهدى لمشارق الأرض ومغاربها. ولقد عبر عن هذه القفزة النوعية في تغيير المجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي ربعي بن عامر رضي الله عنه في مجلس رستم حيث قال: «إن الله إبتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها والآخرة».

                لذلك كان للمجتمع الإسلامي نكهة خاصة، ونسيج متناسق متكامل مترابط متعاضد ومتعاون، شبهه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»؛ وهكذا تحددت العلاقة بين الجماعة والفرد، فلا إذابة للفرد في المجتمع، ولا إهمال لمصلحة الجماعة، بالتركيز على مصالح الأفراد، وبذلك كان المجتمع الإسلامي متميزاً.

                بقيت مسألة وهي: هل مجتمعاتنا اليوم متماسكة وناهضة أم هي متميعة ومنحطة؟ وما هي عوامل استقرار المجتمعات؟.

                الحقيقة أن مجتمعاتنا اليوم وبكل أسف هي مجتمعات متميعة ومنحطة ولا وصف مميزاً لها، ذلك أنك ترى فيها مزيجاً من الأفكار وخليطاً من المشاعر، وتنوعاً في الأنظمة، ما يجعلها مجتمعات غير مستقرة ولا ناهضة. فالأفكار في مجتمعاتنا منها الغث ومنها السمين، فترى في المجتمع أفكاراً رأسمالية وأخرى اشتراكية إلى جانب بعض الأفكار الإسلامية. وتجد في المجتمع مشاعر كهنوتية إسلامية، ومشاعر وطنية وقومية وقبلية. وأما الأنظمة التي تـنظم علاقات الناس الدائمية فالكثير منها مأخوذ من القوانين الوضعية الأوروبية اللاتينية والجرمانية، والقليل مستمد من الأحكام الشرعية. وهكذا فإن مجتمعاتنا لا وصف لها سوى أنها مجتمعات غير إسلامية.

                والسبب الرئيس الذي أوجد هذه الميوعة وذاك التناقض، هو عدم بناء المجتمع على أساس العقيدة التي تعتقدها الأمة، وعدم بروز الأخوة الإسلامية بين أبناء الأمة الواحدة، ولذلك كانت عرضة للاهتزاز والتبديل.

                ومبدأ المسلمين الذي هو مصدر إشعاعهم ومقياس رفعتهم وقاعدة ارتقائهم وضمانة حاضرهم ومستقبلهم هو الإسلام باعتباره عقيدة ونظام حياة، حضارة وثقافة، فكراً وطراز معيشة، عبادة ومعاملة وسياسة.

                ذاك هو دعامة الاستقرار، وتلكم هي أسس النهضة والتغيير في المجتمعات.

                وما لم يجر بناء الأفكار والمشاعر والأنظمة على العقيدة الإسلامية، فلن تستقر مجتمعاتنا، ولن تنهض أمتنا، ولن تتبوأ مركزها الذي ارتضاه الله لها خير أمة أخرجت للناس، تحمل رسالة السماء الخاتمة إلى البشرية كافة، وهذا عمل لا ينهض به إلا كتلة متماسكة قوية، قامت على الفكرة الإسلامية، وتجسدت فيها أفكار الإسلام وأحكامه، وباعت نفسها في سبيل الله لإحقاق الحق، وإزهاق الباطـل، وإيجاد هذه الكتلة واجب بموجب القاعدة الشرعية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وواجب إيجاد الحياة الإسلامية لا يتأتى إلا بإيجاد هذه الكتلة الموصوفة بقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )@ فهي تدعو إلى الخير وهو الإسلام، وطريقها في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أولى بالحكام من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهذا هو الكفاح السياسي، ولذلك كان عمل هذه الكتلة هو الكفاح السياسي، بإبراز عدم إخلاص الحكام لأمتهم وعدم نجاعة حلولهم لمشاكل الناس، وعدم رعايتهم لشؤون الناس الرعاية الصحيحة، التي تفرضها عليهم مسؤوليتهم عن الناس.

                ولكي تبقى هذه الكتلة موحّدة، وبخاصة حين تباشر أعمال الكفاح السياسي، حيث تتعرض للملاحقة والتضييق والبطش والتعذيب، وقطع الأرزاق وربما قطع الأعناق، كان لا بد لها من قيادة واحدة، يأتمر الجميع بأمرها، وتكون لها صلاحية إمضاء الأمر، وتقرير الأعمال، وتبنّي الأفكار، ويحمل لها الجميع الثقة التامة، وإلاّ انفرطت الكتلة عند أول صدام جدي مع الفئات الحاكمة. وأصبح التشرذم طابعها، وعدم الانضباط سمتها، وعندها لا تكون قادرة على إحداث التغيير في المجتمع، لأنها أصبحت كيانات غير قادرة على تذويب كيان الدولة وكيان المجتمع في كيانها، وتبقى عندها الحاجة ماسّـة إلى إيجاد هذه الكتلة، ولا يكون العمل مع غيرها مبرئاً للذمة، بل يبقى الفرض في أعناق المسلمين جميعاً حتى يوجدوا هذه الكتلة، فمن عمل معها فقد برئ وسقط عنه إثم التقصير، ومن لم يعمل معها بقي تحت الإثم، حتى يتم إيجاد الحياة الإسلامية باستئناف تطبيق أحكام الإسلام عن طريق دولة الخلافة. ولهذا فإننا ندعو جميع الغيارى المخلصين مِن أبناء أمتنا الإسلامية أن يعملوا مع الكتلة المخلصة الواعية بطريق الكفاح السياسي، من أجل تغيير المجتمعات لتصبح مجتمعاً واحداً إسلامياً يستظل براية القرآن، وتسود فيه قيم الإسلام وأحكام الإسلام، ويحمل رسالة الإسلام إلى العالم، لتصبح طريقة الإسلام في العيش هي السائدة في العالم، (وما ذلك على الله بعزيز)، (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )@ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *