العدد الثاني -

السنة الأولى، العدد الثاني، ذو القعدة 1307 هـ، الموافق تموز 1987م

الوحدة أين تجب وأين لا تجب

كلمة الوحدة ردّدها كثير من الناس، حتى صارت تعتبر مطلباً ملحّاً عند جميع الفئات. فإلى أي حد تكون الوحدة الإسلامية مطلباً، وإلى أي مدى تكون المطالبة بها من باب التعجيز وبث اليأس في النفوس؟.

تعتبر الوحدة مطلباً ملحاً عند كافة الفئات على اختلاف خلفياتهم، لأن فيها تحقيقاً لأهداف يسعى إليها. فصاحب الميول القوميّة يطالب بالوحدة القوميّة، وصاحب الميول الوطنية يطالب بالوحدة داخل الوطن، والمسلم يطالب بالوحدة الإسلامية لأن دينه يأمر بذلك. لكن السؤال الذي يرد هو: متى تكون الوحدة الإسلاميّة مطلباً، ومتى تكون من باب بث اليأس في نفوس الأمة، وبالأخص نفوس الدعاة إلى الإسلام منهم؟

بقلم: سليم ثابت

وحدة الجيش:

وإذا استعرضنا الأبواب التي تجب فيها الوحدة نجد أنها تتمثّل في وحدة الجيش ووحدة القيادة ووحدة الإمارة أو الخلافة. فالجيش هو رمز القوّة، والقوة لا تتحقّق مع الفرقة والتشرذم وتعدد الأمر من خلال تعدّد الرؤوس. وتكون الوحدة أكثر وضوحاً من خلال المعركة، حيث يلزم توحيد القرار وتوحيد أصحاب الرأي في شخص قائد واحد، حتى لا يقع الجند ضحيّة تعدد الأمر وتناقضه، بين آمرٍ بالانسحاب وآمر بالاقتحام وثالثٍ ينتظر الأوامر. وهنا تبرز أهمية وحدة القرار ووحدة الأمة من خلال وحدة صاحب الأمر، وقد علمنا ذلك رب العزّة سبحانه وتعالى من خلال القرآن المنزل على رسوله الكريم حين قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ). [الصف: 3]. وتبرز وحدة القرار من خلال مصدره الواحد الذي أمرنا الشرع بإطاعة أوامره. قال تعالى في سورة النساء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). [الآية: 59].

وحدة الإمارة:

ووحدة القائد أو الإمام تبدو واضحة تمام الوضوح من خلال الحديث الشريف. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». [رواه مسلم]. ولو جاز أن يكون الخليفة أكثر من واحد لما جاز قتل الآخر. فوحدة الأمة تتمّ بوحدة القائد، كما أن وحدة الجيش تتم بوحدة القيادة، وخوض المعركة تلزمه وحدة القوى المشاركة فيها، ووحدة القرار الصادر لأبطالها مع التنسيق الكامل بين جميع الوحدات المشاركة فيها، ويمكننا تسميتها وحدة القوة، أي وحدة جميع العناصر البشرية والمادية والمعنوية التي تتألف منها هذه القوة. ففي هذه الأمور السالف ذكرها تبدو الوحدة مطلباً ملحاً بل واجباً بدليل النصوص الشرعية.

ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن وحدة الأمة أصل، وتفرقها استثناء. قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]. وكذلك وحدة الدولة أصل وانقسامها استثناء، ووحدة الجيش أصل، ووحدة المجاهدين أصل. وإذا وقع خلاف الأصل فمعنى ذلك أنّ الموضوع برمّته بحاجة إلى علاج، والعلاج لا يتم بالمسكّنات وإنما بإعادة الأمر إلى أصله، وليس بأنصاف الحلول أو الحلول الترقيعية، وإنما بالحلول الجذرية الكاملة.

وحدة الاجتهاد…

أما الشق الآخر من البحث وهو عدم وجوب الوحدة ولا الاتحاد فهو فيما يتعلق بالاجتهاد والمجتهدين وتلامذتهم ومقلديهم، فالشّرع لا يطلب من الشافعية مثلاً أن يتّحدوا مع الأحناف ولا يطلب منهم التنازل عن آرائهم واجتهاداتهم بعضهم للآخر، بل يبقى كل فريق على رأيه واجتهاده في المسألة الواحدة حتى يتبين له دليل أقوى فيأخذ بالرأي الأقوى في هذه المسألة ولا يغير اجتهاداته كلها ولا مذهبه كله. وهذا الأمر ينطبق على كل فرد أو مجموعة أو كتلة عندها آراء واجتهادات مستندة إلى أدلة من النصوص. فهي ليست مجبرة على التخلي عن فهمها للنص الشرعي لمجرد دعوة الآخرين لها للتخلي عنه، لأن فهمها للنص الشرعي واجتهادها أصبح حكماً شرعياً في حقها لا يجوز مخالفته إلا إذا ورد اجتهاد آخر دليله أقوى. ومن يدعو إلى توحيد الاجتهادات فإنما يدعو إلى مستحيل، لأن طبيعة الإنسان وطبيعة الشرع تؤكد ذلك، فالناس تختلف عقلياتهم وقدراتهم وخلفياتهم وتبعاً لذلك تتعدد استنباطاتهم من النصوص. وطبيعة النصوص الشرعية تتصف بأنها قابلة لأن تُفهم بأوجه مختلفة فمنها ما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، ومنها ما هو ظني الثبوت وظنيّ الدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت وظنيّ الدلالة أو ظنيّ الثبوت قطعي الدلالة. وكل ما هو ظنيّ فبذور الاختلاف تكمن في داخله لكونه ظنياً، ومعنى ذلك أنه يحمل أكثر من معنى وأكثر من رأي.

وحدة التكتل:

لذلك فإنها ليست غيرةً صحيحة أو صائبة على الإسلام أن يُطلب من الفئات أو الكتل أو المذاهب التي تستند إلى اجتهاد ورأي شرعي أن تتخلى عن اجتهادها لتتّحد وتلتحم في غيرها، بدعوى أن غيرها يمثل الحركة الأم أو الكتلة الأم، بل العكس هو الصحيح، حيث أن تعدد المجتهدين هو دليل صحة وعافية في الأمّة الإسلامية وهو دليل حيوية وغَيرة على الإسلام لأن باب الاجتهاد مفتوح إلى يوم القيامة، ولا يجوز لشخص ولا لسلطة أن تغلقه تحت أيّ عذر وبناء عليه، فإنّ تعدد الكتل والجماعات التي تقلد هؤلاء المجتهدين هو دليل عافية وحيوية. وطالما كلّ كتلة تستند إلى دليل شرعي، فإن مواقفها وأقوالها وأعمالها شرعيّة، وليس مطلوباً البتة أن تتخلى أيّة فئة عن اجتهادها لاجتهاد غيرها بدعوى الوحدة، فالوحدة حاصلة أصلاً بوحدة العقيدة ووحدة الجيش، وبوحدة المشاعر وبوحدة النظام المطبق على أبناء الأمة، ولا تكون الوحدة بتوحيد اجتهادات المجتهدين ولا بضمّ مقلدي مجتهد إلى مقلدي مجتهد آخر حتى تحصل الوحدة وتحصل القوّة، لأنّ القوة تحصل من شدّة التمسّك بالرأي المستنِد إلى دليل لأنّه شرع، ولأن التمسّك بهذا الرأي هو حرص وغيرة على الإسلام، والتخلي عنه بسهولة تفريط وتقصير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *