العدد 246-247 -

العددان 246-247، السنة الواحدة والعشرون، رجب وشعبان 1428هـ، الموافق آب وأيلول 2007م

إمبراطور أرخص من كلب!

إمبراطور أرخص من كلب!

 

بقلم أبو عبد الله الشرفاء – أكناف بيت المقدس

إن تاريخ الدولة الإسلامية حافل بمواقف العزة والكرامة، حتى في تلك الظروف الصعبة التي مرت على المسلمين، سواء أكانت تتعلق بفرقة داخلية كما كانت الحال عندما خرج الفاطميون عن الخلافة واستولوا على حكم مصر والشام والحجاز واليمن، وأعلنوا فيها دولة رغم وجود الخلافة العباسية صاحبة الشرعية وقتذاك في حكم المسلمين،أم كانت فترة صعبة تتعلق بغزو بلاد المسلمين واحتلالها كما كانت الحال إبان الصليبيين والتتار، ولكن على الرغم من ذلك وحتى في أحلك الظروف التي انتابت المسلمين، والنكسات التي كانت تحل بهم، إلا أن الأمة ما برحت تنجب العظام من الرجال، ليس منهم فحسب صلاح الدين الأيوبي، بل وقل منهم أيضا القائد السلجوقي ” ألب أرسلان” ، ذلك الصنديد الذي تولى احدى ولايات الخلافة العباسية في بلاد الأفغان، وإيران،وأجزاء من الأناضول ما بين عام 1060م و 1072م، ومعنى اسمه بالتركية ” الأسد الباسل” .

إن بطلنا ” الأسد الباسل” كان همه أن يسدد ضربة موجعة للدولة البيزنطية تشغل بها حينا من الدهر، ريثما يقوم هو بمصلحة كبرى تتوحد فيها كلمة المسلمين وبلادهم، بعد إسقاط الدولة الفاطمية التي فرقت الأمة ومزقتها شر ممزق،وشقت عصا الطاعة، ما جعل الكفار يطمعون في بلاد المسلمين كما هو حاصل الآن في هذه الحقبة العصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية، حيث يتكالب الكفار عليها ، ويتجرؤون على دينها ونبيها في وقت غفلت الأمة الإسلامية عن أسباب عزتها وسؤددها، كما غفلت عن رجالها المخلصين الأحق بقيادتها، نعم هذه هي الحال التي بات المسلمون يعانون الآمها، فبشيء من هذه الأحوال السيئة تعرض المسلمون عبر تاريخهم لحملة صليبية، وبيزنطية، وتترية. فهذه دولة بيزنطة أخذت تتأهب لغزو بلاد المسلمين، فوجدت ضالتها في قائدها العسكري الشاب ” رومانوس ديوجين” الذي لمع نجمه بعد ثلاثة انتصارات متتالية على بعض أمراء المسلمين، فاختاروه إمبراطورا على دولة بيزنطة، وخرج في جحافل أمثال الجبال في نحو من أربعمائة ألف مقاتل ، لا يدركهم الطرف ، كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، كلما مر ببلد من بلاد المسلمين أقطعها بطارقته، وقال هذه لك يا فلان، وهذه لك يا فلان، يوزعها عليهم حتى وزع بغداد عاصمة الخلافة، وقال للذي وهبه بغداد – وهو يأمل أن ينتصر فيوزع البلاد كما وعد – أستوص بالخليفة خيرا… أستوص بالشيخ الفلاني، ارفق بفلان، وهو يزدري بذلك المسلمين. عند ذلك نهض بطلنا السلجوقي ” الأسد الباسل ” فأسرع مستغلا خفة حركته لقلة جيشه، وذلك لنجدة المدينة المحاصرة ” ملاذكرد” والتقت قوات الاستطلاع الإسلامية بطلائع الروم، وكانوا من القبائل الروسية، فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي ” بازيلكوس” في الأسر.

ورغم هذا الانتصار المشجع، إلا أن ” ألب أرسلان ( الأسد الباسل)” الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين جيشه وجيش البيزنطيين، أرسل إلى ” رومانوس” يطلب الهدنة. ولكن هذا الطلب جعل ” رومانوس” يغتر بكثرته، وتفوقه في العدد والعدة، ورد على طلب السلطان بان قال : ” لا هدنة إلا في الري” والري هي عاصمة السلجوقيين، وهذا يعني رفض الطلب والإصرار على الحرب، وإسقاط الري في أيدي البيزنطيين أولا.

وكان من عادة السلطان ” ألب أرسلان” أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد؛ لما لهم من أثر في تحفيز الروح الجهادية في جيش المسلمين، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير ” أبو نصر محمد بن عبد المالك البخاري” الذي قال ل ” ألب أرسلان” هذه العبارة الرائعة: ” إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون فيها الخطباء على المنابر ، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر”.

وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة عام 463 هـ الموافق 26 آب 1071م. خرج القائد ” ألب أرسلان” رحمه الله في خمسة عشر ألف مجاهد في سبيل الله فقط، وصلى بالناس، وبكى خشوعا وتأثرا، ودعا الله عز وجل طويلا، ومرغ وجهه في التراب ، تذللا بين يدي الله ، واستغاث به، ثم لبس كفنه ، وتحنط، وعقد ذنب فرسه بيديه، قم قال لجنوده: ” أنا صابر في هذه الغزاة صبر المحتسبين، وملاقيهم، وحسبي اله عز وجل ، من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان ها هنا إلا الله ” ثم أعلن تخليه عن الملك في ميدان المعركة تواضعا لملك الملوك، قالوا : نحن معك تبعناك وأعناك فافعل ما تريد، ثم كان قد لبس الكفن الأبيض، وتحنط أي وضع من الطيب ما يوضع للميت، ثم امتطى جواده، ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة: ” إن هزمت فإني لا ارجع أبدا، فإن ساحة الحرب تغدو قبري” . وقال : ” ليودع كل واحد صاحبه” . فودع كل واحد من جيش المسلمين صاحبه، وتواعدوا على الموت. وبهذا المشهد الرهيب الذي تخشع أمامه أشقى النفوس استطاع القائد ” ألب أرسلان” أن يحول خمسة عشر ألف جندي إلى خمسة عشر ألف أسد كاسر ضار، صاروا على قلب رجل واحد. أرأيتم ماذا تفعل العقيدة الإسلامية حين ترسخ في قلوب الرجال؟ أرأيتم اذا تفعل الوحدة والاجتماع للقيام بأحد الفروض الجليلة؟ أرأيتم ما يفعله القائد المسلم حين يسلم أمره لله. ولله در القائل:

كونوا جميعا يا بني إذا أعترى **** خطب ولا تتفرقوا آحادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا *** وإذا افترقن تكسرت آحادا

وعند وقت الزوال من يوم الجمعة المبارك في الساعة المباركة ، اصطدم الجيشان و” ألب أرسلان” على رأسه جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور، ودارت معركة طاحنة في منتهى العنف حاول البيزنطيون خلالها حسم المعركة مبكرا مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل ، حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاق وذلك عند غروب الشمس.

ودارت رحى الحرب التي لم تكن **** سوى مثاني رعب بل أقل وأقصر

وكـــــان مع النصر المحقق موعد *** فلم يتقدم لا ولم يتــــــــــــــــــــأخر

وطارت رؤوس الكفر في كل وجهة *** وأشلاؤها من حـــــــــــولها تتبعثر

ثم حاول ” رومانوس ” الانسحاب إلى الخلف قليلا للراحة ومواصلة القتال في اليوم التالي، وعندها انتهز ” الأسد الباسل” الفرصة وشد بكامل جيشه على جيش البيزنطيين ، حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة انسل فيها فرسان الإسلام إلى قلب الجيش اليزنطي، وأمطروهمبوابل من السهام المميتة. فوقعت مقتلة عظيمة، وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضا، وركبوا بعضهم بعضا، وفرت الفرق الفرنجية المرتزقة من أرض المعركة، ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم الإمبراطور ” رومانوس” نفسه ، أسره مملوك من مماليك المسلمين، لا بل أسد من أسود المسلمين. فلما جيء به إلى القائد ” ألب أرسلان ” وفي عنق هذا الإمبراطور الذي رفض الهدنة اعتزازا بكثرة جيشه واستخفافا بقلة عدد المسلمين، في عنق هذا الإمبراطور حبل! ، فقال : ما تصنعون بي؟ قال ” ألب أرسلان”: ما تظن أني فاعل بك؟ قال : لا أشك أنك تقتلني. قال القائد ” ألب أرسلان” ؛ أنت أقل في عيني من أن أقتلك ، اذهبوا به فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه ينادى عليه بالدرهم فما يشتريه أحد من المسلمين، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل من المسلمين قال: إن بعتمونيه بهذا الكلب الذي معي اشتريته!!

ثم جاؤوا بالجندي الذي أسر الإمبراطور ومعه الكلب الثمن وبملك البيزنطيين إلى القائد ” ألب أرسلان” مجرورا بالحبل ، فأخبروه بأن هذا الجندي المسلم يريد شراءه بالكلب، فقال ” ألب أرسلان” : الكلب خير منه، وهذا لا ينفع، لكن خذوا الكلب وادفعوا له هذا الكلب!! ثم ضربه بيده ثلاثة مقارع ووضع قدمه على هامة ” رومانسو” تحقيرا وإذلالا له . وجعل القائد المسلم ن الأسد الباسل ” ألب أرسلان” يقبل الأرض باتجاه بغداد حيث خليفة المسلمين وإمامهم الخليفة العباسي لإظهار عز الإسلام وأهله، ثم أمر بإطلاقه وجعل الكلب قرينا له مربوطا في عنقه، وأوصله إلى بالده نظير فدية كبيرة، وفك أسر كل الأسرى المسلمين في سائر بلاد الروم، وإلزامه بالقسم بأغلظ الأيمان على عدم العودة مرة أخرى لقتال المسلمين. فلما رأى الروم ما حل بملكهم عزلوه عن الملك وكحلوا عينيه، أو غوروهما وأذهبوهما بعد أن رأوا أنه لا يساوي شيئا!!

ونحن هنا لا نذكر هذه الحوادث والمواقف العظيمة من باب الترف والتسلية، ولا حتى من باب الاعتكاف على أمجاد أسلافنا، بل نوردها لنبين كيف نشأ بالإسلام رجال كانوا خير الرجال ، وأمة كانت خير الأمم؛ لنبين للمسلمين تلك الدولة التي أقيمت بالإسلام كيف كانت لها عزة تطال عنان السماء ؛ حتى تستبصر أمتنا طريق عزتها الذي لن يكون إلا بما كان باتخاذ الإسلام أساسا لحياتها، وترجمة ذلك ولن تكون إلا بدولة الخلافة الراشدة التي تستنفر في الأمة كل همة فهل من مجيب؟؟

يقول الحق سبحانه : ” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) الأنفال24.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *