العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

ولاة عدل في تاريخ الإسلام

ولاة عدل في تاريخ الإسلام

 

قصي حسين آل فرج / الموصل

أمران متلازمان : أحكام الشريعة الغراء، وتنفيذها، منها ما يكون أداؤه عن طريق الأفراد كالصلاة والصيام ، ومنها ما يكون عن طريق الحاكم كالحدود ورعاية الشؤونن وكل منهما مبين في الإسلام، والذي يهمنا من الموضوع هو تنفيذ السلطان للأحكام المطلوبة منه التي تسمى ” رعاية شؤون الأمة ” ، فقد امتاز جميع الولاة والخلفاء بهذا الوصف، فكانت رعاية شؤون القضاة ؛ ولهذا فلا يجد الباحث الموضوعي خلال أربعة عشر قرنا أن الولاة أو الخلفاء قد تعبدوا بقوانين غير إسلامية.

ومن رجال هذه الأمة وحكامها السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الذي كان واليا عادلا رعى شؤون الأمة فأحسن رعايتها، وبقيت آثاره من المدارس والجوامع و ” الخانقات” وغيرها من مراكز البث والإشعاع للثقافة والعلوم الإسلامية التي رعاها شخصه الكريم، هذه الشخصية التي تربت على حب الإسلام فكرة وطريقة، وعلى اتخاذ الإسلام شرعة ومنهاجا، وقد تمثل ذلك في التزامه بالشريعة وأحكامها، وبطاعة الخليفة ، حتى وصفه المؤرخون بأنه : ” كان يتعبد بطاعة الخلافة”.

يذكر ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ” الكامل في التاريخ ج11 ص 181″ : ( كان نور الدين رحمه الله تعالى أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين) ولقد اتسعت ولايته فشملت الشام وديار الجزيرة ومصر .. وكان ذا اطلاع واسع بشؤون الأحكام التفصيلية ، وذا نظر ثاقب، ولا يتسرع في أحكامه ن مؤمن بأن شرع الله هو العلاج الناجع لا يحتاج إلى علاج من غيره حتى وإن استحسنه العقل، فقد نقل عنه أن بعض العمال ” حكام أجزاء الولاية” رأوا في عدم إيقاع نور الدين العقوبة إلا بعد التثبت من البينة، رأوا في ذلك عدم الوصول إلى أرباب الفساد الذين يقترفون الجرائم في أماكن بعيدة لا بينة ممكنة فيها. ورأوا أن يأخذوهم بالظن قائلين” إذا أخذ المفسدون مال إنسان في البرية فمن يجيء يشهد له ” وأرادوا أن يستندوا إلى العقل دون الشرع في الوصول إلى العقوبة ، وطلبوا من الشيخ عمر الملاء ( وهو الرجل الزاهد الذي كانت صنعته أن يملأ تنانير الجص ويتقوت بها في مدينة الموصل، وهو الذي أشرف على بناء الجامع النوري الكبير فيها) وقالوا له :” إنه قد كثر أرباب الفساد، ولا يستقيم الأمر إلا بشيء من ” السياسة” كالقتل والصلب، دون الالتزام بالبينات الشرعية”، وأضافوا: ” وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجيء يشهد له؟” فلو كتبت إلى السلطان نور الدين أن يأذن لنا في شيء من ” السياسة” ، فكتب الشيخ عمر الملاء للسلطان نور الدين ناقلا ما قالوه ليرى رأيه. فقلب السلطان نور الدين كتابه ،وكتب على ظهره : ” إن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم، وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه كامل فيها، ولو علم أن الشيعة تحتاج إلى زيادة لإتمام المصلحة لشرعه، فما لنا حاجة إلى زيادة على ما شرعه الله تعالى . أهـ” فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملاء جمع أهل الموصل وأقرأهم الكتاب، فعرفوا أن ما قاله السلطان نور الدين هو الصواب، وأن الصلاح إنما يكون بالعمل بالشريعة وفق بيناتها.

وقال زيني دحلان في الفتوحات الإسلامية عن الشيخ عمر :” وكان نور الدين رحمه الله لا يفعل شيئا من الأعمال إلا بنية صالحة”. فلما علم الشيخ أن نور الدين يخرج بالعساكر، ويجرون الخيل في صورة اللعب، يريد بذلك تمرين الخيل والعسكر على الكر والفر فكتب إليه الشيخ عمر ” ما كنت اظنك تلهو وتلعب وتعذب الخيل لغير فائدة بينة” ، فكتب إليه نور الدين: ” والله لا يحملني على ذلك اللهو واللعب ، وإنما نحن في ثغر والعدو قريب، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ومتى كانت الخيل على مرابطها كانت جماما لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضا بسرعة الانعطاف والطاعة لركابها في الحرب” ، أي أنه كان يريد الجند وخيلهم على استعداد دائم لأنهم على الثغور.

وقال ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته (ج10 ص 248): ( كان يميل إلى التواضع ومحبة العلماء وأهل الدين، وكاتبني مرارا، وكانت سيرته أصلح بكثير من الولاة، والطرق في أيامه آمنة والمحامد له كثيرة، وكان يتعبد بطاعة الخلافة).

وقد كان لنور الدين شرف القضاء على ” الخلافة ” الفاطمية التي كانت خارجة على الخليفة العباسي الشرعي، وبذلك أعاد اللحمة للخلافة في بغداد، فأرسل إلى صلاح الدين بتنفيذ ذلك، وأن يتبعوا مصر إلى الخليفة العباسي ” المستضيء” الذي كان ذلك الوقت ، وهو الذي خلفه فيما بعد الخليفة الناصر العباسي حيث حررت القدس من الصليبيين في وقته بقيادة صلاح الدين بعد أن أعيدت اللحمة إلى الخلافة.

لقد نفذ صلاح الدين أمر نور الدين وأنهى ” الخلافة” الفاطمية الخارجة على الخلافة الشرعية ببغداد، وأعيدت الخطبة في الجمعة إلى الخليفة العباسي، وكان ذلك في أول المحرم سنة 467هـ.

ولما وقع ذلك ، كتب العماد الكاتب عند السلطان صلاح الدين في مصر، كتب إلى نور الدين يخبره بذلك قائلا:

قد خطبنا للمستضيء بمصر *** نائب المصطفى إمام العصر

ولدينا تضاعفت نعم الله *** وجلت عن كل عد وحصر

واستنارت عزائم الملك العا*** دل نور الدين الهمام الأغر

رحم الله نور الدين وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *