العدد 191 -

السنة السابعة عشرة – ذو الحجة 1423هـ – شباط 2003م

الدِّينُ والإبداع

الدِّينُ والإبداع

 

         نعني بالدين الإسلام، لقوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران/19]، أي الدين المقبول عند الله، وهو دين القيمة، وإن كان يمكن إطلاق لفظ الدين على غير الإسلام بدليل قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)  [الكافرون]. ونعني بالإسلام الدين الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

ــــــــــ

         أما الإبداع والابتداع فهما لفظان مترادفان في أصل الوضع اللغوي، قال في اللسان: [بدعه وابتدعه: أنشأه وبدأه، أبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال]، ثم قال: [أكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم]. وقال في العين: [البَدْع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة، ابتدعت: جئت بأمر مختلف لم يعرف].

         فالإبداع مصدر أبدع، والبدْع مصدر بَدَع، والابتداع مصدر ابتدع. فما هو موقف الإسلام من الإبداع؟ أي ما هو موقفه من الإنشاء ابتداءً لا على مثال؟

         فالإبداع إما أن يكون في اللغة أي أن يبدع في وضع الألفاظ والتراكيب التي تصلح أوعية للأفكار وأداة للتخاطب، كالذين وضعوا العربية فيصح أن يقال عنهم أبدعوا العربية، وكذلك سائر اللغات، أما من يأتي بعدهم، أي بعد الذين وضعوا اللغة فإنهم في لغتنا العربية لا يضعون، فقد انتهى الوضع، ولكن بقي التعريب والاشقاق والمجاز، فمن عرب أو اشتق أو تجوز لا على مثال أي لم يسبق إلى التعريب أو الاشتقاق أو المجاز المعين ولكن بنفس الشروط والقواعد التي وضعتها العرب يقال إنه أبدع في اللفظ الذي عربه أو اشتقه أو تجوز فيه.

         أما أن يأتي بلفظ قد وضعته العرب لمعنى معين فيطلقه على معنى غيره، فهذا ليس إبداعاً بل هو جهل، فمثلاً لفظ الأدب وضعته العرب كما ورد في اللسان [للظُرف وحسن التناول، وسمي أدباً لأنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح] وما دام الأدب هو الظرف، فالأديب هو الظريف، وفي تعريف الظريف قال في اللسان: [الظريف البليغ الجيد الكلام.. كأنه جعل الظريف وعاء للأدب ومكارم الأخلاق]؛ فإن أطلق أحدهم لفظ الأدب على قصيدة أو رواية أو قصة تحوي أفكاراً تشكيكية أو أفكار كفر غير منقوضة، أو دعوة إلى الإباحية والتحلل من الأحكام ومنها الأخلاق، ثم أطلق على الكاتب لهذه الأمور بأنه أديب، فإن كان لا يعرف المعنى الذي وضعته العرب للفظ الأدب والأديب فهو جاهل، وإن كان يعلم فهو مموه مضلل، هذا إذا لم يكن زنديقاً يحتج بكتاب الله على ما ذهب إليه فيقول: وردت في كتاب الله أفكار كفر على لسان إبليس وأقوام الأنبياء، فما يرد على ألسنة أبطال الرواية أو القصة يشبه ما ورد في القرآن، ولا ينسب كلامهم إلى الكاتب بل ينسب إلى هذه الشخصيات الموهومة المتخيلة، كما أنه لا ينسب كلام إبليس أو الأقوام الكافرة إلى الله، فيقال لهذا المموه الجاهل – إن لم يكن زنديقاً – لم يرد في كتاب الله العزيز حكاية واحدة على لسان إبليس أو الكفار إلا منقوضة أو قد بيّن الله سبحانه وصفها أو وصف قائلها ومصيره، وبين الموقف منها، أما ما يرد في القصص والروايات والمسرحيات فإنه غفل من أي موقف، خال من أي رد، فكيف يقارن هذا بذاك ثم يسمى أدباً؟! ولنستعرض بعض ما ورد في القرآن العظيم على لسان إبليس ورده سبحانه عليه:

         l (قال يا إبليس ما لك إلا تكون مع الساجدين @ قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون)  [الحجر] فرد عليه سبحانه: (قال فاخرج منها فإنك رجيم @ وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) [الحجر].

         l (قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين @ قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) [الأنعام].

         l (لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً @ ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناًيعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراًأولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً) [النساء].

         أما ما ورد من كلامه سبحانه على لسان الأقوام المكذبة فهو كثير نكتفي منه بما يلي: قال جل من قائل:

         l (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) [البقرة].

         l (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم @ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين) إلى قوله تعالى: (فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) [الأعراف].

         l (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) إلى قوله تعالى: (فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [الأعراف].

         l (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) إلى قوله تعالى: (وقيل بعداً للقوم الظالمين) [هود].

         ومن تتبع القرآن الكريم يجد من المقطوع به أن الله سبحانه بيّن الموقف الصحيح من إبليس والأقوام المكذبة أو رد عليهم ونقض كلامهم، ولم ترد أقوالهم مطلقاً دون تسفيهها أو الرد عليها أو بيان الموقف منها، أو بيان عاقبة قائلها. فكيف يأتي من يسمي المسرحيات والقصص والروايات والقصائد أدباً ويقارنها بالقرآن الكريم زوراً وتمويهاً وتضليلاً؟! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً) [الكهف].

         أما موقف الإسلام من هذه المؤلفات ومؤلفيها ومادحيها ومنتحلي المسوغات لها فهو ذو شقين: شق يتعلق بنا كمسلمين أفراداً، فعلى المستطيع أن ينكر ويدحض بالدليل والبرهان، وشق يتعلق بالدولة فتؤدب وتعزر من يستحق التعزير وفق الأحكام الشرعية. والدليل على التعزير فعل عمر مع صبيغ إذ ضربه ونفاه وأمر الناس بمقاطعته ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً، ولما حسن إسلامه بعد عام أذن للناس بمخالطته، وكل ما فعله صبيغ هو السؤال عن الذاريات ذرواً وأشباهها، فلم يجبه عمر كلاماً وإنما كان جوابه الضرب بالجريد على رأسه.

         هذا هو النوع الأول من الإبداع والابتداع في أصل وضع اللغة. أما النوع الثاني من الإبداع أو الابتداع فيكون في ما ينفع الناس من أفكار صحيحة وعلوم نافعة، وهذه يعبر عنها بأقوال، والأقوال إما أن تدون في كتب، أو تبقى دون تدوين يتناقلها الناس ويروونها. فمن الإبداعات الممدوحة ما بدأه الشافعي من علم الأصول والخليل في اللغة وجابر بن حيان في الجبر والإدريسي في الجغرافيا، وتقي الدين النبهاني في كتاب التفكير ونقض الاشتراكية الماركسية، وكذلك من اخترع المنجنيق والدبابة، والطائرة والصاروخ والمدفع، والبنسلين والكهرباء، والتلفون والتلفاز والإنترنيت، وسائر المكتشفات العلمية في كافة العلوم التي لا تتعارض مع الشرع، فهي مما يمدح، بل يعتبر من فروض الكفاية، التي قصر فيها المسلمون، وقصرت فيها الدول القائمة في العالم الإسلامي، فالمسلمون آثمون حتى توجد الدولة التي تقوم بهذه الفروض، ولا ينجو من الإثم إلا من تلبس بالعمل لإقامة هذه الدولة. وهناك أقوال يمكن تصنيفها في الابتداعات بالمعنى العرفي الذي ذكره ابن منظور في اللسان. وهذه الأقوال منها ما يُخرِج من الملة، ولا أريد الخوض في تكفير المسلمين لكن من شاء أن يطالعها فليرجع إلى كتاب مقالات الإسلاميين، وكتب الفرق للشهرستاني وابن حزم والبغدادي، والشفا لعياض وغيرها. فسيجد فيها أقوالاً تصطدم بالعقيدة الإسلامية اصطداماً بيِّناً مثل تأليه أفراد من البشر أو إنكار أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأن الإسلام خاتم الرسالات أو إنكار آيات من القرآن أو تحريفها وأمثال ذلك مما جاء على لسان الفرق التي كفرت مثل الدروز والإسماعيلية والنصيرية والقاديانيين والبهائيين. ومنها ما لا يُخرِج من الملَّة ولكنه حرام يوقع في الإثم العظيم مثل (الإسلام لم يطبق بعد عهد الراشدين) و(الحاجة تنزل منزلة الضرورة) و(المرأة يجوز أن تتولى الحكم) وأمثالها.

         وخلاصة القول أن الإسلام دين يفتح الباب على مصراعيه للإبداع ويوصده أمام الابتداع، ومن الخطأ أن يقال إنه يمنع الإبداع، بل قد يكون هذا القول من النفاق والزندقة إذا أدرك صاحبه واقع ما يقول وحكم الله فيه. فهل يعقل أو هل يسوغ في ديننا أن نجعل بيت المعري في القرآن إبداعاً إذ يقول:

تَلَوْا بَاطِلاً وَجَلَوْا صَارِماً               وَقَالُوا صَدَقْنَا فَقُلْنَا نَعَمْ

         كما نعتبر بيت بجيد بن عمران الخزاعي فنسوِّي بين البيتين:

وَهِجْرَتُنَا في أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا              كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍٍ وَكَاتِبِ

         فهل يحل لمن في قلبه ذرة من إيمان أن يجعل البيتين صنواناً في الإبداع، إذ كيف يجتمع الكفر والإيمان؟ ما لكم كيف تحكمون؟! .

ع.ع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *